حِرفة الأنثروبولوجي!

بين المعنى الاجتماعي والحرية الفردية

عثمان لكعشمي

إنّ حِرفة الأنثروبولوجيا اليوم قبل أيّ شيء آخر، هي تحليل نقدي للتمركزات الإثنية حول الذات الثقافية المحلية. أو بعبارة أخرى، تكمن موضوعاتها الأساسية والمركزية في العلاقة المتوترة فيما بين المعنى والحرية، بين المعنى الاجتماعي والحرية الفردية، بين الوحدة والتعدُّد: مفارقة المُعاصَرة. تلك العلاقة التي تنطلق منها اليوم كل نماذج التنظيم الاجتماعي، من التنظيمات الأولية إلى الأكثر تعقيداً. لهذا فإنّ الأنثروبولوجيين ينتظرهم الكثير مِن العمل، لديهم الكثير.. لإنجازه في العصر الراهن.
 

إلى وقت قريب لم يكن العالِم بشكل عام يهتمّ أو ينشغل بتحديد مهمَّة مجاله العِلمي والابيستيمولوجي الذي يشتغل فيه. كانت المهمَّة الأساسية للعالِم الحديث هي الممارسة العِلمية في حدِّ ذاتها. لم يكن عادة يهتمّ بالأسس الفلسفية لمجاله العِلمي؛ لأنّ ذلك لا يدخل في صميم وظيفته. فما يهمُّه بالدرجة الأولى هي المُمارسة العِلميَّة ولا شيء غير الممارسة. أمَّا التفكير في تلك الممارسة فهي مهمَّة الفيلسوف أو بالأحرى الابيستيمولوجي في العصر الحديث. هذا بالنسبة للعلوم الطبيعية، لكن ماذا عن العُلوم الاجتماعية؟

على عكس العُلوم الأخرى، فإنّ التفكير في الممارسة العِلمية بمجالات العلوم الاجتماعية يُولد مِن صميم تلك الممارسة عينها. كما هو الشأن بالنسبة للممارسة الأنثروبولوجية؛ الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية. حيث يتعذر علينا والحالة هذه أنْ نعثر على أنثروبولوجي لم يُخصِّص مقالاً أو دراسة أو كتاباً خاصاً بموضعة ممارسته الأنثروبولوجية، ومن ثمّ صياغة موقف أنثروبولوجي وابيستيمولوجي مِن أنثروبولوجيته بخاصة ومن الأنثروبولوجيا بعامّة. إذا ما نحن اقتبسنا عبارة "سوسيولوجيا السوسيولوجيا" العزيزة على عُلماء الاجتماع، سنقول بـ"أنثروبولوجيا الأنثروبولوجيا". هذا هو الرهان الرئيس لكتاب "حِرفة الأنثروبولوجي.. بين المَعنى والحرية" (Le Métier d’anthropologue.. Sens et liberté)، للأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجي (Marc Augé).

صحيح أنّ دراسات ابيستيمولوجيا العُلوم الاجتماعية ضرورية ومفيدة، لكنها مهما تضلَّعت في موضوعاتها؛ فإنّها تغفل البنية الابيستيمولوجية الداخلية لهذه العُلوم الفتية، تغفل الشرورط الجوهرية لإنتاج المعرفة الأنثروبولوجية، الذات الفاعلة (Sujet) للأنثروبولوجي أو بالأحرى تجربته الأنثروبولوجية، في حالة الأنثروبولوجيا.

إنّ التفكير في حِرفة الأنثروبولوجي، هو تفكير متجدِّد على الدوام. تفكير يتجدَّدُ بتجدُّدِ المعرفة الأنثروبولوجية في علاقتها الوجودية والجدلية الرَّاهنة بالتحوُّلات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية الراهنة... المتزامنة مع سيرورة صياغتها وإعادة صياغتها المستمرة، تنظيراً وممارسة.

 

:: حِرفة الأنثروبولوجي ::

أيَّة مهمَّة للأنثروبولوجي في العصر الرَّاهن؟

أيَّة مهمَّة للأنثروبولوجي في العصر الرّاهن؟ هذا هو السؤال الذي يحاول صاحب الكتاب الإجابة عنه. ربما لن نجد جواباً أفضل وأكثر كثافة من هذا الجواب الذي استهل به مارك أوجي كتابه هذا: «إنّ التساؤل عن حرفة الأنثروبولوجي اليوم، هو بمثابة تساؤلٍ عن العالم الراهن». لعلّ هذه الديباجة تعطينا فكرة واضحة ومكثّفة عن المُهمَّة المنوطة اليوم بعِلم الإناسة.

رُبَّ سائل: ما علاقة الأنثروبولوجيا بالعالم الرّاهن، أوليست الأنثروبولوجيا بنت التقليد بوصفها عِلماً للمجتمعات التقليدية والمُستعمَرة، علماً بائداً في طريقه إلى الاضمحلال والتلاشي والانقراض شأنه في ذلك شأن المجتمعات التقليدية والمُستعمَرة؟ للإجابة عن هذا السؤال نتساءل مع أنثروبولوجي العوالم المعاصرة: ألا تُزيل سيرورات التنميط الجارية على مستوى الكوكب جميع المبرِّرات، بما فيها المشروعية العِلميَّة، التي طالما منحت المعنى للمشروع الاستعماري الأوروبي؟ إنّنا أمام مَسلكين اثنين لا ثالث لهما: إمّا أنْ نُعيد النظر في المعنى الحقيقي للعالَم الرّاهن الذي قد يكون في نظره أكثر تنوعاً مما يتخيله إيديولوجيي الكوكبة، أو نُعيد النظر في جوهر المَعرفة الأنثروبولوجية التي قد تتجاوز غايتها طموح أيّة نزعة نوستالجية لجنة مفقودة. على أنْ نسلك المَسلك الثاني، على اعتبار أنّه ما يُتيح لنا إمكانية الولوج إلى المَسلك الثاني مِن أوسع أبوابه.

لعلَّ استقلال المجتمعات المُستعمرة سابقاً، فضلاً عن التحوّلات المعاصِرة للشرط البشري بمختلف مستوياته، مِن تمدين وعولمة، حركية وكوكبة، معلوماتية وتواصلية وافتراضية، في ظل مجتمعات فائقة الحداثة، جعلت تلك الأنثروبولوجيا المعهودة في أزمة. إنّ هذا العالَم الراهن ذاته الذي تُسائله الأنثروبولوجيا اليوم هو ما وضعها موضع تساؤل. بعبارة أخرى: إنّ الأنثروبولوجي يتساءل عن حِرفته من خلال تساؤله المستمر عن العالَم الرّاهن. أوليست الأنثروبولوجيا بنت الميدان (terrain)؟ أوليست الأنثروبولوجيا عِلماً استقرائياً مكثّفاً في المقام الأول؟ إنّها حِرفة الميدان، حرفة وجهاً لوجه (un métier du face-à- face)، على أنْ يشمل الميدان العالَم الافتراضي في حدّ ذاته باعتبراه عالماً راهنياً ولا ينفصل عن العالَم الواقعي الملموس. ليس هناك اليوم ميدان أكثر خصوبة مِن العالَم الراهن: بين ما هو محلي يُمكن ملاحظته تجريبياً، وما هو كوني وعالَمي.

إن هذه الفرضية أو بالأحرى الأطروحة، ستُمكِّننا بشكل أو بآخر من إعادة صياغة السؤال الشامل حول دور الأنثروبولوجيا اليوم. لبلوغ هذا المرمى، يقترح علينا أوجي ثلاث مسائل كبرى مركزية: المسألة التاريخانية (الزمان)، المسألة النسبية (الثقافة)، المسألة الأدبية (الكتابة).

الزمان: طالما شَغل الزمان والتاريخ مكانة مركزية في العلوم الاجتماعية بعامّة وفي الأنثروبولوجيا بخاصّة. مِن هذا المنطلق يَتساءل الأنثروبولوجي، إذا كانت موضوعاتنا تاريخية، ألا تتلاشى مع الزمن؟ ويُجيب: كون موضوعاتنا تاريخية، فلا يعني ذلك أيّ نزع أو مَحو لتاريخانيتها وزمنيتها، بل العكس هو الصحيح. صيحح أنّ موضوعات الأنثروبولوجيا اليوم تاريخية، لكنها لا تتلاشى أو تضمحل مع مرور الوقت، وإنّما هي تتحوّل وتتغير بشكل مستمر: بوصفها موضوعات متحوِّلة بتحوُّل مجريات الزمن وتدفُّقاته.

الثقافة: لا ريب في أن المسألة الثقافية تقع في قلب حِرفة الأنثروبولوجي. فإذا أردنا أنْ نقدم تعريفاً عاماً للأنثروبولوجيا سيكون: علم الإنسان. لكن عندما نتساءل عن نوع الإنسان الذي يتعامل معه الأنثروبولوجي أو الإثنولوجي، ونجيب بـ"الإنسان النوعي" (l’homme générique)؛ الإنسان الثقافي. سيغدو تعريفنا للأنثروبولوجيا أدق من الأول: علم الإنسان النوعي؛ علم الإنسان الثقافي. يتساءل الأنثروبولوجي مجدداً: إذا كانت موضوعاتنا ثقافية، ألا يمكننا مقارنتها؟ ويجيب :إن موضوعاتنا ثقافية، لكنها ليست مثالية (لا مثيل لها، لا تقبل المقارنة)، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المعنى الاجتماعي الذي ينتظم في كلّ ثقافة على حدة. من هنا يستمد الموضوع الثقافي للأنثروبولوجي نسبيته: القابلية للمقارنة.

الكتابة: إن الكتابة ليست مسألة أدبية فحسب، وإنّما هي مسألة أنثروبولوجية أيضاً. لذلك فإن الكتابة ليست مسألة هامشية أو مجرد مُلحق ينضاف إلى العمل الأنثروبولوجي، بل هي مِن صميم الممارسة الأنثروبولوجية. إنها ليست مسألة ثانوية بل هي من أولوية الأولويات، فالأنثروبولوجيا بما هي عِلم لا يمكن أنْ تكون إلاّ كتابية ومكتوبة. فضلاً عن كون الكتابة بالنسبة للأنثروبولوجي، من صميم العمل الميداني: قد يقرأ ويكتب وهو في قلب الميدان، أو يرجئ الكتابة إلى آخر البحث، حسب الاستراتيجية المنهجية لكل أنثروبولوجي. ليس هناك أنثروبولوجي لا يكتب أبداً. الإثنولوجي كاتب بالضرورة. إن كتابة الأنثروبولوجي نابعة عن تجربة فردية ثقافية، تفتح إمكانية المقارنة بين الوضعيات والسياقات والجماعات والمنظومات السوسيو- ثقافية.

الزمن مسألة أساسية وشرط مسبق- شرط أوّلي- في أيّة عملية تفكُّر أو تساؤل حول حِرفة الأنثروبولوجي. لكن هناك شروط أولية أخرى، لا تقل عنها: مسألة الثقافة ومسألة الكتابة.

حاول الكاتب من خلال تلك المسائل الثلاث الآنفة الذكر، إعادة النظر في حِرفة الأنثروبولجي على ضوء العَصر المُعاصِر، تحليلاً ومناقشة. استراتيجيته في ذلك هي: مساءلة العصر الراهن انطلاقاً من مساءلة الأنثروبولوجيا في حدّ ذاتها.

ومجمل القول: إنّ الأنثروبولوجيا اليوم مسلحة بشكل كبير لمواجهة تجليات ومظاهر وحقائق العصر المُعاصِر. شريطة أنْ يحرص الأنثروبولوجيون دائماً على تكوين وامتلاك فكرة واضحة عن حقيقة الموضوعات، والرهانات والمناهج الخاصة بتخصُّصهم المعرفي والعِلمي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها