رِحلةُ البداية الأبدية

سعاد الحمودي

 

الغيب يخبئ لنا في الآفاق ما لا نتوقعه، يأتي به رسل الله في بشارات وإنذارات لتمضي سنة الكون في الخلق، وليمضي كلٌ لما خلق له في رحلة نواميس الحياة المنبثقة في قلوب غفلت، وقلوب عقلت، فكان فيمن عقلت النجاة، وفي من غفلت الهلاك، ولم يظلم أحد عند الخالق، ونحن ننتظر رحلة لا نعرف موعدها رحلة سنخوضها جميعاً، سنغوص في تفاصيلها المبهمة رغماً عنا، رحلة لا تحتاج إلى وسيلة نقل، رحلة دامت، وستدوم إلى قيام الساعة خاضها من قبلنا، وسنخوضها، وسيخوضها من بعدنا، إنها رحلة اللاعودة، وتنتهي برحلة الخلود إلى اللانهاية.
 

مخيفة لدى البعض، والبعض الآخر لم يغفل عنها، ولعلنا ندخل في طقوسها المبهمة كل ليلة حين ننام، وتذهب أرواحنا إلى عوالم أخرى ثم تعود، أو تركن إلى السكون والهدوء، وبهذا ندركها قبلاً في رحلة يومية قد تكون وسيلة لإدراك كنهها الأزلي والمذكور في القرآن الكريم؛ إنها رحلة الموت.

ولعلنا نقوم بتقسيمها لقسمين كما جاء في كتاب الله الحكيم إلى رحلة صغرى وكبرى، أو موت أصغر وموت أكبر، أو رحلة العودة واللاعودة.

فالمنام جزء من عالم الغيوب تذهب فيه الروح إلى ملكوتٍ آخر، ثم تعود إلى الجسد وتُرسل إلى أجل مسمى لا تعلم مداه، في قوله تعالى {ويُرسِلُ الأخْرَى إلى أجَلٍ مُسَمًّى}، وقد أشارت الآيات لهذا المعنى في سورة الزمر بقوله تعالى: {اللهُ يتوفىَّ الأنفسَ حين موتها والَّتي لم تمت في منامها فيمسكُ الَّتي قضى عليها الموتَ ويرسلُ الأُخرى إلى أجلٍ مُّسمّى إن في ذلك لأياتٍ لقومٍ يتفكَّرون} [الزمر، الآية: 42].

ونحن ندرك تماماً أن لا حيلة لنا في الموت ولا نقدر أن نوقفه عن أحبائنا أو عن أنفسنا، إنه فعلاً المدى الواسع لحياة أخرى خالدة، إنه المصير المحتوم لكل حي يرزق على وجه البسيطة التي منها وإليها نعود.

فالموت رحلة جديدة لعالم آخر لا نعرفه ولكنه موجود، عالم بشرنا به واختُبرنا به صدقه من صدقه ونكره من نكره، ولعل ما نعيشه في لحظاتنا ولفتاتنا وما يجول في دواخلنا يزكيه أو ينكره. ما حولنا هو حقيقة ما نعيشه بعد الموت، فنقف لتأمل الماضي بحكمة ويسر، ونجتر تفاصيله بهدوء ويقظة، ونأمل أن يكون في عودته للذاكرة إضاءات تنير لنا الحاضر، وتوجهنا لمستقبل مشرق يكون ذلك الموت المؤقت حياة جديدة لنفس متعبة، أرادت التوقف فالتفتت لما يحييها فعاشت من جديد، إنه الأمل الذي لولاه لضاقت المذاهب وتشتت الجهود، ففي نومنا وصحونا فرصة جديدة للحياة لنشرق مرة أخرى، كما الشمس تعود وتشرق من جديد، نعود ونجتهد لآخر نفس بقي في أجسادنا لنحارب الشر وندس الباطل ونزكي الحق في أنفسنا.

الموت.. بين الخوف والأمل

قد يظن البعض في مقالتي هنا شيئاً من التشاؤم، فلطالما ارتبط الموت بالتشاؤم والخوف والحزن والألم، فهل هو خوف على النفس من ترك هذه الحياة؟ أم خوف على مصيرها المنتظر بعد الموت؟ ولعل البعض يصفه بالراحة لنفس منهكة عليلة، ومع ذلك هو خوف وقلق لنفس مترفة رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها.

وإني بذكر الموت لا أريد أن أزرع الخوف والقلق، بل أريد هنا بالتحديد أن أشعل جدوة الأمل لكل نفس ذائقة الموت؛ وإنها لمصيبة للفاقد والمفقود، ولكن الأمل يتبين في الصبر للفاقد، والأمل بمصير منير يُذهب البأس والتعب للمفقود، وهو رؤية جديدة لهذا المصاب تجعل الصورة أكثر بهاء وراحة للنفس.

فمهما عشنا في تفاصيل الحياة وألهانا الأمل، نجد لحظة الحقيقة تتجلى في مشهد الموت وقضاء النحب، لا شيء يكررنا سوى شبه نظنه في غيرنا أو في ذريتنا، ولكن نحن في الحقيقة واجهنا مصيرنا المحتوم وانتهينا من المشهد، ولم ولن يكون هناك فرصة للعودة للتغيير أو التعديل أو التبديل.

ومن تمنى في نفسه الموت سيندم محسناً كان أم مسيئاً، سيندم المحسن في الطمع في مزيد من الأعمال الصالحة تضاف لحسناته، والمسيء في العودة ليعمل صالحاً فيما سلف ويتوب عما اقترف من ذنوب، وبين محسن ومسيء يأتي الملحد ليكون أسوأ حالاً في تلك اللحظة المؤلمة، التي هي لغزٌ بالنسبة له ما جعله ينكر لحقيقة ما بعدها، وبإنكاره لها يكون في حيرة وقلق وخوف من مصيره المجهول بعدها، وينتهي أمله في كل شيء بمجرد تعرضه لمكروه قد يتسبب في فقدانه للأمل؛ لأن لا شيء لديه غير ما يحصله في دنياه الفانية الزائلة، فالهموم والأمراض والمشاكل والآلام بالنسبة له تجدد لخوفه وفقدان لأمله.

حقيقة ما بعد الموت

هناك من ينكر حقيقة ما بعد الموت، ويضع احتمالاً للفناء الأبدي والذوبان في العدم المفقود، وينكر بشتى النظريات والاحتمالات والظنون ما جاء به رُسُل الخالق، وآخر يتناسى مسألة الموت ويُعرض عن ذكرها وكأنه في منأى عنها، وينسى ذلك الموعد المهم في حياته في متاهات مواعيده الزائلة إلى أن يأتيه ذلك الموعد بغتة، ومن حكمة الخالق أن جعل ذلك الموعد مخفي عن البشر ليحضروا له، وليحسبوا حسابهم لتلك اللحظات الأخيرة في الدنيا، وحقيقة ما بعد الموت لمنكريها، والمعرضين عنها انعداماً للأمل كما أسلفنا، بينما هي عودة لذلك الأمل لمن صدق بحقيقة ما بعد الموت، والذي ظنه الآخرون مفقوداً بموتهم، وبعودة ذلك الأمل يعود شغَفُنا للحياة، وبتعزيز الأمل بذكر ما بعد الموت نعيش الحياة بسعادة أكبر، ذلك لأننا أزلنا خوفنا من الموت بمعرفة حقيقة ما بعده، فكان بالإيمان بما بعده باباً للنجاةِ والأمل والخير الكثير للبشرية جمعاء، فحقيقة الحياة هي حقيقة الموت لنعود للحياة بشغف وحيوية فمهما كثرت الهموم والأحزان، وتكالبت الضغوط وتعاظمت الأزمات؛ فإنها تتلاشى وتصغر أمام حقيقة النهاية لها، وتركها بمجرد الموت وما ينتظرنا من مصير لربٍ كريم لا تضيع لديه المظالم.

تحدي الموت

في تحدٍ واضح يفصح الموت عن نفسه بسؤال يتردد دوماً هل يستطيع أحد أن يدفع عن نفسه الموت؟ بالطبع لا يستطيع أحد أن يدفع عن نفسه الموت، وبهذا التساؤل الحكيم منذ القدم، والذي جُبلَت عليه النفوس بفطرتها الزكية، وعبّر عنه الحكماء في خطبهم الجزيلة الملهمة، فانبثق النور كنبراس حياة على ألسنة رسل الله مبشرين ومنذرين، ليخبروا الخلق عن كل ما يدور في أنفسهم، ويميط اللثام عن الحقائق المختفية، ويجعل الصورة المبهمة تشع بشعاع البصيرة في القلب السليم.

فنحن في مكاننا الزائل المنتهي، وزماننا المتسارع المنقضي سنزول عن مكاننا وسنقضي جميع أوقاتنا، ولا ندري أين؟ ومتى؟ سيحين المصير.

فتساؤلات الماضي التي تطرق الباب لمعرفة ما بعد الموت تتجلى قبل البعث في خطب الحكماء الذين نظروا إلى الحياة والكون الفسيح المتقن والأرض والسماء، وكل ما خلق في تفاصيلها من إحكام ودقة متناهية، ثم فجاءة يأتي الموت كنهاية لكل شيء، فيتساءلون في حيرة أين ذهبوا؟ وإلى أين رحلوا؟، ولماذا رحلوا؟ فها هو قس بن ساعدة الأيادي في خطبته الشهيرة قبل البعثة النبوية الشريفة في سوق عكاض، وبدايتها تعجب في حكمة الخلق:
"ياأيها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا؛ إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جمع وأشتات، وآيات وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا". ثم يقسم قس قسماً لا إثم فيه فيقول: "إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبياً قد حان حينه وأظلكم أوانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه، ثم قال: تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية، يامعشر إياد أين الأباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد وزخرف ونجد وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول منكم آمالاً؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود، ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأوليـ ... ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس له مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلى ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيثُ صار القوم صائر

إنها لخطبة تدهش العقول، وترجعها لتبصر النور، ففي كلماتها قوة وبلاغة، وحكمة وفصاحة، تجعل العين تبكي لتروي ظماء الروح الغافلة.

إن هذا التساؤل الحكيم الفطري منذ القدم عن حقيقة ما بعد الموت

يرن في الصدور كناقوس خطر ينذر بالرحيل والعودة للخالق الجليل.

وإنه لتحدٍ لكل مخلوقٍ لا يستطيع دفع الموت عنه، ولا معرفة ما حصل لمن ماتوا قبله، ليس لذلك السؤال الغيبي إجابة إلا من علام الغيوب الذي لم يخلقنا عبثاً في هذه الحياة، ولم يتركنا هملاً، ونحن عبيد له سبحانه وتعالى، مدبرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون بالموت ثم البعث للحساب والجزاء.

فالموت نهاية لحياة وبداية لحياة أخرى ليس لها انقضاء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها