من أعظم المخترعين في عالم الميكانيكا

بَديعُ الزمان الجَزرِي..المُصمِّمُ البارع

وفيق صفوت مختار

من أعظم المخترعين والمهندسين في عالم الميكانيكا على مدار التاريخ، اخترع الآلات ذاتية الحركة التي تعمل بالماء، كما اخترع السَّاعات المائيَّة، والآلات الهيدروليكيَّة. وُلد «بَديع الزمان أبو العز بن إسماعيل الجَزرِي»، المُلقب بـ«الجَزرِي» في عام 1136م، في منطقة جزيرة ابن عُمْر التي تقع اليوم في الأقاليم السوريَّة الشماليَّة على نهر دجلة. وتُوُفِّيَ في عام 1206م.

 

عمل كبير المهندسين في ديار بكر (آمد) شمال الجزيرة الفراتيَّة. وقد حظي برعاية حكام ديار بكر من بني أرتق، ودخل في خدمة ملوكهم لمدة (25) عامًا، وذلك ابتداء من عام 1174م، فأصبح كبير مهندسي الميكانيكا في البلاط.

صمَّم «الجَزرِي» آلات كثيرة ذات أهمية كبيرة، كثيرٌ منها لم يكن معروفًا في أي مكان في العالم من قبل. من آلاته: آلات رفع الماء، وساعات مائيَّة ذات نظام تنبيه ذاتي، وصمامات تحويل، وأنظمة تحكُّم ذاتي.. وغيرها الكثير، وقد شرحها في مؤلَّفه الرائع المزود برسومات توضيحية، والذي أطلق عليه: «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل».

1. العمود المرفقي وآلية المرفق المنزلق: ففي عام 1206م، ابتكر العمود المرفق البدائي، والذي دمج مع آلية مرفق ذارع التوصيل في مضخته ذات الأسطوانة المزدوجة، مثل العمود المرفق الحديث، كانت آلية «الجَزرِي» تتكوَّن من عجلةٍ تضع العديد من مسامير المرفق في مسار تحرُّكها، وتكون حركة العجلة دائريَّة وتتحرَّك المسامير ذهابًا وإيابًا في خطٍ مستقيمٍ. العمود المرفقي الذي وصفه «الجَزرِي» يحول الحركة الدوارة المستمرة إلى حركةٍ تردُّديَّةٍ خَطِّيَّةٍ، وهو أساس مهم للآلات الحديثة، مثل: المُحرِّك البخاري، ومُحرِّك الاحتراق الداخلي، وأدوات التحكُّم الآليَّة. استخدم العمود المرفق بقضيب توصيل في اثنين من آلات رفع المياه: مضخة سلسلة السَّاقية المدفوعة بآلية المرفق، ومضخة شفط المكبس مزدوجة الفعل.

يقول مؤرِّخ التكنولوجيا الإنجليزي «دونالد روتليدج هيل» (1922ـ 1994م): «نرى للمرَّة الأولى في عمل الجَزرِي عدة مفاهيم مهمة لكُلٍّ من التصميم والبناء: تصفيح الأخشاب لتقليل التشوُّه إلى أدنى حدّ وتحقيق التوازن الثابت بين العجلات، واستخدام قوالب خشبيَّة (نوع من النماذج) ونماذج الورق لإنشاء التصاميم، ومعايرة الفتحات وطحن المقاعد والمقابس للصمامات مع مسحوق الصنفرة ليلائم الماء، وصبّ المعادن في صناديق مقفلة مغلقة بالرمل».

2. آلات رفع المياه: حيث اخترع «الجَزرِي» خمس آلات لرفع المياه، وكذلك طواحين مائيَّة وعجلات مائيَّة مع حدبات على محورها تستخدم لتشغيل الآلة، منها: مضخات سلسلة السَّاقية: وذلك لجمع المياه التي تُدار بالطاقة الكهرومائيَّة بدلاً من العمل اليدوي. زوَّدت آلات الساقية بالمياه في «دمشق» منذ القرن الثالث عشر وحتى العصر الحديث، وكانت تستخدم بشكلٍ يومي في جميع أنحاء العالم الإسلامي في العصور الوسطى.

كذلك اخترع مضخة شفط مزدوجة الفعل مع الصمامات وحركة المكبس التردُّديَّة، حيث شغلت هذه المضخة بواسطة عجلة مائية، والتي تعمل من خلال نظام التروس على فتحة قضيب التذبذُّب الذي تعلق عليه قضبان مكابس. تعمل المكابس في أسطواناتٍ معاكسة أفقيًّا، وتُزود كُلّ منها بأنابيب الشفط التي تديرها الصمامات، كما توصل أنابيب التوصيل فوق مركز الماكينة لتشكيل مخرج واحد في نظام الرّي. كان لآلة رفع المياه هذه أهمية مباشرة لتطوير الهندسة الحديثة.

3. السَّاعات: فقد صنع «الجَزرِي» مجموعة متنوعة من السَّاعات المائيَّة والسَّاعات الشمعيَّة. تضمَّنت هذه السَّاعات ساعة محمولة تعمل بالكهرباء والتي كان ارتفاعها مترًا ونصف المتر، وأعيد صُنعها بنجاحٍ في متحف العلوم في عام 1976م. اخترع «الجَزرِي» أيضًا ساعات فلكية ضخمة تعمل بالمياه.

من أهم أنواع السَّاعات التي اخترعها «الجَزرِي»، ما يلي:

أـ السَّاعات الشمعيَّة: وصف المؤرِّخ التكنولوجي «دونالد روتليدج هيل»، إحدى السَّاعات الشمعيَّة لـ«الجَزرِي» على النحو التالي: «كانت الشمعة -التي كان مُعدل حرقها معروفًا- في الجهة السفلية من الغطاء، ويمرر الفتيل عَبْر الفتحة. يُجمع الشمع ويمكن إزالته بشكلٍ دوري حتى لا يتداخل مع الحرق المستمر. يوجد قاع الشمعة في طبق ضحل له حلقة على جانبه متصلة عَبْر البكرات بوزنٍ موازن. عندما تحترق الشمعة، يدفعها الوزن للأعلى بسرعةٍ ثابتةٍ تشغل تلك الآلية الذاتية من الطبق في أسفل الشمعة. لا توجد ساعات شمعة أخرى معروفة تحمل هذا التطوُّر».

ب. ساعة الفيل: كانت هذه السَّاعة الأولى التي تفاعل فيها الأوتوماتون Automaton (الآلة ذاتية التشغيل‏) بعد فواصل زمنية مُعيَّنة (في هذه الحالة، روبوت بشري يصيب الصنج والطيور الروبوتيَّة الميكانيكيَّة)، وأوَّل ساعة مائيَّة تسجل بدقةٍ مرور السَّاعات الزمنية لتتوافق مع طول غير متساو من أيام طوال العام.

ج. ساعة القلعة: وكانت أكبر ساعة فلكية لـ«الجَزرِي»، فهي عبارة عن جهاز مُعقَّد يبلغ ارتفاعه حوالي (11) قدمًا (أي 3,4 مترًا)، وكان له وظائف مُتعدِّدة إلى جانب ضبط الوقت. تضمَّنت عرضًا للبروج والمدارات الشَّمسيَّة والقمريَّة، وكان للجهاز أيضًا ميزة مبتكرة، حيث يوجد مؤشر على شكل هلال القمر الذي يتحرَّك عَبْر الجزء العلوي من البوابة، وينقل بواسطة عربة خفية ليتسبَّب في فتح أبواب أوتوماتيكيَّة ليكشف كُلّ باب عن عارضة أزياء، كُلّ ساعة. ميزة مبتكرة أخرى هي القدرة على إعادة برمجة طول النَّهار واللَّيل من أجل حساب التغييرات التي طرأت على مدار العام.

من أهم مؤلَّفات «الجَزرِي» العلميَّة: كتاب «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل». وقد بدأ تأليفه في عام 1181م، وأتمّه في عام 1206م؛ أي أن الكتاب كان نتيجة عمل دام (25) عامًا من الدراسة والبحث. في هذا العمل قدَّم عددًا كبيرًا من التصاميم والوسائل الميكانيكيَّة، إذ قام بتصنيف الآلات في (6) فئات حسب الاستخدام وطريقة الصنع، وكانت هذه أساسًا للتصنيفات الأوروبيَّة في عصر النهضة. وفي الكتاب دراساته وأبحاثه في السَّاعات، والفوارات المائية، والآلات الرافعة للماء والأثقال. ويُعدّ الكتاب أروع ما كتب في القرون الوسطى عن الآلات الميكانيكيَّة والهيدروليكيَّة. وقد أبهرت اختراعاته المهندسين على مرِّ العصور، كما أنَّ كتبه مترجمة إلى عدة لُغات أجنبيَّة.

توجد نسخة من هذا الكتاب في عددٍ من المتاحف العالميَّة: كالباب العالي في «إسطنبول» العاصمة التركيَّة، و«متحف الفنون الجميلة» في «بوسطن» بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، و«متحف اللوفر» في «فرنسا»، و«مكتبة جامعة أوكسفورد» بالمملكة المتحدة.

وقد اشتهر الكتاب كثيرًا في الغرب، وقام بترجمة بعض فصوله إلى الألمانيَّة كُلّ من: «فيدمان» Wiedmann، و«هاوسر» Hawser في الربع الأوَّل من القرن العشرين. كما ترجمه إلى الإنجليزيَّة «دونالد روتليدج هيل» ‏المتخصِّص في تاريخ التكنولوجيَّا العربيَّة. وقد أصدر معهد التراث العلمي العربي في «حلب» بـ«سورية»، عام 1979م النصّ العربي، بعد أن قام بمراجعته وتحقيقه المُؤرِّخ الفلسطيني «أحمد يوسف الحسن» (1925ـ 2012م).

لقد كان علم «الجَزرِي» أحد أسس النهضة العلميَّة في الحضارة العربيَّة التي انتقلت فيما بعد إلى أوروبا. فقد اعترف العَالِم الأمريكي «لين تاونسند وايت» Lynn Townsend White‏ (1907ـ 1987م)، والكثير من علماء الغرب أنَّ الكثير من تصاميم الآلات التي ابتكرها «الجَزرِي» قد نقلت إلى أوروبا، وأنَّ التُروس القطعية ظهرت لأوَّل مرَّة في مؤلفات «الجَزرِي»، وأنَّها لم تظهر في أوروبا إلَّا بعده بقرنين من الزمان متمثلة في ساعة الإيطالي «جيوفاني دوندي» Giovanni Dondi (1330ـ 1388م) الفلكيَّة. كما كان «الجَزرِي» أوَّل مَنْ تحدَّث عن ذراع الكرنك. كما ابتكر «الجَزرِي» آلات رفع المياه، واستخدم الكرات المعدنيَّة للإشارة إلى الوقت في السَّاعات المائية.

كما تكمن أهمية تصاميم «الجَزرِي» بأنَّ كافة آلات رفع الماء المعقدة ذات الزنجير والدلاء الموضوعة قبل زمانه كانت تدور بقوّة دفع الحيوانات وليس بقوّة الماء، وبذلك يكون أوَّل مَنْ وضع أساس الاستفادة من الطاقة الكامنة للمياه بشكلٍ عملي.

 

 الصورة الرئيسية: لعبة موسيقية من اختراعات الجزري (من كتاب الحيل)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها