البشرى

نادية أحمد محمد محمود

انفرجت شفتا أم سمير عن حروف باردة الحواف هامسة أنه لا شيء هناك، هو يعرفها جيداً، يقرأها من الألف إلى الياء، لذا ألصق نظراته بمسام وجهها باحثاً عما وراء تلك البسمة التي لفحته برودتها، والتي لم يرها أبداً طول حياتها معه، أخذت نظراته تتحسس الوجه، تنصت إلى خفق المسام، باحثة وراء كلماتها عن حقيقة يدرك جيداً أنها تخفيها عنه، لائذاً طول الوقت بصمت مغلف ببسمة أقرب ما تكون إلى الخيال، أو هي ظل بسمة يكاد يقرب من العبوس، عادت تقسم أنه لا شيء هناك.

شيء ما في سماته كان يشي بحزن دائم لا حد له؛ كأنه يعلم ما جرى لسمير ويكتمونه عنه، كانت رقدته تلك في حجرته قد طالت إلى درجة الاعتياد، صارت تلك العبارة الممقوتة واقعاً لا خلاف عليه (أبو سمير مريض لا يستطيع مغادرة الفراش)، سمير ولده الأكبر يقوم نيابة عنه بتعهد تجارته، ورعاية أمه وإخوته، وفي ذات الوقت يتابع علاجه بنفسه، فالأطباء لا ينقطعون عن زيارته ومحاولة دحر مرضه، وهو يؤكد على سمير أنه لا فائدة من المحاولة، وسمير يصر على ما يريد مقسماً أنه لن يتوانى عن مواجهة الأمر بكل ما لديه من قوة، ورغم رضاه الذي يخفيه حتى عن نفسه، إلا أنه كان يعلن للقاصي والداني أنه قد مّل من محاولات لن تجدي، ونقود تسيل في بحر لا يعرف اكتفاء...

صارت أم سمير تخشى لحظة الولوج من الباب لرؤية زوجها، تحاذر من لقاء عينيه، من توجس نظراته، تشعر كل مرة تدخل فيها عليه بنفسها مقبلة على اختبار لا قبل لها به، مضطرة إلى ارتداء قناع طالما رفضته، خافية في صدرها ألماً لا طاقة لها به.

تقول لابنتها -وهي تقص عليها ما جرى لها معه مساء اليوم-: إنه كان يقظ العقل، واعياً لما حوله، عيناه كعادتهما صافيتان كنهار ناصع البياض، ووجهه متورد لولا صرامة الحزن وشدته التي تنطق بها ملامحه، تساءل عن سر تقاعس سمير عن زيارته، ظل يرسل نظراته باحثة وبإصرار عنيد داخل عينيها وتعبيرات وجهها مدققاً عن شيء يشي له بما هناك، وهي تروغ منه متوارية خلف القناع الذي اضطرت إليه لإخفاء ما بها، وحتى لا يصبح الجرح جرحان، أبدت الابتسام وقلبها دماؤه تنوح، نطقت حروفاً عادية الرنين، وهي تتساءل بينها وبين نفسها كيف تمالكت نفسها إلى هذا الحد، كيف استطاعت أن تتقن التعامل بوجهين بهذه الكفاءة، هي التي طالما رفضت هذا، ورفضت كل من حاول التعامل به معها.. أخبرته أن سمير بخير، وأنه ما تقاعس عنه إلا لظروف سفر طارئ أجبرته على الرحيل، وأنه لم ينس أن يوصيها وإخوته عليه، فهو لا ينسى أباه ما دام حياً.. يتفجر في صدرها بركان أنين وتأخذها غصة، وهي تنطق بهذه الكلمات، تخشى الانهيار أمامه تتحرك فارة بأحزانها منه، هاربة من عينيه، يلحظها صامتاً حتى إذا اقتربت من الباب ناداها: أم سمير

شعرت بجسدها للحظة مصلوباً على حافة بركان، التفتت إليه ووجهها صفحة مكتوب على سطورها كل ما حاولت إخفاؤه طوال الأيام السبعة الماضية، حدقت عيناه طويلاً في تغضنات وجهها وذبول نظرتها وانطفاء بريقها، شردت نظراته بعيداً كأنما ينظر إلى عالم لا يراه غيره، بدأ يحدثها عن حلم رآه منذ ليالٍ، قص عليها بكل دقة تفاصيل الحادثة التي أودت بحياة سمير، ارتجفت روحها بين أضلعها، اجتاحها إعصار هائل حطم عظامها تحطيماً، لم تستطع الوقوف، انهارت مكانها جاحظة العينين، وفيضان الدموع يكسح لحظات الصمود والتصبر التي سبقته، ممزقاً كل الأقنعة التي حاولت التواري خلفها، وارتفع نشيج عات هز بدنها، لولا أن تدراكت نفسها لخاطرة فاجأتها في موقفها، خاطرة همست لها أنه يقول إنه يحكي حلماً، يتحدث عن كابوس، لذا عليها أن تعاود ارتداء قناعها المقيت لأجله، عليها الصمود، هي تعرفه، لن يتحمل صهد الحقيقة، سيحرقه إيلامها، مسحت عينيها وعادت إليه:

- أرعبتني يا حاج

لم ينطق بحرف، اكتفى بمواصلة نظراته المتفحصة المدققة إلى أن ألقت عليه تحية المساء، وأغلقت خلفها الباب ومضت عنه...

أيقظت أم سمير ابنتها قرب الفجر، كان وجهها باسماً ونظراتها حادة، وهي تهمس بما لديها، قالت: إنها قامت ليلاً إلى زوجها تطمئن عليه، كان البشر نوراً يملأ وجهه، تلقاها هاشاً، أجلسها بجانبه، قائلاً: إن سمير زاره هذه الليلة، سلم عليه، طمأنه على نفسه، أوصاه أن يبلغها سلامه ومحبته.. عادت الدموع تتبارى في الوثوب إلى جفنيها، نهرها برفق هامساً: إنها بُشرى، سمير بخير!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها