رئة العراق الثقافية ومنبرها الإعلامي

شارع المتنبي.. أعرق المعالم التراثية في بغداد

عبد الرحمن مظهر الهلوش


بالرغم من مرور تسعة قرون على امتداده بمحاذاة دجلة، فما زال شارع المتنبي يعتبر أيقونة بغداد الثقافية، المكان الوحيد الذي لم تصبه الشيخوخة، ويُعدُّ الشارع الأشهر في العراق من الناحية التاريخية، ويجمع كل الثقافات العراقية المتنوعة.

 

عبق التاريخ

يعود تاريخ هذا الشارع إلى العصر العباسي في القرن التاسع عندما كان مكاناً للتأليف والترجمة، فقد اختزن تاريخها وتحوّلاتها بين مكتباته وأزقته ومطابعه، رغم تبدّل العهود. سمّاه العبّاسيون "درب زاخا" وهي مفردة آرامية الأصل أو سوق الوراقين. وسمّاه السلاجقة "شارع الموفقية" نسبة إلى مدرسة الموفقية الكائنة فيه وقتها. بينما أطلق عليه العثمانيون اسم "الأكمكخانة"؛ أي شارع المخابز العسكرية لوجود تلك المخابز مقابل المعسكر التركي حينذاك. وبجوار شارع المتنبي يقف شامخاً قصر القشلة أو (قاشلاق) بالتركية، وهو المعسكر الشتوي الذي بُني في عهد الدولة العثمانية على ضفاف نهر دجلة عام 1852م، على أركان السراي القديم الذي يعود تاريخه إلى عام 1660م في زمن الوالي مدحت باشا عام 1870م. والتي تحولت إلى أكبر مركز ثقافي يتوسط شارع المتنبي، وخلال عهد الملك فيصل الأول، أُطلق على هذا الشارع التاريخي في عام 1932م اسم الشاعر الشهير أبو الطيب المتنبي (915-956) الذي وُلِدَ في عهد الدولة العباسية، حيث ينتهي هذا الشارع بنصب برونزي للشاعر خطّ عليه بيت من قصائده "الخيل والليل والبيداء تعرفني .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم"، يُذكر أنّ أسماء هذا الشارع تغيرت أكثر من مرة منذ تأسيسه في زمن الدولة العباسية (132-656هــــــــــ) فقد بدأ بـ(درب القلغ)، و(سوق السراي)، وشارع (حسن باشا)، وتعود تسميته بهذا الاسم إلى القائد العثماني حسن باشا الذي فتحه أول مرة ليكون مسلكاً يذهب من خلاله إلى جامع السراي.

ثقافة وتراث

وكان شارع المتنبي الذي يتفرع من شارع الرشيد في بغداد، قد اكتسب أهميته من المطابع التي يضمها والمكتبات العريقة؛ إذ توجد فيه أول مطبعة تعود إلى القرن التاسع، ويعجّ بالمئات من المكتبات التي تعرض آلاف العناوين والإصدارات وحتى المخطوطات النفيسة، فضلاً عن باعة الأرصفة، حيث يفترش أصحابها آلاف الكتب الحديثة والنادرة. ومن أهمها: مكتبة المثنى، والنهضة، والمكتبة العصرية. ويبلغ طول الشارع نحو كيلو متر واحد، ويؤدي إلى إحدى ضفاف نهر دجلة، ويمكن للزائر لشارع المتنبي أن يرى عدداً من الأبنية التراثية المبنية على الطراز العباسي الجميل التي تمتد بمحاذاة الشارع. مثل المدرسة المستنصرية والقصر العباسي، والمتحف البغدادي الشعبي وجامع الحيدر خانة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى الدولة العباسية وقد أمر ببنائه الخليفة أحمد الناصر لدين الله، ويُعدُّ من أجمل الجوامع وأهمها في بغداد. والأوزبكية وسلسلة من المباني يعود تاريخها إلى الحكمين العثماني والإنجليزي في العراق، ويجد الزائر في مكتباته الممتدة على جانبي الشارع مجموعة من الكتب المتنوعة باللغتين الإنجليزية والعربية. واللافت في مكتبات شارع المتنبي وجود إصدارات قديمة، بينها كتب بالفرنسية والعربية والإنجليزية، وبعضها قد يكون نادراً ويعود للقرن الماضي، ما زالت تعرض في تلك المكتبات على الرغم من الحروب التي تعرض لهذا العراق منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي.

ملتقى الأدباء

ويمتد الطابع الثقافي للشارع من أرجائه وجوانبه إلى الأزقة المتصلة به التي تضم كل ما يتعلق بالشأن الثقافي والأدبي مثل الخطاطين والمراكز الثقافية، والمقاهي الأدبية التي يرتادها المثقفون، وكان لهذا الشارع روّاد كثيرون من المثقفين العراقيين والعرب والعالميين. ومن أبرزهم: الشاعر والأديب المصري الكبير زكي مبارك، وعالم الاجتماع العراقي البارز علي الوردي، ورئيس الوزراء العراقي نوري السعيد باشا، الشاعر والناقد المصري أحمد حسن الزيات، والشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، والمفكر مصطفى جواد، المطربة أم كلثوم، والشاعر الهندي طاغور، والمستشرق الفرنسي لويس ماسينون. والمستشرق الفرنسي جاك بيرك والذي يُعدُّ صديقاً للعرب وقضاياهم.

شارع المتنبي أحد أشهر شوارع العاصمة العراقية بغداد وأقدم سوق للكتب في المدينة، صار بلا منازع أبرز الأماكن الثقافية التي يرتادها الآلاف من العراقيين، كل يوم جمعة، للنهل مما يضمّه من كنوز. ولا تجري عمليات بيع الكتب في شارع المتنبي بشكل كبير إلا يوم الجمعة، حيث يتوافد إلى الشارع عدد كبير من المثقفين والباحثين وطلاب الجامعات. يتجولون في الشارع بين طيات الكتب وفي أروقة المكتبات، للاستمتاع بالفعاليات الفنية والثقافية التي يحتضنها، وتصفّح مختلف العناوين الأدبية التي تعرضها أكشاك بيع الكتب المنتشرة على طول الشارع.

معالم بغدادية

ومن معالم شارع المتنبي التي ما زالت قائمة حتى اليوم مقهى الشابندر والتي أسسها الحاج محمود الشابندر عام 1910 لتكون مطبعة على غرار مطبعة مدحت باشا، ولكن تمَّ تحويل مطبعة الشابندر عام 1917 إلى مقهى وهي مبنى تراثي يقع في بداية الشارع، جدرانه مزينة بصور السياسيين العراقيين القدامى والشخصيات البغدادية الشهيرة من الشعراء والمثقفين ومشاهير بغداد، يجلس فيه روّاد هذا الشارع لاحتساء الشاي على أنغام الموسيقى العراقية القديمة. وكان شارع المتنبي قد تعرض في الخامس من آذار/مارس عام 2007 لتفجير بسيارة مفخخة أدت إلى قتل 30 شخصاً من المتسوّقين، وقد أتت النيران على آلاف الكتب التي تحويها المكتبات المتراصة على جانبي الشارع. حيث تسببت في تدمير العديد من الأبنية القديمة. فقد انهارت المكتبة العصرية بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع منذ عام 1908م، كما دُمّر مقهى الشابندر، وبقيت النيران مشتعلة في شارع المتنبي في بغداد خمسة أيام. وفي عام 2008م أُعيد افتتاح شارع المتنبي من خلال إعادة ترميمه وإضافة رمزه التاريخي، الشاعر أبي الطيّب المتنبي، عبر إقامة نصب جديد له من البرونز بمحاذاة نهر دجلة. بحيث بات يستقبل الزوار في حلته الجديدة، حيث مكّن الزوار من ارتياده ليلاً. ومنذ افتتاحه في القرن التاسع ما زال هذا المكان هو خامس أهم شارع للثقافة في العالم، حسب تصنيف الأمم المتحدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها