رومانسية التجديد.. عند شاعر القطرين

مطران خليل مطران

حاتم السروي



كان الشاعر "خليل مطران" من بين أبناء جيله يمتاز بثقافته الفرنسية الراقية التي جعلته يرتبط وجدانيًا وإبداعيًا بالشعراء الفرنسيين، وهو شاعر لبناني ولد في "بعلبك" عام 1872م، وتلقى العلم في "زحلة" و"بيروت"، ثم ارتحل إلى باريس عام 1890م هاربًا من عسف الأتراك العثمانيين، والجو المُلَبَّد بالاستبداد والمؤامرات، ولسوء حظه لاحقته المؤامرات في باريس، فهرب إلى مصر واستقر فيها بدءًا من عام 1892، ونراه قد شارك في تحرير جريدتها الأشهر "الأهرام"، وقد أسسها أخوان من لبنان أيضًا وهما: سليم وبشارة تقلا. وفي عام 1935 أُسْنِدَت إليه في مصر إدارة الفرقة القومية للمسرح، وفي عام 1947 حاز لقب "شاعر القطرين" وهما مصر ولبنان.


ورغم الثقافة الفرنسية التي ألقت بظلالها على فكر مطران وأعماله؛ فإنه قد مد الجسور أيضًا إلى ثقافة الإنجليز، وراح ينهل منها على عادته في القراءة والمطالعة؛ إذ كان شغوفًا بتوسيع قراءاته وتعميقها، وقد تأثر أيضًا بالأدب الإنجليزي حتى إنه ترجم عن شكسبير بعض رواياته المسرحية: "عطيل، هاملت، ماكبث"، وإلى جانب ديوانه نجد له عددًا من الكتب الأدبية والاقتصادية، وقد وافاه الأجل سنة 1949م.

ويمكن القول إن مطران كان الرائد الأول لمدرسة القصيدة الرومانسية في مصر؛ فبعد أن قام جيل البعث بدوره، وعرفنا البارودي وشوقي، وإسماعيل صبري وغيرهم من رواد "الإحياء"، الذين فتحوا الباب لتلامذتهم حتى ينسجوا على منوال قصائدهم، ويخرجوا علينا بذلك الخط الإبداعي الذي يمكن تسميته بـ"الكلاسيكية الجديدة"، بعد هذا الفتح الإبداعي نظر جيلٌ جديد كان مطران على رأسة إلى شعر الإحياء وأصحابه، فوجدهم قد أكثروا من الالتفات إلى القديم، وعمدوا إلى محاكاته لدرجة أن كثيرًا من قصائدهم بدت وكأنها صدى صوتٍ للمتنبي وأبي تمام والبحتري، ومن شاكلهم من الشعراء القدامى، ثم نجد أن الغالب على ديوان شوقي وحافظ هو شعر المناسبات، وما يقال في الرثاء والتهنئة والمديح، وكل هذا صرفهم إلى حدٍ ما عن الشعر الوجداني، وتجربة الذات ورؤاها ومشاعرها، وكان الاهتمام بالصياغة في بعض الأحيان أكثر من الاهتمام بالمعنى والفكر والعاطفة، أما الوحدة الموضوعية للقصيدة فتكاد لا تلقى أدنى رعاية أو التفات.. تلك هي خلاصة النظرة الرومانسية لشعر الإحياء أو "الكلاسيكية الجديدة".

وابتداءً من عام 1900م شرع مطران خليل مطران في لفت الأنظار إلى أهمية أن يماثل الشعر الشعور، وأن تماثل القصيدة التصور والإحساس، وفي عام 1908م بدأ يشرح المبادئ الأساسية لمذهبه الشعري في مقدمة ديوانه، وفيها أكد على أهمية النظر إلى القصيدة في جملتها وليس في الأبيات المنفردة، وهذا إنما يكون من خلال النظر إلى "تركيبها" و"ترتيبها"، و"مواقفها" و"تناسق معانيها"، وبهذا خرج علينا بمفهوم "وحدة الموضوع" في مقابل "وحدة البيت"، التي درج عليها رواد المدرسة الإحيائية.

ولأن الشعر الأصيل والإبداع الحقيقي يفرض نفسه دائمًا؛ ولأن الشاعر صاحب الموقف والمؤمن بما يقوله ويدعو إليه يكون محل احترام حتى ممن لا يوافقه النظر؛ فإن شعر مطران ذاع وانتشر في الأوساط الأدبية، في وقتٍ كانت الكلاسيكية الجديدة فيه على عرش القمة في الإبداع العربي، فنحن نتكلم عن عام 1908 الذي نشر فيه مطران ديوانه، وكتب فيه عن مذهبه الرومانسي، وهي نفس الفترة التي كان يتألق فيها نجم شوقي وحافظ.

وميزة مطران الكبرى والتي لا نجدها عند شوقي وحافظ، هي تضلعه من الشعر الرومانسي عند الفرنسيين، وإن كان شوقي وحافظ –للإنصاف- اطلعا على بعض نتاج الأدب الفرنسي، وتأثرا به في بعض قصائدهما، على أن التأثير الأوضح للأدب الفرنسي كان عند مطران، الذي كان قد فر إلى فرنسا هربًا من اضطهاد العثمانيين الأتراك في لبنان، وكما نعرف فإن الطبيعة اللبنانية طبيعة جميلة ساحرة وخلابة، ولهذا تأثر بها مطران أيما تأثر، وهي التي جعلته يتوجه إلى الطبيعة في شعره، فتولدت بذلك الرومانسية عند مطران.

ولا يمكن أن ننسى بجانب ما سبق عواطف مطران، التي لا نجد لها وصفًا أصدق وأدق من كلمة "جياشة" مع إحساسه المرهف، وبذلك أصبح شعره متميزًا عمن سبقه بحرارة العاطفة، وصدق الإحساس، وعمق النفاذ إلى عواطفه وعواطف الغير، ودقة إحساسه بهذا الغير، مع التجربة الحقيقية العميقة، والحكمة التي تصدق عليها مقولة "إن من الشعر لحكمة"، وحب الجمال والخير والمثل العليا، والاتصال بالطبيعة، والخيال الذي أصبح له دور في التصوير، واللغة الحية النابضة التي تجمع بين الرشاقة والرقة، وتنأى عن الغريب والحوشي من الألفاظ، مع إدخال اليسير من اللمسات التجديدية على وحدة الوزن والقافية التقليدية، والمهم في هذه التجربة هو أن القصيدة أضحت وحدة شعورية تجمع بين مشاعر قائلها وقارئيه أو المستمعين إليه. كل هذا جعل شعره رومانسيًا تمامًا؛ فهذه الخصائص في شعر مطران هي عينها خصائص الشعر الرومانسي.

وفي قصيدته "المساء" نرى كل خصائص الرومانسية، فهو مثلًا يشتكي من الغربة فيقول:
إني أقمت على التَّعِلَّةِ بالمُنى ... في غربةٍ – قالوا- تكون دوائي
إن يشفِ هذا الجسم طيبُ هوائِهَا ... أيُلَطِّفُ النيرانَ طيبُ هواءِ؟
عبثٌ طوافي في البلاد وعِلَّةٌ ... في علةٍ منفاي لاستشفاءِ
متفردٌ بصبابتي متفردٌ ... بكآبتي متفردٌ بعنائي

وهنا يتبدى لنا الجانب الذاتي في التجربة الإبداعية، حيث إن الشاعر كان قد سافر إلى الإسكندرية طلبًا للاستشفاء من آلامه النفسية والعاطفية، وأيضًا آلامه الجسدية، وهذه الرحلة كان لها تأثير في مشاعره، حيث نراه يشكو من الغربة، ومن لوعته لفراق محبوبته.

والأبيات السابقة هي المفتتح أو المقدمة لما يأتي بعدها، فالقصيدة المطرانية فيها وحدة موضوعية تشملها من أول بيت إلى آخر بيتٍ فيها، وهو في البداية يشرح لنا دوافع الغربة وظروفها، وما أفضت إليه من نتائج، والتي هي التفرد بالشوق، والتفرد أيضًا بالكآبة والمعاناة.

ثم نجد ملمحًا رومانسيًا هامًا يتمثل في إشراك الطبيعة بعناصرها والتحدث إليها كما لو كانت حيةً عاقلة، وذلك بدايةً من البيت الخامس -حسب اختيارنا هنا، وليس حسب الترتيب الحقيقي للأبيات في الديوان- وحتى العاشر من القصيدة، فنسمعه يقول:
شاكٍ إلى (البحر) اضطرابَ خواطري ... فيجيبني برياحهِ الهَوْجَاءِ
ثاوٍ على (صخرٍ) أصمَّ ولَيْتَ لي ... قلبًا كهذي الصخرة الصمَّاءِ
ينتابها (موجٌ) كموج مَكَارِهِي ... ويَفُتُّها كالسُّقْمِ في أعضائي
و(البحر) خفَّاقُ الجوانبِ ضائقٌ ... كَمَدًا كصدري ساعة الإمسَاءِ
تغشى البرية كُدرَةٌ وكأنها ... صعدت إلى عينيَّ من أحشائي
و(الأُفْقُ) معتكر قريحٌ جَفنُهُ ... يغضي على الغَمَراتِ والأَقْذاءِ

وهنا نلحظ افتتانه بالطبيعة، وشغفه بها وتفاعله معها، واستيلائها على وجدانه، ومن ثمَّ على شعره، والأبيات محتشدةٌ كما نرى بألفاظ مثل: البحر، الصخر، الموج، الأفق.. ثم ينساب مطران من البحر وأمواجه، والصخرة التي فتَّ فيها موجه والتي يتمنى لو كان له قلبٌ من الحجر مثلها، ينساب مطران من هذا المشهد إلى مشهد لا يقل روعة، بل هو أجمل بلا شك، إنه مشهد الغروب، وبريشة الشاعر الساحر يكتب لنا:
ياللغروبِ وما به من عَبْرَةٍ ... للمُسْتَهاَمِ وعِبْرَةِ للرائي
أوَلَيْسَ نزعًا للنهارِ وصرعةً ... للشمس بين مآتم الأضواءِ
ولقد ذَكَرْتُكِ والنهار مُوَدِّعٌ ... والقلب بين مهابةٍ ورجاءِ
وخواطري تبدو تجاه نواظري ... كَلْمَى كدَامِيَةِ السحاب إزائي

نحن هنا بإزاء فنان يقول الرسم شعرًا وإن شئت فقل: يكتب الشعر رسمًا، فهذه الأبيات تمثل لوحة نرى فيها الغروب الذي فيه عبرة بفتح العين المهملة يعني دمعة، وذلك للمستهام أي العاشق، وفي الغروب أيضًا عِبرَة للرائي بكسر العين يعني موعظة للناس، فالنهار ينقضي كما تنقضي آلامهم وآمالهم، وليس في الدنيا ثبوت، ولا يقر على حالٍ لها شانُ.

 ونجد أن مطران لم يُخَلِّف تراث البلاغة العربية وراء ظهره، فهو لا يرى فيه ما يعيقه عن بث أحاسيسه، ومن ثم نراه يتمسك بأكثر أبواب البلاغة عرضةً لهجوم الحداثيين وهو (البديع)، ففي البيت الرابع من القصيدة، والذي أسميه بيت التفرد، وفيه يقول متفردٌ بصبابتي، متفردٌ بكآبتي... نجد حسن التقسيم، والذي يؤدي وظيفتين معًا: إحداهما موسيقية والأخرى معنوية، مما يشهد لمطران بعدم تكلف البديع، ويشهد للبديع بخدمة المعنى إذا أُحْسِنَ استخدامه، بل إن البديع يبدو في البيت الأول من القصيدة؛ فإنك تجد (الطباق) بين (أقمت) و(غربةً)، وهو يصف منفاه للاستشفاء بأنه علة، ففي هذا طباقٌ أيضًا، ثم كما رأيت تجد (الجناس الناقص) في (عَبرة) و(عِبرَة)، و(الترادف) في البيت الثاني عشر بين (نزعًا) و(صرعة)، ويضاف إلى ما سبق احتشاد القصيدة بالزخم البلاغي المتمثل في (الاستعارات) و(التشبيهات)، والتي أعجبني فيها تشبيهه لفَتّ السقم في أعضائه بما يفعله الموج الذي يفت في الصخرة، وهذا الموج عاتٍ مثل موج مكارهه، فقد صور ما يكدر عليه صفو حياته بالأمواج العاتية، وتتمثل بلاغته أيضًا في(الكناية) إلى غير هذا مما لن تبذل جهدًا في ملاحظته.

مما سبق يمكن القول إن تجديد مطران في موضوع الشعر أكثر من شكله؛ إذ اللمسات التي وضعها على الوزن والقافية لمسات طفيفة، ومن الواضح أنه احترم تراث الشعر العربي، وأن تجديده كان إضافةً وليس هدمًا على نحو ما نجد الآن عند بعض من يكتبون قصيدة النثر، ويبدو لنا جيدًا تأثره بالتراث الشعري العريق في لسان الضاد، وذلك في البيت الذي يقول فيه:
ولقد ذكرتك والنهار مودعٌ ... والقلب بين مهابةٍ ورجاء
فهو يذكرنا بقول عنترة في معلقته متغزلاً بعبلة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني ... وبيض الهند تقطر من دمي

ورغم هذا الفن الذى نرى الشاعر وقصيدته ينضحان به، فلا يفوتنا في الختام أن نذكر بعض مآخذ النقاد على القصيدة، ففي البيت الرابع عشر –حسب العد الذي التزمناه في هذه الدراسة الموجزة- يستخدم الشاعر كلمة "إزائي"، والتي قال البعض إنها غير شاعرية، كما أنها لم تضف جديدًا بعد كلمة "تجاه نواظري" في صدر البيت؛ وإنما جائت فقط للقافية، ونفس ما قيل عن "إزائي" من حيث عدم الشاعرية، قيل في كلمة "المترائي" في البيت الذي يليها.

لقد كان لمطران شرف ريادة الرومانسية العربية في الشعر، وهو الذي أضاء ذوات الشعراء، وصوَّرَ الطبيعة حية ممتزجةً مع نفسه، واتخذ من صورها ما يتعادل مع مشاعره الرقيقة، فلم يقتصر على تصويرها صماء بكماء؛ بل جعل ما فيها وكأنه صدىً لما يعتمل في صدره، وما في صدره صدىً للطبيعة، وليت شعري هل تعود الرومانسية في زماننا، لا أظن ولكنني أحلم، أليس من حقنا أن نحلم؟!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها