الدّبُّ الأبيض

محسن الوكيلي

ما إن يقف أمام الواجهة الزّجاجية حتّى تعصف الرّياح وتنثال نُدَفُ الثّلج، لتستعير المدينة برمّتها وجه العفّة والنّقاء. تتنازل الأمكنة عن خصوصياتها فتتلفّع برداء أبيض.

"تختفي السّيّاراتُ والشّوارعُ، تتوارى البناياتُ، ثمّ تنبت الأشجار من تراب ذاكرتي. من بعيدٍ تظهر الأغصان مثقلةً بالثّلج، ومن فوقِها الغيومُ تركب الرّيح. أمدّ لساني، أناديه:
- مرحبًا بك.
يستجيب. يقفز عبر الزّجاج، لنركض سويّاً، بعيدًا عن المدينة، عن الناس، وعن أسوار المدرسة. في قمّةٍ ما مِن قمم جبال الأطلس، حيث رحل أبي ذات مساء ولمْ يعدْ، يحكي لي قصّة موت أبيه، عن أمّه التي تحترق كلّ يومٍ كي يكبر أكثر".

يمرّر يدَهُ على جبهتِه فينتهي عالمٌ ويبدأ آخر، ترتفع سماء يقظة صحوة، ثمّ تتناسل الوجوه كما البنايات. يحمل محفظته مجدّداً، ثمّ يستأنف طريقه إلى حجرة الدّراسة متسلّقاً شارعَ الزّيتون.
في الصّفّ يكون على المُدرّسة أن تتعايش مع الدّبّ الأبيض في كلّ عبارة أو سطرٍ. يقحمه الصبيّ بإتقانٍ في كافّةِ الصّياغات اللّغوية التي تطلبها تطبيقاً لقواعد الدّروس، فيصير تارةً فاعلاً وأخرى مفعولا به، مبتدأ وخبراً، مضافاً أو مضافاً إليه.. يغزو رفيقُه كلّ الميادين، المتاجرَ والشّوارعَ وحدائقَ الأطفال.
احتجّتْ المُدرّسةُ يوماً بعدما سئمت من وجود الدّبّ في شتّى العبارات:
- تُردّد الدّبّ في كلّ عبارةٍ. هذا يكفي يا يزيد.
انتصب، تغضّن وجهُهُ وامتقعَ، ثمّ أعلن التّحدّي في جملةٍ أضحكتها:
- المكان الذي لا يدخلُه دبّي لا أدخله أبداً.
لمّتْ ضحكتها الرّنّانة، أضافت بنبرة الأمّهات:
- مرحباً بك، وبدبّك في حديقتنا.
لازمه الدّبّ الأبيض في كلّ مكانٍ، في الشّارع، المدرسة، البيت.. في اليقظة والأحلام، إلى أن تحوّل إلى أكبر حقيقةٍ في حياته.

"لا ينطلق يومي فعليّاً إلا إذا وقفتُ أمام واجهة المحلّ التّجاريّ، ولا ينتهي إلا أمامَهُ. أُحِيكُ له من خيوط كلّ صباحٍ قصّةً ببراعةِ ناسجاتِ الزّرابي، وأحبِكُ نهاياتِها، بعزيمتهنّ، من خيوط المساء".
- الدّببة تطيرُ، تسبح في الماء إذا ما شاءت، وتصطاد فرائِسَها بشرفٍ، فلا تغدر أبداً. الغادرُ الوحيد هو الإنسان الذي يقتل الدّببة ويجعل من فرائها لباساً.
هكذا ردّ على معلّمته اليومَ حينما قصّت عليهم حكاية دبّ قطبيّ.
ابتسمتِ المُدرّسة مجدّداً، طبطبتْ على ظهرهِ:
- حسناً يا يزيد، الدّببة حيواناتٌ جميلة، لكنّها لا تطير، تفترسُ بشراهةٍ، وتغطّ في النّوم أكثرَ من غيرها.
- هل تقتل بعضها؟ هيّا أجيبي؟
- كلا. أجابت بصوتٍ منتصفٍ.
- لكنّنا نقتل بعضنا.

خرج من الفصل قبْلَ انتهاء حِصَصِ المساء. توجّه إلى المحلّ التّجاريّ ليقابل رفيقه، ليعتذر عمّا قالت المُدرّسةُ في حقّه من بذاءاتٍ:
"كنتُ على علمٍ أنّ المُدرّسة تحبّني. بل أكاد أجزم أنّها عدّتني أحدَ أبنائها، لطالما منحتني الدّفاترَ، الأقلامَ وملابسَ رائعة.. كأمّي تداعبني برفقٍ، تحنو عليّ، لكنّها بقدرِ حبّها لي تكره الدّببة. إذا كرهتِ الدّببة قليلا فعليها أن تكره الإنسان أكثر بكثير، ذلك أنّ الدّببة تقتل لتعيش، أمّا الإنسان فيقتل لأجل المتعة.
هل تعلم المُدرّسة أنّ لصوصاً اعترضوا أبي وهو في طريقه إلى البيت؟ أنّ اللّصوص جرّدوه من ماله، لباسه، ولم يتورّعوا.. قتلوه ومضوا بحثاً عن صيدٍ آخرَ.
- الدّببة لا تسرق يا معلّمتي، لا تصنع لا القذائفَ ولا الرّصاص".

قال لها وهو يغادر الحجرة باستياء:
- تفترسُ بشراهةٍ، وتغطّ في النّوم أكثرَ من غيرها. لا بد أنك تتحدثين عن رؤسائنا.
تحت سماءٍ بقسماتِ طفلٍ غضبانٍ، فيما كانت رياح أواخر الخريف تذروا أمطارَ أوّل الشّتاء، إلى جانب شجرةٍ تخلّت عن آخر أوراقها، انتصب اليزيد مصعوقاً أمام واجهة المحلّ التّجاريّ:
"حدّقتُ فلمْ أرَه، بحثتُ عنه في زوايا أخرى، دون جدوى.. فكّرت للحظات أنّه غضب ممّا قيل في حقّه فقرّر الرّحيل عن عالمنا، لكنّني تراجعتُ، فالدّببة لا تتخلى عن أصدقائها.. ".

دخلَ المحلّ التّجاريّ لأوّل مرّة. بحثَ في أمكنةٍ أخرى، ثمّ سأل البائعةَ بفظاظةٍ:
- أين رفيقي؟
- من؟!
- الدّبّ الأبيض.
ابتسمت:
- آسفة.
- ماذا؟!
- لقد بيع قبل سويعاتٍ.
- أنتم تبيعون كلّ شيء.
- نعم نبيع كلّ شيء. هذا محلّ تجاريّ.
ردّد بأسى وهو يخطو عبر المجاز ليعانق رياح المغيب:
- نعم، هذا هو الإنسان، يبيع كلّ شيءٍ.
تساقطت الأمطار بغزارةٍ، واشتدّت الرّيح، فرقصت رؤوس الأشجار مهلّلة بقدوم العاصفة، وبدا وجهُ العالمِ كئيباً، خلت الشّوارعُ سريعاً من المارّة الذين تراكضوا محنيي الرّؤوس، كأنّهم بدورهم فقدُوا دببتهم البيضاء.

"استقبلتني أمّي في باب بيتنا الصّغير، دثرتني بغطاءٍ صوفيّ دافئٍ، قبّلتْ رأسيَ المبلّل، ثمّ تفحّصتْ معالمَ وجهٍ غاضبٍ. سألتني:
- كنتَ تبكي دبّك الصّغير؟!
- أجل.
مسحتْ شعر رأسي، داعبتْ وجهي بشيء ناعمٍ. عانقتُ الدّبّ الأبيض، ثمّ عانقتُها وبكيتُ".
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها