أزمة وقت الفراغ

مقدمة كتاب "استبداد التسلية" لـ أولفييه بابو

ترجمة: اباسيدي يوسفي


إن عصرنا مصاب بمرض وقت الفراغ ونحن لا علم لنا بذلك. لم يسبق للفرد عبر تاريخ البشرية، أن ظفر بمثل ما ينعم به اليوم من لحظات خاصة، وهذا الوقت القابل للتمديد والمجرد من الواجبات الاقتصادية والاجتماعية هو الجديد في حداثتنا. وهو كذلك المشكل المركزي لأنه يفقدنا توازننا. فنحن لم نكن مهيئين لهذه الوفرة ولا نعرف كيف نستمتع بها دون مغالاة. ولهذا السبب، غالباً ما نضيع هذا الوقت الذي ربحناه بعد جهد جهيد.

إن الشغل عادة ما يجمع كل الاهتمامات. ومن البديهي أن دوره الاقتصادي أساسي. غير أنه في الغالب الأغلب يحتكر التفكير في النشاط البشري، وكأن ما يخرج عن مجاله لا قيمة له، أو بالأحرى لا معنى له إلا إذا نسب إليه، إلا أن العكس هو الصحيح بالتحديد: فالوقت الذي يخرج عن نطاق الشغل هو سبب وجود الشغل وهنا تكمن معجزة عصرنا هذا، فحياتنا لم تنل قط في المتوسط، قدر ما تناله اليوم من وقت تنتزعه من الأعمال الضرورية.

إننا لا نعي بما فيه الكفاية ما لهذه الظاهرة من نتائج عظيمة، فوقت الفراغ ليس أمراً ثانوياً في حياتنا؛ لأنه لا يؤطر شخصيتنا فحسب بل يؤطر المجتمع كذلك. فالكيفية التي يستعمل بها لدى كل جماعة بشرية هي العنصر المحدد للاختلافات القائمة بين المجتمعات. إن وقت الفراغ ليس حاضرنا فحسب، بل إنه يهيئ مستقبلنا.

إن وقت الفراغ ليس أبداً وقتاً شاغراً. وبعبارة أخرى، أن يكون المرء غير مشغول، فذلك لا يعني أنه لا يفعل أي شيء. فأحلام اليقظة انشغال ليس أقل امتلاء من النشاط الإبداعي، لأن الأخير ليس في الواقع سوى مصب للأول.

وغالباً ما يعرف وقت الفراغ بالسلب. فهو فراغ يجب أن يملأ أي فضاء غير محدد يمكن أن يملأه أي شيء، ومدة زمنية خلالها تكون الانشغالات مرتبطة بالفضول الاجتماعي وتقريباً بالنكتة. وذلك هو خطأنا الجسيم.

إن الثلاثين سنة المجيدة (Les Trente Glorieuses) لم تشهد ازدهار الاستهلاك الجماهيري فحسب، بل إنها كرست تراجع وقت الشغل والتطور المنقطع النظير للوقت الخاص.

وبفعل تسارع التطورات التكنولوجية، وتمدد أمل الحياة ذهب القرن الواحد والعشرون إلى أبعد من ذلك، موقعاً على ازدهار حضارة يتكون فيها جزء كبير من حياتنا من هذا الوقت الذي لم يكن له وجود في قديم الزمان.

إن التنامي الرائع لوقت الفراغ منذ قرن مضى استقبل بدون مساءلة باعتباره مزية بديهية. وبالطبع هو كذلك، غير أننا لم نفهم أنه أيضاً تحدٍ رهيب.

دأبت في الجامعة وأنا أبدأ حصصي الدراسية مع مجموعة جديدة من الطلبة، على مدهم ببعض النصائح. ومن جملة ما أقول لهم، وهو كلام يثير اندهاشهم: "لا تنسوا أن مهمتكم بصفتكم طلبة ليست حضور الدروس والنجاح في الامتحانات فحسب. فذلك أقل ما يجب أن تفعلوه. إن تميزكم المهني سيأتي مما تفعلونه إضافة إلى ذلك. فما يميزكم وأنتم تخوضون غمار البحث عن عمل، هي الأنشطة الخارجة عن المقررات والتي تتمثل في الأنشطة الموازية والعمل الجمعوي والأنشطة الرياضية وما تنمونه حقاً من مراكز اهتمام، وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى، سوف تخضعون للمساءلة حول الكيفية التي استغللتم بها أوقات فراغكم". وما هو صحيح أثناء الدراسة يكون كذلك طوال الحياة.

إن وقت الفراغ ليس ثانوياً بل هو مركزي. فهو ليس هامش الحياة بل الحياة ذاتها، وليس استراحة في اللعبة الاجتماعية بل اللحظة الحاسمة التي يلعب فيها. فهو يشكلنا في الطفولة ويخدمنا فيما بقي من حياتنا.

إن استعمال المرء لوقت فراغه استعمالاً مستقلاً حقاً ووفرة هذه اللحظات الخاصة به لمن الخصائص التي تميز عصرنا الحالي. فماذا نفعل بهذا الوقت الذي ربحناه من كثرة الأعاجيب التكنولوجية؟ وفيمَ نستعمله؟ ولأي غاية؟ وهل نحن فعلا مستقلون في الكيفية التي نقرر بها توزيعه؟ وفي حال الإجابة بالسلب، من يقرر اختياراتنا أو يؤثر عليها؟ وما الاختلافات التي تحدثها هذه الاختيارات بين الأفراد؟ وكيف أن وقت الفراغ هو في الآن ذاته انعكاس للأقدار والسلط ورافعتها التي يساء فهمها؟ وأخيراً كيف يكون وقت الفراغ ظاهرة حاسمة بالنسبة لتوازن الحضارة المعاصرة؟

إن كنز وقت الفراغ "الذي مُنحناه" محنة، فنحن في العمق لا نعرف كيف نستغله. إنه يحرجنا. ذلك أن ملء المرء لأوقات فراغه فن لا يدرس. لقد كان موضوعاً لثقافة خاصة لدى الشعوب السابقة والطبقات العاطلة تماماً في قديم الزمان. أما نحن في العصر الراهن، فقد أيقظنا وقت الفراغ دون سابق إنذار أو صمام أمان.

وتجد أزمة التقدم التي نعيشها حالياً مصدرها العميق في مأساة وقت الفراغ المستعمل استعمالا خاطئاً، وفي الوقت الذي أفرغ من معناه. ففن شغل الوقت الحر هو التحدي الأساس الذي يجب أن يرفعه الأفراد الذين يعيشون في البلدان المتقدمة؛ لأنه المسؤول ليس عن توازننا الذهني فحسب، بل عن قدرتنا على التقدم الاجتماعي. إن وقت الفراغ كل شيء ما عدا أن يكون عنصراً هامشياً في مجتمعاتنا. فهو في الوقت ذاته أكبر نقط ضعفها ومفتاح تطورها.

ويقترح هذا الكتاب جرد تاريخ هذا الوقت الخاص، وتحليل أشكاله المختلفة، وتأويل التحولات التي شهدها. فأشكال وقت الفراغ التقليدية وأشكال الاشتغال على الذات والعلاقة بالآخرين رأت تطورها ينحصر لفائدة ما تمارسه التسلية من سيطرة شبه حصرية.

ماذا لو أننا نعيش أزمة وقت الفراغ، دون علمنا بذلك؟ إن أطروحتي هي أن وقت الفراغ شهد تحولا جذرياً لم ننتبه إليه. فهو لم يعد يقدم تلقائياً بوصفه تأملاً دينياً أو فكرياً أو يحال إلى التجمعات البشرية، بل تكاد تمتصه التسلية كلياً. ذلك إن توخي الحذر باستبعاد اللذة المباشرة، هذا الانضباط الذاتي القديم، تبدد في زوبعة المتعة الفورية.

ومع ذلك؛ فإن استعمال المرء لوقت فراغه أصبح أكثر من أي وقت مضى أهم رافعات التميز الاجتماعي رغم كونه أقلها تحديداً، فهو الذي يجدد المسارات ويقرر في الأقدار ويقيد ويحرر. إن التفاوتات بطبيعة الحال هي نتائج آليات معقدة وترتبط بعوامل عديدة، إلا أن وقت الفراغ هو عقدة العديد منها. ونحن توخياً للمساواة نرفض أن نرى ذلك. وبإهمالنا له فإننا نغفل عن حركة تعتمل بالفعل في مجتمعاتنا، وتستمر في تعميق التفاوتات.

إن التكنولوجيات الجديدة تزيد مأساة وقت الفراغ حدة. فهي تشتغل كمضخات امتصاص قاسية تضع عقولنا على سكة من الصعب بأي حال مغادرتها. وتتضافر تقنيات شد انتباهنا وتنوع المحتويات اللامحدود، وإمكانية الولوج إليها باستمرار لتستبد بأوقات فراغنا.

لقد سرق منا وقتنا. والتحدي غير المتوقع الذي يجب أن نرفعه هو استرداد فن الانشغال الدقيق.

 




مقدمة كتابLa tyrannie du divertissement للكاتب Olivier Babeau :
منشورات Buchet – Chastel :
ص: 11-17 باريس، 2023.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها