اللسانيات الحديثة.. من النظرية العامة للتواصل إلى تحليل الخطاب

عبد الله بن ناجي

أضحى حضور تحليل الخطاب بؤرة مركزية في اللسانيات الحديثة، ومجالاً تتقاطع في الانشغال به والاشتغال عليه العديدُ من العلوم الإنسانية، وهو ما يتطلب تحديد مفهوم دقيق لهذه الممارسة المعرفية والمنهجية من خلال البحث في أصولها وماهيتها وامتداداتها؛ لذلك يروم هذا المقال تقديم تأطير عام يتناول علاقة التواصل بتحليل الخطاب، يبرز كيف أسهمت النظرية العامة للتواصل باعتبارها فرعاً من فروع اللسانيات الحديثة في الانتقال من مستوى تحليل الجملة إلى مستوى تحليل الخطاب، ثم النظر في مسألة المفهوم وما تطرحه من إشكالات، بالنظر إلى عدم استقرار الباحثين في مجال تحليل الخطاب أنفسهم على تصور واضح ومكتمل ينضبط إليه تعريفه، وينتهي بنا البحث إلى محاولة تحديد مستويات تحليل الخطاب، التي تواجه واقع تعدد الخطابات وما يرافقه من إشكالات منهجية ترتبط بآليات التحليل، وتصب في الغاية التي يسعى محلل الخطاب بلوغها؛ هل يسعى محلل الخطاب للوصول إلى قواعد معيارية؟ هل يبحث في البنية اللغوية الناظمة للخطاب بمعزل عن ظروف إنتاجه أم أن لهذه الظروف حضوراً جوهرياً لبلوغ مقاصده؟ وإذا كان الخطاب- كل خطاب- ذا طبيعة تواصلية، كيف يمكن تحليله في سياقات تواصلية خاصة؟ هذه التساؤلات، يجيب عنها المقال من خلال المحاور الجزئية الآتية:

 

1. من تحليل الوضعيات التواصلية إلى تحليل الخطاب

منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين ظهرت دراسات تدعو إلى الاهتمام بالجانب الاستعمالي الفعلي للغة، بما في ذلك العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية، وعدم التركيز المطلق على بنيتها الداخلية؛ فتوجهت الأبحاث اللسانية إلى الاهتمام بالكيفية التي تؤدي بها اللغة الإنسانية وظيفتها الإبلاغية؛ والمعنى أن دراسة اللغة ينبغي أن تشمل، إلى جانب بنية اللغة، كل القرائن الحالية والمقالية التي لها دور في التبليغ والتواصل، ذلك أن اللغة "خصيصة إنسانية تلتقي فيها الحياة الذهنية والحياة الاجتماعية للمتكلمين بها، وهي أيضاً وسيلة هذا الالتقاء والتفاعل، وهذا ما دعا إلى إرساء قواعد لسانية جديدة تقوم على مثلث: اللغة والثقافة والشخصية"1؛ والنتيجة أن المناهج الشكلية والتصورات الصورية التي هيمنت على الدراسات اللغوية عرفت انتقادات منهجية تصب في مجملها حول إهمال الظواهر الكلامية، وعزل النظام اللغوي عن سياقه. هذه الانتقادات فتحت أبعاداً جديدة للدراسات اللغوية، حيث تولدت قناعات تُفيدُ "أنه لا يمكننا التطلع إلى فهم اللغة إذا لم نفهم الخطاب، ولن نفهم الخطاب إذا لم نراعِ الهدف منه [نيات المتكلمين ومقاصدهم]، وإذا لم نحاول معرفة مؤثرات السياق فيما نقول"2، فبدأ الاهتمام بالمقام باعتباره أحد جوانب المعنى، وظهرت تخصصات: علم اللغة الإثنولوجي، وعلم الاجتماع اللغوي، وعلم النفس اللغوي... والنتيجة: ظهور اللسانيات التداولية التي تهدف إلى دراسة اللغة في حالة استعمال، أي "دراسة الاستعمال اللغوي؛ تمييزاً لها عن الدراسة البنيوية التي تهتم باللغة باعتبارها نظاماً"3.

ظهور اللسانيات التداولية كان منعطفاً فارقاً في توجيه الدراسات اللغوية نحو تجاوز دراسة النظام بربط منظومة العلامات اللغوية بوظيفة اللغة، ووضْعِ الدراسات الشكلية على محك الاستعمال اللغوي، وتجاوز حدود الجملة بالانطلاق من الخطاب بحمولته الثقافية والاجتماعية. ذلك أن تخصصات عديدة تداخلت في التأسيس للتداوليات، منها: اللسانيات الوظيفية والمنطق والسيميائيات، والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع؛ وهو ما جعل منها "إطاراً معرفياً يجمع مجموعة من المقاربات تُشرِك عند معالجتها للقضايا اللغوية ثلاثة معطيات لها دور فعّال في توجيه التبادل الكلامي وهي: المتكلم والسياق والاستعمال"4. وبذلك شكلت تحولاً منهجياً غايته "إضفاء نظرة أكثر شمولية على اللغة، والتأسيس، بالتالي، للسانيات وفق منظور مغاير، محوره اعتبار اللغة فعلاً تواصلياً لا يمكن إدراكه إلا [باعتباره] سلوكاً إنسانياً شاملاً في إطار وضعيات تفاعلية تواصلية"5؛ وقد أسهم ظهور النظرية العامة للتواصل في إطار اللسانيات، وتقدم الدراسات التواصلية على يد العديد من الباحثين اللسانيين، في ظهور تصورات لغوية جديدة، حيث اعتبر هاليداي وظائف اللغة غير متناهية، وربطها باختلاف العشائر الإحيائية والأنماط الثقافية؛ "فهو يركز وظائف اللغة في ثلاث وظائف: الوظيفة التمثيلية والوظيفة التعالقية والوظيفة النصية، ويستفاد من تعريف هاليداي لهذه الوظائف الثلاث أنها وظائف مستقلة، إلا أنه بإمعان النظر في خصائص كل منها يتبين أن جميعها آيلة إلى وظيفة واحدة: هي وظيفة التواصل"6؛ وهو بذلك يعتبر الوظائف الثلاث إواليات تشكل أبعاداً متكاملة تصب في بوتقة وظيفة أساسية واحدة هي الوظيفة التواصلية، ودليله في ذلك أن عملية التواصل لا تتم إذا انتفت وظيفة من هذه الوظائف.

وفي السياق ذاته يذهب فان ديك إلى "أن التواصل عملية ذات بعد إخباري وبعد تعبيري وبعد استشاري، تتكامل كلها لتأدية وظيفة التواصل"7، فخِلافاً لما ذهب إليه تشومسكي يرى اللسانيون الوظيفيون "أن القدرة اللغوية لا تنقسم إلى قدرتين متمايزتين، قدرة نحوية وقدرة تداولية، بل هي نسق واحد من القواعد الصورية والقواعد التداولية المترابطة"8، وبذلك تتحدد القدرة اللغوية بكونها "نسقاً من المبادئ العامة التي تُزَوِّجُ بين الأغراض التواصلية الأساسية والوسائل اللغوية التي تتحقق بواسطتها هذه الأغراض"9، بمعنى أن الكفاية اللغوية هي قدرة لغوية تواصلية.

وقد استمر تقدم النظرية التواصلية، فاقترح بول غرايس نظرية في كيفية استعمال اللغة تتمثل في كون "الممارسة اللغوية نشاطاً يقوم على التعاون، فلا حديث حسب تقديره عن أي تخاطب ممكن ما لم يخضع أحد المتخاطبين، ويفترض أن غيره خاضع، لمبدأ عام هو مبدأ التعاون، [الذي يمكن تلخيصه في مبدإ]: لتكن مساهمتك في التخاطب ملائمة لما يقتضيه الغرض منه حين تشارك فيه"10؛ هذا المبدأ تتفرع عنه أربع قواعد هي: قاعدة الكم وقاعدة الكيف، وقاعدة العلاقة وقاعدة الصيغة، و"قائمة هذه القواعد تبقى مفتوحة، إذ يمكن أن تنضاف إليها مجموعة من القواعد الأخرى (جمالية واجتماعية ونفسية) من نوع: لتكن متأدباً"11؛ ولأن مقامات التواصل لا يمكن حصرها، فإن هذه القواعد وغيرها تشكل إطاراً لمفهوم الاستلزام التخاطبي، الذي يشكل خرقُ هذه القواعد مداراً له؛ ومنها أيضاً استنبط ديكرو قوانين الخطاب، ويعني بها مجموع "القواعد المتغيرة بتغير الثقافات، والتي يَفترِضُ كلُّ مشارك أن الآخر يحترمها"12 عند التبادل اللغوي. من جهة أخرى، واكبت نظرية غرايس، كما هو شأن كل نظرية علمية، العديد من التعديلات والاعتراضات، أتجاوز جميعَها لأقف على مبدإ الورود عند وولسن وسبربر؛ فمبدأ التعاون وما تولد عنه من مبادئ زيادة أو نقصاناً، هي مجموعة قواعد تخص الكيفية التي يتم بها تلقي الرسالة على اعتبار أن التواصل بنية تفاعلية يتفاعل فيها الطرفان معاً، فكان أن اقترحا قاعدة ورود الملاءمة، وقاعدة خلق الملاءمة باعتبارهما "قاعدتين توجهان المرسَل إليه إلى كيفية التعامل مع ما يعرض عليه من رسائل"13.

بهذا؛ يمكن القول إن النظريات التواصلية قد شكلت رافداً لتقدم الدراسات في مجال تحليل الخطاب، فظهرت محاولات لإعادة النظر في مختلف الترسيمات التواصلية، لإغفالها البعدين النفسي والاجتماعي؛ إذ "أمام المظهر الصريح الشفاف والآلي للتواصل يدافع بعض المؤلفين عن فكرة أن غاية التواصل البشري هي أساساً إنتاج المعنى وتأويله"14؛ فظهرت نظريات مختلفة أغنت تصورات التواصل اللغوي، منها: نظرية الإعلام والنظريات التداولية، وقوة أثر القول ونظرية أفعال الكلام، التي اهتمت بتوجيه القصد في الملفوظ، بالإضافة إلى إسهامات اثنية التواصل والاثنية المنهجية واللسانيات الاجتماعية، حيث برز منظور نفسي اجتماعي لغوي "يصف التواصل على أنه مجموعة من مستويات الإكراهات التي يحدد بعضها بعضاً وهي: مستوى الضغوط المقامية المتمثلة في الغائية، وإكراهات الهوية، والقول والظروف التي تحدد الخصائص الخِطابية والسيميائية"15؛ كما أن التيارات التفاعلية اعتبرت التواصل ضرباً من التفاعل الاجتماعي ونسقاً ثقافياً "وهذا ما يجعل الفصل بين ما هو اجتماعي وما هو لغوي أمراً متعذراً عند دراسة السلوك التواصلي الذي تحكمُهُ، على غرار بقية الأنساق الثقافية، مجموعة من القواعد والمعايير الضمنية"16، والمعنى أن دراسة الحدث التواصلي ينبغي أن تتم من داخل السياقات الطبيعية التي يجري في إطارها، وليس بدراسة بنية اللغة باعتبارها نظاماً مستقلاً بذاته؛ وتعد الكفاية التواصلية التي صاغها ديل هايمز أبرز المفاهيم التي وُظفت في نظريات تحليل الخطاب من خلال الربط بين السلوك التواصلي وسياقه الاجتماعي، وهو ما مكّن من تجاوز مستوى تحليل فعل التواصل ومكوناته إلى "مستوى تفسيري أعمق، تتنزل فيه الممارسات الخِطابية في إطار أشمل، فيه ينصهر اللغوي في الاجتماعي، وتُتخذ الممارسات التواصلية على اختلافها مَرقاة إلى ثقافة المجتمع ومعتقداته والمعايير التي تُوجه حياة أفراده"17.

المعنى الإجمالي لهذا المحور يُبرز أن المنحى الذي اتخذه البحث في وظائف اللغة والنظريات التواصلية، قد أسهم بشكل جليّ في تجاوز الدراسات اللسانية لحدود نظام الجملة، والانفتاح على دراسة اللغة في حالة استعمال، ومنه إلى تحليل الخطاب، باعتباره الوحدة الكلية القادرة على التمكين من فهم أشملَ للبنيات اللغوية وآليات اشتغالها.
 

2. تحليل الخطاب: السياق والمفهوم

معلوم أن تحليل الخطاب توجه لساني حديث، لم يكتمل تأسيسه بعد، رغم الكم الهائل من الدراسات التي أنجزت حوله وفي إطاره، فهو ليس تياراً تداولياً، وليس لسانياتٍ نصيةً أو لسانيات اجتماعية؛ إنه يستمد آلياته من كل هذه الفروع، ومن غيرها، لذا كان من الطبيعي أن تتباين تحديدات مفاهيمه وغاياتُه وحدودُ اشتغاله؛ وهو –أيضاً- ما خلق نوعاً من الاضطراب والصعوبة في ضبط جهازه المفهومي، بالنظر إلى تعدد واتساع الحقول المعنية بدراسة الخطاب، وتداخل المصطلحات المُوظفة في إطاره، والتي نادراً ما تكون أحادية الدلالة.

إن تحليل الخطاب لم ينشأ داخل علوم اللغة جرّاء فعل تأسيسي، بل هو ناتجٌ "عن تضافر تيارات حديثة، وتجديد لممارسات قديمة جداً في دراسة النصوص؛ بلاغية وفقه لغوية وهرمينوطيقية"18، تمحورت كلها حول الإنجازات التي تتجاوز الجملة؛ ففي التراث العربي الإسلامي ارتبط تحليل الخطاب [دون مُسمّى تحليل خطاب] بالبلاغة والنقد الأدبي والتفسير وعلوم القرآن؛ وكان أول ظهور للمصطلح في الدراسات اللسانية الغربية عند زيليغ هاريس سنة 1952، "بعد ظهور فرضيات جديدة تتصل باشتغال اللغة وبمناهج جديدة لتحليل الأنساق اللغوية... بمفعول مكتسبات متعددة من علم النفس اللغوي، وعلم الاجتماع اللغوي والتداولية واثنوغرافيا التواصل والاثنية المنهجية، وعلم اللغة النفسي والاجتماعي"19، حيث حصل الاقتناع بأن الوحدة القاعدية للنظام اللغوي هي النص وليست الجملة، وما دام التواصل هو حدث كلامي في سياق اجتماعي ما؛ فإن هذا المُعطى ينقلنا بداهة إلى دائرة الخطاب؛ ذلك أن "التواصل والتفاعل بين المتكلمين لا يتحققان عن طريق جمل أو عبارات معزولة؛ وإنما يتأتى ذلك عن طريق إنجازات كلامية أكبر وأشمل هي الخطاب، وعليه فإن مستوى الدراسة الذي يتناسب مع التصور الجديد للغة هو الخطاب"20؛ فالنص يشكل مظهراً بنيوياً مجرداً للخطاب، والخطاب تفعيل للنص في مقامات اجتماعية، وبهذا الاعتبار "لم يعد موضوع الدراسة اللسانية هو اللغة باعتبارها نسقاً من العلامات، بل الخطاب باعتباره وسيلة للتواصل"21، وبذلك ارتبط الخطاب نسقياً بفعل التواصل.

من حيث المفهوم، اتخذ مصطلح "تحليل الخطاب" تحديدات متنوعة، أقترح منها التعاريف الآتية:
◅ زيليغ هاريس: تحليل الخطاب هو "تَوَسُّع الطرق التوزيعية التقليدية لتشمل ما فوق الجمل من وحدات"22.
◅ فان ديك: تحليل الخطاب هو "دراسة الاستعمال الفعلي للغة من قبل ناطقين حقيقيين في أوضاع حقيقية"23.
◅ براون ويول: تحليل الخطاب هو "تحليل استعمال اللغة"24.
◅ جون ديبوا: "نسمي تحليل الخطاب، ذلك الفرع من اللسانيات الذي يُعنى بتحديد القواعد المتحكمة في إنتاج متوالية من الجمل تربط بينها علاقات بنيوية"25.
◅ محمد الأخضر الصبيحي: "يُعرف تحليل الخطاب بأنه دراسة النص في علاقته مع ظروف إنتاجه"26.

من هذه التعاريف التي مُنحت لمصطلح "تحليل الخطاب"، يمكن أن أستخلص حدّاً ذا قطبين أساسين: اللغة أو اللسان مقروناً بالاستعمال أو بظروف الإنتاج، باستثناء تعريف زليغ هاريس، وتعريف جون ديبوا اللذين سقطا في لسانيات النص؛ الأول حين ربطه بتطبيقات الطرق التوزيعية على ما فوق الجملة، والثاني بالبحث في العلاقات البنيوية التي تربط بين متوالية من الجمل؛ وعليه يمكن القول: إن تحليل الخطاب هو دراسةٌ للغة في حالة استعمال، أو للنص في علاقة بسياقه وظروف إنتاجه.

من حيث غاياته، يصعب إيجاد مهمة واضحة وصريحة لمحلل الخطاب؛ فهي في معجم اللسانيات "البحث عن طرائق للتحليل، أي قواعد ربط سيرورة الخطاب"27؛ وفي قاموس علوم اللغة لفرانك نوفو، هي بحث في "تمفصل اللغة حول معايير غير لسانية... ضمن استراتيجيات تخاطب ومواقع اجتماعية أو تاريخية"28؛ أما معجم تحليل الخطاب فيقصر الغاية القُصوى لتحليل الخطاب في أن "نُبرز ونؤول في آن واحد العلاقات التي بين انتظامية اللغة والمدلولات والأهداف المعبر عنها من خلال الخطاب... بمعنى أدق، هو نظر في التنظيم النصي في علاقة بمقام التواصل"29؛ إلا أن مانغونو يعتبره، أكثر من ذلك، نظراً في "آليات التلفظ التي تصل تنظيماً نصياً محدداً بموقع اجتماعي معين"30؛ وهي ذات الغاية التي حددها حاتم عبيد لتحليل الخطاب، حين جعل مهمة محلل الخطاب هي: "الكشف عن الإواليات اللغوية التي تتمكن من خلالها الممارسات الاجتماعية من إنتاج المعنى"31؛ وعند محمد الخطابي، وقفتُ على إضافة منهجية أخرى؛ فبالنسبة إليه، تحليل الخطاب "لا يهدف إلى وضع قواعد صارمة؛ وإنما إلى تتبع مظهر خِطابي معين للوقوف على درجة تكراره من أجل صياغة اطراده، بمعنى أن هدفه هو الوصول إلى اطرادات وليس قواعد معيارية"32.

من مجمل ما قيل يمكن القول: إن تحليل الخطاب يقوم على مستويين: مستوى تلفظي قاعدي، يبحث في أبنية النص المختلفة، ومستوى وظيفي، يبحث في تأثيرات هذه النصوص الاجتماعية، وذلك عبر اتجاهين متقابلين: مستوى الإنتاج، ومستوى الفهم والتأويل؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو: هل يتم تحليل أنواع الخطابات جميعها بذات الخطوات وذات الآليات؟
 

3. مستويات تحليل الخطاب

مستويات التحليل اللساني تعددت بتعدد النماذج النحوية، فمنذ أرسطو قدم العلماء نماذج للوصف اللغوي تتباين بحسب وجهة نظرها للغة؛ فإذا كان أرسطو اعتمد معايير منطقية، ودو سوسير النموذج البنائي، وبلوم فيلد العلاقات الشكلية القائمة بين المنطوقات، وهاريس النموذج التوزيعي، وتشومسكي النموذج التوليدي، فإن كاتز يعطي الأولوية للمعنى، "الذي ظل مدة طويلة ذا قيمة محدودة في الوصف والتحليل اللغويين، على مستويات اللغة الأخرى، فالمعنى هو ما يجعل اللغة لغة، وليست المستويات اللغوية إلا جوانب للمعنى، ويكون علم اللغة نتيجة لذلك دراسة معنى اللغة، حيث تتجه الوظائف الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية إلى الوظيفة الدلالية، وبهذا يتشكل فهم تام ودقيق للغة"33؛ وقد قدم شارل موريس ثلاث نواح يمكن معالجة اللغة من خلالها، هي: التركيب والدلالة والتداولية34.

إلا أن استقراء المعاجم والدراسات اللسانية بمختلف توجهاتها يُنبئ عن وجود ثمانية مستويات لسانية، هي: الصوتي، والصواتي، والتطريزي، والصرفي، والتركيبي، والمعجمي، والدلالي، والتداولي، إلا أن أغلب الدراسات التي تُعنى بالمجال تدمج الأصواتي والصواتي والتطريزي في مستوى واحد هو المستوى الصوتي؛ وعليه يمكن حصر مستويات التحليل اللساني للخطاب، في خمسة مستويات: صوتي وصرفي ومعجمي وتركيبي ودلالي وتداولي؛ الفصل بينها هو فصل منهجي فقط، إذ على مستوى التحليل تتداخل المستويات جميعها لفهم مقصود المتكلمين؛ فمادام إنتاج الخِطاب تتحكم فيه "عدة عمليات لغوية ونفسية واجتماعية ومعرفية تُشكل من الأجزاء وحدة منسجمة قائمة على قواعد تركيبية ودلالية وتداولية معاً، [فإن] الفصل بين هذه القواعد أو الاكتفاء بقسم منها [يؤدي] إلى خلل في التفسير"35. والمعنى، هنا، أن عملية التحليل تستحضر مختلف عمليات الإنتاج؛ بمعنى آخر: إن الفصل بين مستويات الإنتاج الخِطابي على مستوى التحليل قد يؤدي إلى نتائج جزئية مبتورة، وبما أن الخطاب "وحدة كلية كبرى، فإن دراسة أصواته وصرفه ونحوه ودلالته ليس كافياً، بل يجب أن نراعي العلاقة الجوهرية بين تلك المستويات"36، وبينها وبين سياقات إنتاجه. لكن، ما علاقة مستويات تحليل الخطاب بمسألة النوع؟

يتداخل مصطلح نوع الخطاب في الاستعمال مع الحقل الخِطابي باعتباره "مجموع الخطابات التي تتفاعل في زمن معين"37، ومع التشكيلة الخِطابية باعتبارها "كل نظام قواعد يؤسس وحدة مجموع الملفوظات المحددة اجتماعياً وتاريخياً»38؛ إلا أن المقصود بنوع الخطاب أو نمط الخطاب يرتبط أساساً بخصائصه اللغوية، حيث يُستعمل «للدلالة على أساليب التبليغ المحددة تاريخياً واجتماعياً»39. فإذا كان الحقل يحيل إلى مجموع خطابات تشهدها مرحلة زمنية معينة، والتشكيلة تحيل إلى مجموع ملفوظات تؤسس لخطاب معين، فإن النوع يحيل إلى الأساليب اللغوية المعتمدة في التبليغ. وأنواع الخطابات تتعدد بحسب زوايا التصنيف، حيث يقترح التنميط التقليدي المتوارث للخطابات تصنيفاً يُنطلق فيه من أحد المعايير بحسب الموضوع أو الآلية أو البنية40:
– تُصَنّف الخطابات من حيث موضوعها إلى خطاب ديني، وخطاب علمي وخطاب إيديولوجي أو سياسي.
– تُصَنّفُ الخطابات مِن حيث بنيتها داخل ما يُسمى الخطاب الفني إلى قصة ورواية وقصيدة.
– من حيث الآلية المُشَغَّلَة يُميَّزُ بين الخطاب السردي والخطاب الوصفي والخطاب الحجاجي.

لستُ معنيّاً هنا بتحديد aخصائص كل نوع من أنواع الخطاب، ولكنني أسعى، فقط، لبيان أهمية معرفة نوع الخطاب في فهمه وتأويله تأويلاً صحيحاً، بمعنى التأثير الذي يمارسه نوع الخطاب على عملية التحليل؛ ذلك "أن لنوع الخطاب تأثيراً حاسماً على تأويل الملفوظات، فلا يمكننا تأويل ملفوظ إن كنا لا نعرف إلى أي نوع ينتمي"41، كما أن نوع الخطاب "يحدد إلى حد بعيد خصائص الخطاب الداخلية؛ فلكل نمط خِطابي عالمه أو أسلوبه وبنيته"42، ولا تكمن هذه الخصوصية في المعجم وحسب، بل تشمل المستوياتِ اللسانية جميعَها. وبالصدد وضع مانغونو أربعة قيود محددة للنوع هي43:
• منزلة المتلفظين والمتلفظين المشاركين.
• الظروف الزمانية والمكانية للتلفظ.
• الموضوعات التي يُمكن إدراجها.
• الطول وطريقة التنظيم.

والإشارة واجبة لما يتعلق بتداخل أنواع الخطاب "من أبرز أمثلة ذلك أن آلية الحجاج تجدها في الخطاب العلمي وفي الخطاب الديني وغيرهما، بل يمكن القول إنها لا تكاد يخلو منها الخطاب الطبيعي بوجه عام"44؛ وقد تعددت المقاربات المقترحة لتحليل مختلف أنواع الخطاب، إلا أن أحمد المتوكل (2010) يقترح نظرية عامة ترصد الخصائص المشتركة لمختلف الأنواع تقوم على قدرتين مترابطتين: "قدرة تشمل معرفة المستعمِل لنسق لغته العام، وقدرة تخص معرفته الخِطابية التي تؤهله مبدئياً لإنتاج وتأويل الخطاب أيّا كان نمطه"45، وذلك عبر أربعة مستويات: صوتي وصرفي- تركيبي ودلالي وتداولي تتعالق فيما بينها داخل بنية الخطاب.
 

✧✧✧
 

أدى تراكم الدراسات اللغوية النوعية بفعل أبحاث اللسانيات الوظيفية، وفلسفة اللغة العادية إلى وضع كل المناهج الشكلية والتصورات الصورية على محك الاستعمال، فظهرت التداولية؛ وكان من نتائجها إعادة الاعتبار للاستعمال اللغوي، وجانب المعنى، والاهتمام بالظواهر الكلامية التي تجسد الوظيفة التواصلية للغة؛ هذه التوجهات اللسانية الجديدة أثمرت نقلة منهجية أخرى تمثلت في تجاوز حدود الجملة باعتبارها الوحدة القاعدية للوصف والتحليل اللغويين، والانفتاح على دراسة وحدة أشمل هي الخطاب. وذلك لأن الخطاب هو ما يشكل، على مستوى الواقع اللغوي، وحدة التبليغ والتبادل الكلامي، وليس الجملة؛ فكان من نتائج هذا التحول ظهور لسانيات الخطاب التي عُنِيت بتحليل الخطابات في علاقة بسياقاتها التواصلية، فتأثرت الدراسات اللغوية بالدراسات التواصلية من جهة، وأثر تحليل الخطاب في الدراسات التواصلية من جهة ثانية، فأصبح تحليل الخطاب التخصص الأكثر شيوعاً من بين تخصصات الدرس اللساني اليوم.

إن مقاربات تحليل الخطاب تضمنت العديد من التباينات، إلا أنها تكاد تُجمع على الغايات الاجتماعية للاستعمال اللغوي، وعلى الهدف العام لتحليل الخطاب، والمتمثل في إبراز انتظامية اللغة، وتأويل المدلولات التي تعبر عنها كل أنواع الخطابات؛ وبذلك يكون تحليل الخطاب دراسةً للتنظيم النصي في علاقة بالمقامات التواصلية، أي دراسة للخطاب، يقوم على مستويين يوظفان مستويات التحليل اللساني جميعَها، وفق منظور أشبه بالقاعدة العامة التي اقترحها أحمد المتوكل لتحليل مختلف أنواع الخطابات: مستوى البنية، وما تتضمنه من قواعد صوتية وصرفية وتركيبية ودلالية، ومستوى التداول بما يتضمنه من معطيات سياقية ومقامية؛ وإذا ما أفدت مما جاء به محمد الخطابي، يمكن أن أضيف أن تحليل الخطاب يقف عند حدود الاطرادات، وما يمكن أن يُستمد منها من دلالات، بعيداً عن أي محاولة للتقعيد المعياري الصارم.

وأشير، في ختام هذا المقال، إلى أنني تجاوزت العديد من التفصيلات الخاصة بالمنجز اللساني في الدراسات العربية الإسلامية؛ والأمر ليس تنقيصاً من قدر هذا المنجز، بل العِلّة هي الالتزام بالإطار الذي رسمته لهذا المقال؛ والحقيقة أن الدرس اللغوي العربي قد خلّف إرثاً وفيراً على مستوى المفاهيم والتصورات، وعلى مستوى مناهج التحليل لا يقل أهمية عما جاءت به اللسانيات الحديثة، سواء عند النحاة أو البلاغيين، أو علماء الأصول من خلال التمييز بين أنواع التراكيب والدلالات والمقامات التخاطبية.


الإحالات:
1 - Benveniste (E), Problèmes de linguistique générale- Gallimard- 1966- p: 16.
2. الصبيحي، محمد الأخضر- مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه- منشورات الاختلاف، الجزائر- ط 1- 2008 ص: 46.
3. المرجع نفسه، ص: 48، 49.
4. الإبراهيمي، طالب خولة- مبادئ في اللسانيات- دار القصبة للنشر، الجزائر- 2000- ص: 176، 177.
5. الصبيحي، محمد الأخضر- مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه- ص: 57.
6. المتوكل، أحمد- اللسانيات الوظيفية، مدخل نظري- منشورات عكاض- الرباط- 1989- ص: 50.
7. المرجع نفسه- ص: 51.
8. المرجع نفسه- ص: 76.
9. المرجع نفسه- ص: 77.
10. علوي، عبد السلام إسماعيلي - في المبادئ العامة للتواصل- مجلة مقاربات- ع 2- المجلد 1- 2008- ص: 54.
11. المرجع نفسه- ص: 55.
12. مانغونو، دومينيك- المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب- ترجمة: محمد يحياتن- الدار العربية للعلوم ناشرون، ومنشورات الاختلاف- الجزائر- ط 1- 2008- ص: 82.
13. المرجع نفسه- ص: 60.
14. شارودو، باتريك ومانغنو، دومينيك- معجم تحليل الخطاب- ترجمة عبد القادر لمهيري وحمادي صمود- دار سيناترا- 2008. ص: 111.
15. المرجع نفسه- ص: 112.
16. عبيد، حاتم- في تحليل الخطاب- دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع- ط 1- 2013- ص: 13.
17. عبيد، حاتم- في تحليل الخطاب- ص: 14.
18. شارودو، باتريك ومنغنو، دومينيك- معجم تحليل الخطاب- ص: 44.
19. المرجع نفسه- ص: 9.
20. الصبيحي، محمد الأخضر- مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه- ص: 55.
21 - Dubois (J), et autres - Dictionnaire de linguistique- Larousse Berger - Levrault, Nancy- Edit: 1985- P:157.
22. شارودو، باتريك ومنغنو، دومينيك- معجم تحليل الخطاب- ص: 44.
23. مانغونو، دومينيك- المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب- ص: 9.
24. المرجع نفسه- ص: 9.
25 - Dubois (J), et autres- Dictionnaire de linguistique- P:32.
26. الصبيحي، محمد الأخضر- مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه- ص: 73.
27 - Dubois(J), et autres - Dictionnaire de linguistique- P:157.
28. نوفو، فرانك- قاموس علوم اللغة- ترجمة: صالح الماجري- المنظمة العربية للترجمة- بيروت، لبنان- ط 1- 2012- ص: 145.
29. شارودو، باتريك ومانغنو، دومينيك- معجم تحليل الخطاب- ص: 45.
30. المرجع نفسه- ص: 44.
31 عبيد، حاتم- في تحليل الخطاب- ص: 26.
32. الخطابي، محمد- لسانيات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب- المركز الثقافي العربي- البيضاء- ط 2- 2006- ص: 49.
33. بحيري، سعيد حسن- علم لغة النص: المفاهيم والاتجاهات- الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان- 1997- ص: 92.
34 - Charaudeau (P), et Maingueneau (D)- Dictinnaire d’analyse du discours- Seuil- Paris- 2002- p: 454.
35. بحيري، سعيد حسن- علم لغة النص: المفاهيم والاتجاهات- ص: 105، 106.
36. بحيري، سعيد حسن- علم لغة النص: المفاهيم والاتجاهات- ص: 98.
37. مانغونو، دومينيك- المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب- ص: 14.
38. المرجع نفسه- ص: 62.
39. المرجع نفسه- ص: 65.
40. المتوكل، أحمد- الخطاب وخصائص اللغة العربية، دراسة في الوظيفة والبنية والنمط- منشورات الاختلاف- ط 1- 2010- ص: 25.
41. مانغونو، دومينيك- المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب- ص: 66.
42. المتوكل، أحمد- قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، بنية الخطاب من الجملة إلى النص- دار الأمان- الرباط- 2001- ص: 23.
43. مانغونو، دومينيك- المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب- ص: 66.
44. المتوكل، أحمد- الخطاب وخصائص اللغة العربية، دراسة في الوظيفة والبنية والنمط- ص: 26.
45. المرجع نفسه- ص: 29.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها