علاقةُ التربيّة.. بالمدرسة والمجتمع

تقاطعات تربوية بين ابن خلدون وجون ديوي "نموذجاً"

د. عبد الله رمضاني


لقد حرص الفلاسفة والمفكرون منذ القدم على إيلاء التربية منزلةً مرموقةً من تفكيرهم، كما اتجه الباحثون والدارسون إلى التربية باعتبارها الأداة الضامنة لإعداد المجتمع المتطور، فهي لديهم لا تقوم على الأحلام والآمال، بل على فهم الواقع المتغير، ورسم المبادئ والأسس التي تحكمه؛ لبناء مجتمع تتناسب أفكاره وممارساته مع ذلك التغير الحاصل فيه. وزادت أهمية التربية أكثر في زمن أصبح من الضروري أن يكون لكل أمة فلسفة تربوية تراعي خصوصياتها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ترقى بها إلى التقدم وتجعلها قادرة على مواجهة تحديات العصر وتغيراته.
 

وليس من شك أن نجد علمين مرموقين، رغم الفارق الزمني بينهما، كان لهما اهتمام كبير بالحقل التربوي، كما كانا أشد التصاقاً بالواقع والمجتمع. ومن خلال احتكاكهما بالواقع الحي ومعايشته، تفتقت عن قريحتهما ملاحظات قيمة، وإفادات رائدة وبالغة الأهمية في ميدان التربية ومدى ارتباطها بالواقع بشكل عام، والواقع الاجتماعي بصفة خاصة. ولم يضنا علينا من خلال مؤلفاتهما بما جاد به فكرهما الثاقب من توجيهات وإرشادات ونصائح دررية، وإضاءات ساطعة تنير سبيل كل من رام هذا المجال، وتزوده بما يتوق إليه فؤاده، وترنو إليه تطلعاته.

ويتعلق الأمر هنا بابن خلدون العالم الاجتماعي المسلم، والفيلسوف الأمريكي جون ديوي. فهما وإن كانا يختلفان في منهجية التحليل، لهما قواسم مشتركة في المبادئ العامة، وتشابه كبير في القواعد الكلية، ما يجعلهما يتوصلان في غالب الأحيان إلى نفس النتائج التي تصب في التربية الاجتماعية.

يعد ابن خلدون صاحب رؤية حضارية تسعى لتقدم الأمة ونهضتها من شتى النواحي: العمران الإنسانيّ، والتاريخ البشريّ. وقد كان موسوعياً في تدارسه لكثير من العلوم التي تخدم فكره للنهضة الحضارية، وذلك باهتمامه بالتاريخ والفلسفة والاقتصاد، والسياسة والتربية وغيرها من الحقول العلمية. وقد بسط ابن خلدون المبادئ الرئيسة لهذه العلوم انطلاقاً من منهجية خاصة به في النظر والتفكير والتحليل. ويمكن اعتبار فكر ابن خلدون واحداً من المناهج الرئيسة للتغيير والإصلاح.

ويقيم ابن خلدون رؤيته في التربية على حقيقة اجتماعية مهمة؛ وهي أن التربية ظاهرة اجتماعية إنسانية يتميز بها الإنسان عن الحيوان تنتقل من جيل إلى جيل.

أما بخصوص جون ديوي فهو يعدّ صاحب مذهب حقيقي في التربية(1)، وآراؤه التربوية تعتبر بحق خطوة ثورية جديدة في ميدان التربية، وذلك بالمقارنة إلى آراء دوركايم مثلاً في كتابه "التربية الأخلاقية"، والذي يتأطر ضمن الأدب اللفظي إذا ما قيس بثورية جون ديوي الواقعية وتحليله الدقيق.

وعادة يقرن اسم جون ديوي بالمذهب العملي، أو البراغماتي، أو مذهب الذرائع، وهو المذهب الفلسفي الذي بدأه قبله بيرس، ووليام جيمس، ويأتي في طليعة المربين البراغماتيين المعاصرين وأكثرهم إفاضة في الحديث عن التربية.

ويعتبر ديوي، أيضاً، من أكبر رجال التربية، والتعليم في العصر المعاصر، حيث يقول: (إذا رضينا بفهم التربية على أنها عملية تكوين النزعات الأساسية الفكرية، والعاطفية في الإنسان تلقاء الطبيعة وأخيه الإنسان، لم تخش حينئذ تعريف الفلسفة بأنها النظرية العامة للتربية) (2).

وقد أحدثت أفكاره التربوية ثورة حقيقية في عالم التربية والتعليم، وهو الذي يعترف بأن التربية أول الأمور التي اتسم بها تفكيره الفلسفي؛ إذ اطلع على الكثير من النظريات التربوية، ووقف منها موقف الناقد والمثمن، حيث أخذ منها ما يخدم مشروعه متجاوزاً عيوبها بأسلوب متميز، فصنعت فلسفته التربوية انقلاباً عظيماً على التربية التقليدية، مما جعله موضع بحث واهتمام لدى الكثير من الباحثين والدارسين المهتمين بالفلسفة والتربية.

وفي تقدري هنا تتجلى عملاقية ديوي، ونفس الشيء نقوله في شأن ابن خلدون، وذلك يتمثل في قوة تحليله ونظرته الاجتماعية الواسعة الآفاق التي كانت تواجهها التربية في عصره، على الرغم من الاختلاف الحاصل بينهما، والذي يعود إلى طبيعة المجتمع الذي تسود فيه التربية في كلا العصرين فآراء ابن خلدون قد تكون أكثر انسجاماً لأوضاعنا الراهنة من آراء جون ديوي، وإن كنا نعيش زمنياً في عصر ديوي؛ فإننا ما زلنا نعيش في عصر ابن خلدون.

يبدو من خلال السابق، أن كلا الرجلين اهتما بالتربية الاجتماعية أيما اهتمام، وأولاها مكانة قصوى في تفكيرهما، وقد انعكس ذلك فيما خلفاه من مؤلفات وكتابات، رغم اختلاف الفارق الزمني بينهما، وطبيعة المرجعية الفكرية والمعرفية التي ينهلان منها عصارة أفكارهما وآرائهما.

ترى ما أبرز القواسم التربوية المشتركة بين ابن خلدون وجون ديوي، انطلاقاً من آرائهما وأفكارهما وتصوراتهما حول مسألة التربية وعلاقتها بالواقع الاجتماعي؟

إذا ما عدنا إلى ديوي؛ فإننا نرى أن آراءه الاجتماعية في التربية تقوم على عدم إمكان تواجد صنفين من المبادئ الأخلاقية، تختص إحداهما بالحياة في المدرسة، والأخرى بالحياة خارجها؛ لأن السلوك وحدة لا تتجزأ(3).

فالمتعلم يتلقى داخل المدرسة تربية وتعليماً هادفاً، ويدرب كيف يكون عضواً صالحاً ونافعاً في المجتمع، وبذلك تتحدد مسؤولية المدرسة الأخلاقية نحو الطفل.

وتصبح المدرسة في جوهرها تمثل مؤسسة أوجدها المجتمع لتؤدي مهمة معينة محددة تكمن في المحافظة على حياة المجتمع، وكل نظام تربوي لا يعترف بهذه الحقيقة يعتبر نظاماً سلبياً وخاطئاً. وينحصر العمل الاجتماعي للمدرسة في تدريب الفرد على المواطنة وغرسها في كيانه. فالمدرسة التي تقوم على فكرة المشاركة في الحياة الاجتماعية، ولا ترسم أهدافاً تخدم هذه الفكرة تظل منعزلة عن الحياة الاجتماعية والواقع الاجتماعي، وبالتالي لن تكون لها أية مبادئ أخلاقية موجهة(4).

وفي هذا السياق يرى ديوي أن المدرسة وجدت من أجل الطفل وليس العكس، ففي كتابه "مدارس المستقبل" نجده يشيد بأفكار وآراء رجال التربية من أمثال روسو، ولعله يعتبر هذا الأخير كان أول من أدرك أن عملية التعليم ضرورة؛ وأنها جزء من عملية أخرى هي عملية النمو وحفظ الذات، فإذا أردنا أن ندرك كيف تتم العملية التعليمية التربوية بنجاح كامل، وجب علينا أن نتجه إلى خبرات الأطفال، حيث تكون عملية التعلم ضرورة، لا أن نتجه إلى خبرات المدرسة وتجاربها... (5).

وعندما تكون أهداف المدرس ومناهج التعليم في المدرسة نشيطة وهادفة في ميدان العمل؛ فهي تعدّ بذلك عملية اجتماعية وأخلاقية أو ما شاكل ذلك، باستثناء القضايا النفسية؛ لأنها تنزع إلى التجريد وتحول الشعور وعلاقات الأفراد إلى فيض من عمليات الشعور، لذلك لا يُظن أن ثمة خطراً في الذهاب إلى أبعد الحدود، في تقرير الطبيعة الاجتماعية والغائية لعمل المدرس(6).

بيد أنه يمكن للمدرسة أن تستفيد من علم النفس خاصة ما يتعلق منها بالجانب الاجتماعي؛ لأن الهدف الأساسي من المدرسة هو إعداد وتكوين معين من الشخصية الاجتماعية، وحتى تكون للمدرسة رسالة أخلاقية حقيقية، يلح جون ديوي على ضرورة إدخال المفاهيم الاجتماعية للمدرسة، وبناء دعائمها وقواعدها على الوظيفة الاجتماعية.

فحينما تهيئ المدرسة كل طفل إلى عضوية المجتمع، وتمرّنه (داخل مجتمع صغير من هذا النوع فتجعله يتشرب روح الخدمة، وتجهزه بأدوات التوجيه الذاتي الفعّال يكون لنا حينذاك أعمق وأحسن ضمان لمجتمع أكبر ذي قيمة وحسن وانسجام) (7).

وتعتبر هذه الفكرة التي دعا إليها ديوي خطة نافعة للعمل، ينتج عنها علم شديد الفعالية للتربية، وبذلك تنصهر كافة المفاهيم النفسية والاجتماعية والتربوية في فلسفة عامة سماها فلسفة الذرائع.

وقد تفطن ابن خلدون هو الآخر لهذه العلاقة الوثيقة الكائنة بين الحياة الاجتماعية والتعليم، وتناول بتحليله الدقيق وتطبيقاته الباهرة أكثر من ديوي، الترابط الذي لا يفصل بين مستوى المجتمع ومستوى التعليم.

وقد استخدم في ذلك أسلوباً وطريقة متميزة وخاصة، وهذا يعني أن ابن خلدون يصرح أن المدرسة أو التعليم، منذ البداية، لا يمكنه أن يقوم على نظام انعزالي بعيد عن المجتمع أو الواقع الاجتماعي. ولو اهتم المربون عندنا بهذه المسألة، وأولوها عناية فائقة لكان لهم قصب السبق قبل الفكر الحديث في تحديد الرسالة الأخلاقية الإيجابية، التي ينبغي للمدرسة أن تنهض بها في حياة المجتمع، ورقيه الفكري والحضاري.

وقد استطاع ابن خلدون أثناء تحليله لتلك العلاقة كيف يربط بين العملية الأولى من عمليات التعليم المتمثلة في الكتابة، وبين ظروف المجتمع الحضارية، وقد شغلت هذه العلاقة حيزاً كبيراً من اهتمامه حتى آخر خطوات التعليم المتجلية في الإنتاج الفكري، ونشر الثقافة في الوسط الاجتماعي على نطاق واسع.

وإذا كان ديورانت يعد الكتابة والدولة هما المؤسستان المميزتان للمجتمع المتخلف عن المجتمع المتمدن والمتحضر؛ فإننا نرى ابن خلدون يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعتبر الكتابة من بين أهم السمات النادرة التي يختص بها الإنسان، دون الحيوان لكونها من أرقى الوسائل التي (تطلع على ما في الضمائر، ويطلع بها على العلوم والمعرفة، وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم، فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع... فبالكتابة تسهل رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه...)(8).

وهذا لا يعني أن هذه الخاصية المميزة للإنسان تسمح لنا القول إن هذا الأخير يستطيع أن يعرف الكتابة بالغريزة كعملية الرضاع (وإنما تخرج في الإنسان من القوة إلى الفعل بالتعليم)(9)؛ أي أنها تتم وتتحقق بواسطة عملية تعليم الكتابة، وهي خاصية ليست فردية تتوفر في فرد دون آخر، بل هي شكل من أشكال ازدهار المجتمع ورقيه الحضاري، (فعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطب تكون جودة الخط في المدينة.. ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرأون لأنهم لا يتعلمون، ومن قرأ منهم أو كتب يكون خطه قاصراً وقراءته غير نافذة، بينما نجد تعليم الكتابة والخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن، وأسهل طريقاً لاستحكام الصنعة فيها) (10).

ونستشف من هذا الكلام أن تعليم الخط يعد أداة وميكانيزما حضارياً؛ إذ بواسطته نستطيع أن نبلغ شأواً كبيراً من العلوم والمعرفة، ودرجة سامقة من الرقي الاجتماعي والاقتصادي. ولا غرابة إذا قلنا إن ما يميز عالم المتخلفين عن عالم المتحضرين يكمن في تعليم الكتابة إذ بها، في نظر ابن خلدون، (تسهل رتبة العلم أو الحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه؛ وإنما أتى هذا من كمال الصنائع، ووفورها بكثرة العمران، وانفساح الأعمال) (11).

ولدعم هذه النظرية الحضارية للكتابة والخط راح ابن خلدون يعقد مقارنة بين البلدان العربية من جهة، وبين العصور التاريخية في هذه البلدان من جهة أخرى، ليخلص إلى أن الكتابة من أبرز ما تتسم به حضارة المجتمعات رغم ما يلاحظ من تفاوت.

ومن ثم تصبح الكتابة مسألة حضارية بحتة، والدليل على ذلك هو التفاوت نفسه في سرعة التعلم والمهارة، هو الذي يحصل بين سكان المدن وسكان البادية في بلد واحد، وفي ذلك يقول ابن خلدون: (ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً بالكيس، حتى إن البدوي ليظن أنه قد فاته في حقيقة إنسانية وعقله وليس كذلك، فما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي...) (12).

ويخلص ابن خلدون من خلال هذا الربط الوثيق الذي أقامه بإحكام، وحرص شديد بين التجربة من جهة، وبين الرقي الاجتماعي من جهة أخرى، إلى إضفاء الطابع التطبيقي والروح العملية على التعليم، والنأي ما أمكن عن التعليم التجريدي، ويشكل هذا في نظره الركيزة أو اللبنة الأساس لكل عمل تربوي بصفة خاصة، ولفن التربية بصفة عامة. فكل تربية أو نظام تعليمي يغفل هذا الجانب، ويجنح نحو التجريدات والاستناد إلى التعليم النظري البعيد عن مجريات الأحداث والمستوى الحضاري هي تربية متجاوزة ومحكوم عليها بالفشل والإفلاس ابتداء.

إذن؛ لا بُدّ على كل تربية أو نظام تعليمي من مراعاة المحيط الاجتماعي والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد؛ إذ لا يمكن على أية حال من الأحوال الفصل بين التربية والوسط الاجتماعي، والمستوى الحضاري الذي يجري فيه.

ونلاحظ هذه الإشارة بارزة عند بياجيه، حيث أكد أنه لا يسوغ لنا إهمال أهمية النضج، كما لا يسوغ لنا إهمال أهمية البيئة، وبالتالي (لا يمكن وضع حدود دقيقة بين ما ينتج عن نضج البيئة العقلية، وما ينبع عن تجربة الطفل أو تأثير بيئته الاجتماعية أو الطبيعية، ويظهر أنه يمكن قبول تدخل كل العاملين باستمرار، وأن النمو ناتج عن تفاعلهما المتبادل الدائم) (13).

وهذا يدل أيضاً من زاوية أخرى (أن البيئة يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في تطور العقل) (14) لدى الإنسان، كما أنها تؤثر في سلوكه وخلقه وعوائده، فرداً كان أو جماعة. وعلى سبيل هذا المقتضى، لا قطيعة بين التربية والمحيط الخارجي الذي تتعامل معه.

ولعل هذا نفس المبدأ الذي نجده عند ديوي، قد تفطن إليه ولكن بطريقة أو بكيفية أخرى، حيث يرى أنه أصبح من اللازم والضروري أن تستحيل إلى معهد اجتماعي حيوي، نشيط يضطلع بدور اجتماعي وأخلاقي قائم على البرهان العملي التجريبي البعيد عن التجريدات والنظريات البحتة، وفي هذا الصدد يقول: (لقد نما إلى علمي أنه قد أنشئت في مدينة شيكاغو مدرسة للسباحة يتدرب فيها الشبان على العوم دون أن ينزلوا إلى الماء. ويقوم التعليم فيها على أساس تكرار التمارين على مختلف الحركات الضرورية للعوم، وعندما سئل أحد هؤلاء الشبان الذين دربوا على هذه الطريقة عما حدث له عندما نزل إلى الماء، أجاب باختصار أنه غطس...) (15).

ويضيف جون ديوي معلقاً على ذلك بقوله: (إن المدرسة لا يمكن أن تكون إعداداً للحياة الاجتماعية إلا إذا قدمت، من داخل نفسها، ظروفاً مماثلة تماماً للحياة الاجتماعية... إن الطريق الوحيد للإعداد للحياة الاجتماعية هو بالذات ممارسة الحياة الاجتماعية نفسها) (16).

ويذكرنا هذا بالمثال الذي ساقه ابن خلدون في هذا الموضوع، حيث يشبه الذي يقتصر علمه على معرفة القوانين والمبادئ (بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً، مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها، الخياطة هي أن يدخل الخيط في خَرْت الإبرة ثم يغرزها في لِفقَي الثوب مجتمعين ويخرجهما من الجانب الآخر بمقدار كذا.. وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً، وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك، ممسك بطرفه الآخر... وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه) (17).

ويتجلى من المثالين السابقين وجه المقارنة بين ديوي وابن خلدون، فكلاهما يركزان على ضرورة الحرص على التعليم العملي وعدم الإغراق في فضاءات التجريد، والحرص على توثيق الصلة والعلاقة بين التربية والواقع الاجتماعي. فالمدرسة لا يمكنها أن تكون إيجابية بالنسبة للحياة الاجتماعية إلا إذا قدمت من ذات نفسها، ظروفاً مماثلة تماماً لتلك الحياة الاجتماعية.

إن ممارسة الحياة الاجتماعية نفسها تعد في نظرهما هي المسلك الوحيد لإعداد الحياة الاجتماعية، وكل تكوين يستهدف تعليم عادات لدى الطفل، ويكون منفصلاً عن المحيط الاجتماعي القائم، معناه بدهياً تعليم الطفل السباحة عن طريق تدريبه على حركات العوم خارج الماء، أو تعليمه الخياطة والنجارة نظرياً بعيداً عن التطبيق العملي.

لذلك كانت النتيجة سلبية وتافهة؛ لأن هناك شرطاً أساسياً ولا غنى عنه قد أسقط وأخرج من الحساب، هو الربط بين التنشئة العقلية والتنشئة الأخلاقية، وبين اكتساب المعلومات وتنمية السلوك.

يتبين مما سبق أن كلا من ابن خلدون وديوي يؤكدان على مبدأ الربط بين المدرسة والمجتمع، لكنهما يختلفان من حيث طرح هذا المبدأ وكيفية التعامل معه، أي أنهما يختلفان فيه على مستوى المنهج. فابن خلدون في تصوره، أنه كيفما كان المجتمع كانت مدرسته، فإذا كان المجتمع صالحاً، كانت مدرسته صالحة. وإذا كان المجتمع راقياً في حياته المادية والحضارية كانت مدرسته صورة له من حيث رقيها وازدهارها، والعكس صحيح، فعلى قدر المجتمع تكون مدرسته.

ولا يكتفي ابن خلدون بالتحليل النظري لهذا المبدأ، بل يقرر واقعاً يضرب عليه الأمثلة من المشرق والمغرب.

أما جون ديوي فيعتبر المدرسة مجتمعاً صغيراً يمتد إلى المجتمع الكبير، وتكون المدرسة مزيفة إذا أرادت أن تخلق للطفل مجتمعاً مختلفاً عن مجتمعه الحقيقي القائم؛ لأن مثل هذه المدرسة تجعل الطفل يصطدم بواقعه المعيش، بالأفكار والسلوكات والمبادئ التي تلقاها وتشبع بها أثناء تعلمه، وهنا تكمن الخطورة في نظر ديوي، وعلى هذا الأساس، فلكي تكون المدرسة مثالية يقتضي ذلك أن تكون صورة حقيقية للمجتمع القائم.

لقد كانت المدرسة تحتل مكانة كبرى وراقية بالنسبة لجون ديوي؛ لأنها في نظره وسيلة فعالة للتقدم الاجتماعي، ولكونها تشكل حلقة وصل بين المعلم والطالب هذا من جهة، ومن جهة أخرى التقدم الذي يحرزه التلميذ في نجاحه الدراسي أي القدرة على الكتابة، والقراءة ونمو جسدي وعقلي معاً هذا دليل على وجود علاقة بين المدرسة والمجتمع، ومدى تأثير المدرسة على تقدم المجتمع فهي كما يقول هوراس مان: (حيثما ينمو شيء فإن مؤسساً، أو منشأ واحداً يعادل ألف مصلح أو مجدد) (18).

وهذا يعني أن كل مدرسة من المدارس يجب أن تنظم نفسها وفق منهاج وقاعدة اجتماعية تتسم بمبدأ الضبط، الذي يساعد على تنمية روح التعاون الاجتماعي. وقد عمل ديوي على جعل كل مدرسة من المدارس تعيش حياة اجتماعية مصغرة، أو حياة اجتماعية في بدايتها فعالة بأنواع مهنها التي تعكس حياة مجتمع أكبر، وتتقدم بروح من الفن والتاريخ والعلم.

ويضاف إلى هذا نقطة أساسية أخرى التي يلتقيان فيها، وهي مرتبطة بالأولى عندهما معاً، هي الارتباط بالواقع الاجتماعي وجعل التعليم قائماً على مباشرة الواقع الحي، لا على القواعد النظرية التي لا تمت بصلة بالواقع، وهذا كما ينطبق على تعليم العلوم والصنائع عند ابن خلدون ينطبق على السباحة عند جون ديوي.

ولعل هذا الاتفاق بين ابن خلدون وديوي لا يرجع إلى نظرتهما لمسألة التعليم من الزاوية الفنية الحسية للمبادئ الفرعية التي دعمها رجال التعليم حديثاً بعلم النفس؛ وإنما يرجع إلى نظرتهما إلى التعليم من الزاوية الاجتماعية. إن مثل هذه النظرة هي التي تمكن التعليم من أن يقدم خدمة أخلاقية للمجتمع؛ لأنه حينئذ يصبح أداة لنفع المجتمع وتبادل الرقي والازدهار معه أخذاً وعطاءً. وكل عمل لا يرمي بطريقة أو أخرى إلى خدمة المجتمع وابتغاء النفع له يعد عملاً بعيداً عن الأخلاق؛ لأنه لا تتولد عنه أية منفعة مفيدة للمجتمع باعتباره أصبح هو الغاية في ذاته. وهذا ما حدث عندنا حينما جعلنا دراسة قواعد اللغة غاية في ذاتها، وليست أداة ووسيلة لخدمة اللغة ونشرها في المجتمع، حتى يتبادل التعبير عن حاجاته المادية والمعنوية بلغة مشتركة بين المتعلم والمرسل الفكري فتمحي الطبقية الثقافية من بنية المجتمع.

وهناك ملاحظة يجب الإشارة إليها في هذا المقام، وتمثل نقطة التقاء أخرى فيما بينهما، مفادها أنهما لا يعتبران اللغة مجرد وسيلة وأداة شكلية، كما أنها ليست غاية في ذاتها، وعلى هذا الأساس ينبغي التعامل مع اللغة وتعليمها للأطفال. فإذا كنا نرى ديوي يشدد في الحرص على أن نعلم الطفل في المدرسة لغة يتداولها في المجتمع، وتعبر عن حاجاته ورغباته العضوية والنفسية والاجتماعية في حياته(19)؛ فإن هذا نفسه ما يرمي إليه ابن خلدون في حثه لنا على التخلص من تعليم القواعد، والحرص على أن تعلم اللغة من المجتمع لا من القواعد؛ لأن تعلم اللغة لا يسمح لنا أن نعبر تعبيراً صحيحاً وسليماً عن حاجاتنا في الحياة، وقد عزز ابن خلدون ذلك بأمثلة محددة عن هذا العجز أخذها من رسائل علماء كبار في النحو، إلا أنها تتسم بالعجز والسقوط من حيث القدرة على التبليغ والتواصل.

صفوة القول؛ إنهما يناديان بألا تكون اللغة مجرد وسيلة شكلية، بل ينبغي تداولها في الاستعمال الراهن، كما يجب أن يجد فيها كل متعلم أداته ووسيلته الخاصة للتعبير.

وفي هذا السياق أودّ أن أسجل، من خلال دراستي لفكر ابن خلدون التربوي، ملاحظة مهمة تتمثل في إلحاح ابن خلدون على الجانب الاجتماعي للتربية؛ أي للمدرسة والمربي والكتاب، ولذلك اعتبرها مبادئ صالحة لإحداث تغييرات تربوية حقيقية؛ لأن أي تغيير في الثقافة الاجتماعية يجب أن يكون تغييراً تربوياً أو لا يكون، أي تغيير موجِّه وموجَّه في كل المجالات الثقافية.

وأفسر هذا التغيير الثقافي في ميدان التربية بأنه عملية تغيير جذرية لواقع عليل وسقيم بواقع صحيح وسليم، وبأنه هو استرجاع الأمة لتراثها الذي فقدته بطريقة أو بأخرى، وتطوير هذا التراث بحيث يخدم مصالح أبناء هذه الأمة، ويساهم في ازدهارها المادي والمعنوي.

إن التغيير الثقافي المنشود لكي يكون تغييراً حقيقياً ينبغي أن يصون أفراد المجتمع من الانحرافات، ويضمن لهم التطور السليم، بتغيير العلاقات الإنسانية من الأساس، وتغيير الذهنيات وعادات التفكير التي توجه تصرفات الإنسان وسلوكاته.

إن المدرسة الحقة والفعالة هي التي لا تحدث قطيعة مع المجتمع، بل ينبغي أن تفتح بابها في وجه التغيير؛ لأن المدرسة ليست صنماً ثقافياً أو جزيرة من المثل الثقافية الحالمة تحوم حول حلقة مفرغة كحلقة داروين؛ وإنما هي كيان حي له ارتباط وطيد ومتين بكل أجزاء الجسد الاجتماعي، هي لحمة واحدة متلاحمة أخذاً وعطاءً.

وإذا كانت التربية بهذه الأهمية الكبرى؛ فإنها إذن الوسيلة الوحيدة التي تتطور بها المجتمعات، وتعمل على جعل أي فرد من أفرادها قادراً على مواجهة تحديات العصر.

فقد آن لنا أن نتحرر من عقال طفولتنا في الفخر بعيوبنا وإخفاء أمراضنا عن أنفسنا، كل حسب موقعه الاجتماعي ومكانته العلمية؛ لأن من أخفى عن نفسه مرضه أوشك أن يقتله.

إن المصائب والآلام التي عرفتها أمتنا طيلة عصور حضارتنا وتدهورها واستبعادها على السواء، ليست إلا ظلاً من هذا الموت الذي سببناه لأمتنا بإخفاء عيوبنا عنها، وتقديم صورة مزيفة عن التاريخ والواقع لأجيالنا المتعاقبة، باستعمال أداة الفخر اللفظي بلغتنا وقوميتنا وأدبنا وحضارتنا.. متغافلين عمداً أو سذاجة مواطن الداء فيها.

وفي هذا الصدد يقول إسماعيل راجي الفاروقي رحمه الله: (ليس هناك أدنى ريب في أن مركز الداء ومنبعه في هذه الأمة، إنما هو النظام التعليمي السائد، إنه التربة الخصبة لتربية العلل في المدارس والكليات تولد وتؤيد عملية تغريب النفس عن الإسلام: عن تراثه وأسلوبه، إن النظام التعليمي هو المعمل الذي فيه يعجن ويشكل الشباب المسلم، وهناك يصاغ وعيهم في قالب هو صورة ممسوخة للغرب، وتفصم الرابطة بين المسلم وماضيه، وتوضع في وضع حرج، رغبته الطبيعية في التطلع لمعرفة تراث أسلافه. ونتيجة للشكوك التي بثّها هذا النظام في أعماق وعيه تصاب بالتبلد رغبته في أن يقف مع أسلافه على أرض مشتركة، لينطلق منها نحو بعث للإسلام جديد وملائم للعصر)(20).

إن التشخيص الذي قدمه الفاروقي لأمراض هذه الأمة تحدث عنها ابن خلدون كما هي، وسماها بأسمائها، من رؤية خاصة وتصور خاص قصد الوقوف على أسبابها ومسبباتها، ثم البحث عن الدواء الناجع لها واستئصالها من الأساس.

وبعد؛ فهذان عالمان كبيران رغم التباعد الزمني بينهما واختلاف منهجية التحليل بينهما فقد توصلا، مما لا يدعو إلى الشك، إلى أن التربية أداة قادرة على تحقيق الإنسان الذي يريدانه، فكان الإنسان عندهما هو أساس كل حضارة وصرح تقدمها وازدهارها.

وإذا كانت التربية بهذه الأهمية الكبرى؛ فإنها إذن الوسيلة الوحيدة التي تتطور بها المجتمعات، وتعمل على جعل أي فرد من أفرادها قادراً على مواجهة تحديات العصر.


الهوامش:  1- ولد جون ديوي بمدينة برلنجتون بولاية فيرمونت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1859م. وقد تلقى تعليمه في جامعة فيرمونت ثم انتقل إلى جامعة جون هوبكنز فحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1884. وفي عام 1894 انتقل إلى جامعة شيكاغو التي تأسست وقتئذ وعين فيها رئيسا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. توفي سنة 1952م. • من أبرز مؤلفاته: (الديمقراطية والتربية، التربية في العصر الحديث، المدرسة والمجتمع، مدارس المستقبل، المبادئ الأخلاقية، الخبرة والتربية،...) ينظر كتاب"أعلام التربية حياتهم وأثارهم" لأنطوان الخوري، دار الكتاب اللبناني بيروت، 1964م- ص: 197. ┊ 2- "قراءات في الفكر التربوي" محمد ناصر، وكالة المطبوعات الكويت، ط1/ 1973-1/ 449. ┊ 3- " المبادئ الأخلاقية في التربية" جون ديوي، ترجمة عبد الفتاح السيد هلال، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص: 19. ┊ 4- "المبادئ الأخلاقية"، ص: 25-28. ┊ 5- جون ديوي: "مدارس المستقبل"،ترحمة عبد الفتاح المنياوي، مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1962، ص56. ┊ 6- نفس المرجع، ص: 129، 130. ┊ 7- جون ديوي : "المدرسة والمجتمع"، ترجمة أحمد حسن الرحيم، مراجعة محمد ناصر منشورات، دار مكتبة الحياة بيروت لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1978، ص 50. ┊ 8- "المقدمة" ابن خلدون، تحقيق علي عبد الواحد، ط1/ 1960 القاهرة، ص: 949. ┊ 9- نفس المصدر السابق، ص: 949. ┊ 10- نفسه، ص: 949. ┊ 11- نفسه، ص: 949. ┊ 12- نفسه، ص: 990. ┊ 13- "مناهج التربية" غي بالماد، ترجمة جوزف عبود كبّه، منشورات عويدات، بيروت باريس، ط3/ 1985- ص: 33. ┊ 14- نفس المرجع السابق، ص: 34.┊ 15- "المبادئ الأخلاقية" ص: 30. ┊ 16- نفس المرجع السابق، ص: 30، 31. ┊ 17- "المقدمة" ص: 1286- 1287.┊ 18- "المدرسة والمجتمع" جون ديوي، ص: 31. ┊19- "المبادئ الأخلاقية" ص: 18. ┊20- "أسلمة المعرفة المبادئ العامة وخطة العمل" لإسماعيل راجي الفاروقي، ترجمة عبد الوارث سعيد، دار البحوث العلمية الكويت، ط1/ 1984- ص: 29.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها