لذةُ النّص.. طوقُ الياسمين نموذجاً

وليد عزام



يقول رولان بارت: "يبدو أن واحداً من كل اثنين من الفرنسين لا يقرأ، وهذا يعني أن نصف فرنسا يحرم نفسه من لذة النص، وإننا نأسف على هذه النكبة الوطنية".

والقراءة من وجهة نظر رولان بارت Roland Barthes ليست استهلاكاً؛ إنّما هي إعادة صياغة للكتاب، وهي لا تتم بالمرور من كلمة إلى كلمة، بل المرور من مستوى إلى مستوى آخر. ففعل القراءة هو إعادة اكتشاف لا مجرد بحث عن معاني النصوص، وهو البحث عن التأثير الذي تتركه النصوص في القارئ؛ لأن اللذة تأتي مع قراءة النص. وفي رأيه أن النص المستحيل يبدأ مع قارئه فهو الصفحة البيضاء التي يكتب فيها النص جسده، والقراءة ليست الالتهام ولا الابتلاع ولكنْ هي الرعي بدقة، والجزّ بعناية، فيجب أن يكون المرء أرستقراطياً في القراءة، وحينها يمكن للذة أن تقال، ومن هنا يأتي النقد.

إن لذة النص تقتضي وجود القارئ الجيد القادر على سبر أغواره، واستكشاف مواطن الإبداع والجمال فيه، من أجل الوصول إلى الإغراء والفتنة والدهشة، واللذة الحارقة التي تسكن تحت جلد النص، وتظهر آثارها عبر الإحساسات والانفعالات التي ترافق عملية القراءة، حيث تنطوي على تأويلات لمعنى النص تعطيه دلالات قد تكون غائبة عن ذهن الكاتب، وبذلك يصبح القارئ مشاركاً في عملية صياغة النص، واكتمال نضجه. فالقراءة التكاملية هي التي تصل إلى عمق العمل الأدبي، وتفككه لتعيد تركيبه، فيصبح النص تعبيراً عن القارئ بعد أن كان تعبيراً عن الكاتب فكلاهما يلعب بالكلمات.

الرواية هي ميدان اللذة ومحرابها، ومن الفعل روى يبدأ المرء بالبحث عن أصله، وعن قوانين حياته، ويدخل في جدلية الحب والحقد.. فالسرد الجيد يُنتج رواية جيدة لا تكون اللذة عنصراً من عناصرها، ولكنها نتاجٌ لها؛ لأن نصّ اللذة ليس النصّ الذي يحكي عن الملذات، فالإباحية غير مأمونة النتائج.

كلمة النص تعني النسيج، والفكرة التوليدية التي يتخذها هذا النسيج لنفسه في التشبيك الدائم كالعنكبوت التي تذوب هي ذاتها في الإفرازات المشيِّدة لنسيجها. ولذة النص هي القيمة المتنقلة للكلمات (للدال الفاخر)، وهي رنة الكتابة في الصوت والبرغلة والانقباض والمداعبة والحك، وحينئذ تتحقق المتعة.

يصعب التفريق بين اللذة والمتعة عند بارت، فهما تتطابقان حيناً، وتفترقان حيناً، ويظل الفارق بينهما في الدرجة، فاللذة قابلة للوصف، بينما المتعة توصف من داخلها، وهي لا يمكن قولها إلا بين السطور.
 

واسيني الأعرج روائي جزائري فذّ، حقق قواعد اللذة في رواية "طوق الياسمين"، فجاءت روايته محكمة البناء شكلاً ومضموناً، ففي الشكل جمع بين السرد والرسالة والمذكرات والسيرة الشخصية من جهة، وبين الابتهالات والشعائر والقصائد والأناشيد من جهة أخرى. وفي المضمون حرص الكاتب على القيم الإنسانية والفلسفية العميقة معتمداً على سعة الفكر وقوة الخيال، وامتزاجه بالمشاعر والأحاسيس التي منحت الثراء للمضمون. فالمعرفة نفسها لذة حقيقية. وروايته تضج بالحياة إذ تحفل بالمحبة والألم والغواية، فالعشق بابها ومحرابها ومحورها ومرادها، فتحكي الرواية قصتين اثنتين، تنتهيان كلتاهما بالموت كخلاص للعاشق، ومعاناة للمعشوق من تباريح الهوى والفقد.

اللذة في رواية "طوق الياسمين" يتحسسها القارئ من معرفة النهاية أولاً، فتبدأ الروية من نهاية الحكاية في قبور المدينة حيث يرقد عيد عشاب إلى جانب مريم وطفلتها سارة. يقول بارت: (بالنسبة للقصة المأساوية التي نجهل نهايتها ثمة مسح للذة وتقدم قليل للمتعة)، بناء طوق الياسمين جاء وفق طريقة حديثة انطلاقاً من النهاية المعروفة ليبدأ التداعي بالارتداد التعاقبي عن طريق تكسير الزمن، وجعله يتشظى، والاسترجاعات المتتالية غير المنتظمة كموج البحر، ومع كل موجة تتضح التفاصيل أكثر، وكل ذلك من خلال ثلاثة أساليب: أولها ذاكرة الراوي، والثاني مذكرات عيد عشاب، والثالث رسائل مريم. وهذه الطريقة في البناء تحتاج قارئاً يحسن الفك والتركيب والاختزال والتكثيف؛ كي تتحقق لذة النص الذي لا يكتمل بناؤه إلا في ذهن القارئ. وترى نانسي كريس أن التداعي (عبارة عن آلة زمن ذات مصابيح قوية تضيء خلفية الأحداث، وتجعل الحاضر الخيالي أكثر وضوحاً وأكثر إثارةً)، وطوق الياسمين سلسلة من التداعيات المتتالية التي تم توظيفها وتنظيمها وترتيب ارتداداتها باستخدام تقنيات التداعي الطويل والقصير والمتوسط والومضة المتألقة، وكان التنقل بين السرد والمذكرات والرسائل جسراً للعودة بالزمن إلى الخلف، فالذي يحدث الآن قد مضى قبل عشرين عاماً، وهو يعود موثقاً برسائل الحب والعتاب والغضب، أكثر من خمس عشرة رسالة كتبت مريم فيها حبها وأحزانها وكانت توقّع كل رسالة منها وفق مقتضى حالها، يوظفها الكاتب في بناء روايته كجناح طائر.. ويوظف مذكرات عيد عشاب وأبوابها الخمسة عشر المشرعة جناحاً آخر لروايته التي كان هو جسدها ورأسها وقلبها الراعف.

وما يميز طوق الياسمين كنص للذة هو اللغة الساحرة، والأبهة الكلامية، وهو ما سمّاه رولان بارت (الدال الفاخر لكاتب يلعب مع جسد اللغة)، فالكاتب يستخدم اللغة العربية الفصحى للسرد، واللغة المحكية للحوار، مستعيناً بجمل من اللغة الفرنسية يحسن توظيفها مع ترجمة في الهامش، وتدخل الأناشيد وأبيات الشعر والتضمينات الأخرى في تشابك تناصي يمنح اللغة ذاتها دلالات فلسفية عميقة، فالكاتب يتعمد اللعب بالكلمات، واللغة في هذه الرواية تلعب دور البطولة، وهي التي تخرج القارئ من وضع، وتدخله في وضع، كما يفعل الحلم بعيد عشاب. فاللغة في طوق الياسمين تفيض كالأنهار أو تهدأ كالموت أو السكون، وما بين الحركة والسكون يولد الإيقاع وينبض ويتفاوت، فالإيقاع في مشهد العشق يختلف عن الإيقاع في مشهد المفاجأة أو الحزن أو الفرح أو الموت.

التكرار في طوق الياسمين له دوره الخطير، فهو يولّد المتعة، ويكثف الانطباعات، ويركّز الأضواء على كلمات محددة، أو مقاطع مؤثرة، يراد لها أن تظل عالقة بالذاكرة، (فمريم طفلة الأشواق الحزينة. والطفلة التي تعشق الورود الملونة. والطفلة التي تتعشق الأشياء التي تثير الدهشة. والطفلة التي تعشق الألبسة الوردية). فالتكرار هنا يثبت صفة الطفولة على مريم ويجعلها تلمع. وتكرار كلمة الشارع يخرجها عن المعنى المباشر كمكان للتنقل والانتقال إلى معنى أرحب تتوالد فيه طقوس الحب والعشق الذي ولد في شوارع المدينة وطرقاتها. المدينة أيضاً يتكرر ذكرها فتبدو حيناً كمكان بهيج تفوح منه رائحة الياسمين، وتحلق فيه أسراب الطيور والفراشات الملونة، وقد تلوثه رائحة النفايات والمازوت، وفي المدينة يولد الحب ويموت وتتهدم الجدران والقيم.

التكرار الأكثر تأثيراً هو الذي يملأ القارئ غبطة وفرحاً فيعيش النص لذة وسعادة، كما في تكرار مشهد طوق الياسمين الذي يأتي بعد باب النور في مصبات نهر بردى، مرّة يكون حلماً ومرّةً يصبح واقعاً، ومرّةً ذكريات تعود حيّة، وكل ذلك عبر إيقاعات وموسيقى سحرية للكلمات الفاخرة.

 التكرار سلاح ذو حدين وفق رؤية فانسون جوف، هو باعث الدهشة عندما يكون موظّفاً، وهو هادم لها عندما يكون تكراراً للمضامين، فتكرار باب اليأس في الرواية مرتين بطريقة النسخ واللصق قد يولد الملل والسأم، فالتكرار هنا لم يكن موفقاً ولا يراعي وقت القراءة ولا يضيف جديداً؛ لأن القراءة ليست مضيعة للوقت.

الانزياح في اللغة هو الذي يهيّج المشاعر، ويحرّك الخيال، (فالظلام يملأ العيون، والحزن يسد أبواب السماء فوق العشاق المنكسرين الذين تأكلهم الهموم، فيواجهون الشمس بعيون عارية، ويستمر المطر بالهطول، لتنبعث دلالات اللغة في الصمت القارس، والمفردات الصادمة، في دنيا بنت كلب، يسرح فيها القوادون والقتلة). اللذة نجدها في انزلاق الكلمات ودلالاتها، وفي اتساق الدال والملول، وفي نبرة الكتابة وكثافتها، مما يعطي لطوق الياسمين سحرها وإيقاعها، فبين سطورها يتحسس القارئ متعة الأدب، وينتشي بلذة نص مختلف كتبت عنه وحوله عشرات الدراسات والمقالات، واختلفت حوله الآراء، وتباينت الطروحات، ويظل لكتاب لذة النص لرولان بارت بريقه الخاص الذي يمكن أن يصبح أحد مناهج النقد، وهو بطاقة دعوة للجميع كي يبحثوا عن اللذة والمتعة والسعادة، التي تكون مخبأة في أجساد نصوص تتغاوى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها