الأسئلة الجدَليّة.. في شِعر أمجد ناصر

د. مازن أكثم سليمان

تنبسطُ الأسئلة المحوريّة في نصوص الشّاعر الرّاحل أمجد ناصر عبرَ جدليّاتٍ عدَّة، وإذا كانَ من الصَّعب حصر هذهِ الجدَليّات في مُقارَبة واحدة، فإنَّهُ يُمكِنُ، من حيث المبدأ، إقامة ربط أوَّليّ (إجرائيّ) بينَ بعض الجدَليّات المُهيمنة والأسئلة الرَّئيسة في هذهِ القصائد، كأسئلة الذّات والعالَم والوجود والشِّعر، وصلة هذهِ الأسئلة بجدليّة المُطابقة والتَّشظِّي، وجدَليّة الحاضِر والغائب، وجدَليّة اليوميّ والكُلِّيّ، وجدليّة الرُّؤية والرُّؤيا، وهيَ المسألة التي سنحاول إضاءتَها في هذا البحث بتحليل نماذج من ديوان "شقائق نعمان الحيرة"، الذي هو مختارات من شعر أمجد ناصر على امتداد تجربتِهِ.
 


 


أوَّلاً:  سُؤال الذّات في جدَليّة المُطابَقة والتَّشظِّي

قالَ الشّاعر في قصيدة "هجاء": "كصقرٍ مُحطمِ القلبِ/ كعاصفةٍ بلا أسنان/ سأتكئُ على حافّةِ المدينة/ وأصدُّ بظهري شظايا الأصدقاء/ وأتذكّر غليونَ جدتي الطويلَ/ ولن أتوهَمَ فتوحاتِ العرب الأُولِ/ وبعد ذلك لن أعتقدَ أنّ باريسَ مربطُ خيلِنا/ ولن أنتحبَ على جبال "البرانسِ"/ وهي تذوبُ بين أيدينا كقالَبِ ثلجٍ/ ولن أرفعَ أكمامَ ردائي/ من أجل "الغافقيّ"/ وحين يمرُّ موكبُ ملوكِ بني الأحمرِ/ أمام قدميَّ/ لن أكلَّفَ حاجبيَّ بالتحية/ سأظلّ أذكرُ السيفَ والنطعَ/ سأظلّ أذكرُ الذهبَ والفضّةَ/ سأظلّ أذكرُ الجوعَ والفيافي/ سأظلّ أذكرُ الصعاليكَ والأيائلَ/ يجيئون للشرب من راحة يدي المثقوبة./ وأنا متكئ على حافةِ المدينة/ مُحطم القلبِ كصقرٍ/ مُنقطع الجذورِ كعاصفة". (الصَّفحتان 47 - 48).

يتأسَّسُ سُؤال الذّات في هذهِ القصيدة على مُمارَسة النَّقد بمعنى مجازيّ، ولهذا يُعنون الشاعر نصَّهُ بـِ"هجاء"، حيثُ تنبسطُ جدَليّة المُطابَقة والتَّشظِّي عبر تحريك الذّات بينَ الأنا الجمعيّ (العربيّ)، الذي يُسبِّبُ الألم لذاكرتِهِ وكينونتِهِ، والذّات الفرديّة التي تُحاوِلُ الانفكاك من مُطابَقة هذا الأنا، فلا تجني إلاّ التَّفتُّت والتَّشظِّي والمُباعَدة المُوجِعة. ولهذا يحاولُ أمجد أنْ ينزاحَ عن مُطابَقة الأنا الجمعيّ، فيقول مثلاً: "ولن أتوهَمَ فتوحاتِ العرب الأُولِ/ وبعد ذلك لن أعتقدَ أنّ باريسَ مربطُ خيلِنا"، ونلاحظُ هُنا ضمير (نا) العائد على الجماعة، لينتهيَ المطاف بالشّاعر إلى ما بدأ بهِ القصيدة، وهوَ النَّأي -كما يتمنّى ويُحاول- بذاتِهِ الفرديّة المُستقلَّة عن الجماعة، ولذلكَ يذكرُ "الصَّعاليك"، لكنَّ المُفارَقة أنَّ هذهِ الذّات الميّالة للقطيعة والانفصال هيَ ذاتٌ مُتفكِّكة ومنخورة ومُفتَّتة، فيدُ الشاعر التي يشربُ من راحتها الصَّعاليك "مثقوبةٌ" مُتشظِّية، وهوَ مُحطَّم القلب كصقر، ومنقطع الجذور كعاصفة: "سأظلّ أذكرُ الصعاليكَ والأيائلَ/ يجيئون للشرب من راحة يدي المثقوبة./ وأنا متكئ على حافةِ المدينة/ مُحطم القلبِ كصقرٍ/ مُنقطع الجذورِ كعاصفة".

قالَ الشاعر في قصيدة "غريبٌ مكلومٌ بمنجل العذراء": "أجلسُ بين الأهلِينَ ولا أُسألُ عن اسمٍ،/ نسَبي هناك/ يرمي حطباً في جوف الليل/ ويعطي العابرَ أوصافاً/ ليس لي ما لهم لأنام،/ يدي/ ولساني/ يدلاّن/ عليَّ./ جنحتُ إليكِ بلا دليلٍ/ قلتُ يا بُشرى هذه أرضُكِ لاحتْ/ وقبابُكِ حَصْحَصَتْ./ يدُكِ تدني وتُقصي/ قميصُكِ يكنزُ ما يسيلُ له اللعابُ،/ أدخليني مَدْخَلَ ضيقٍ/ لنصعدَ بالألم./ ليس هيناً دخولُ المُلكِ من استدارة الخاتم./ ليلُ سهرٍ وحُمّى/ ألمسُكِ من الطرف الموجعِ/ أغريكِ بالرِّيحان/ وحليبِ الإبلِ الخاثرِ/ أنا الغريبُ المكلومُ بمنجلِ العذراءِ/ أطلب ثأراً عاجلاً/ من ترفّعِ الكتفينِ/ باذخينِ/ لا تصلهما سهامٌ/ ولا تُدنيهما رحمات" [الصَّفحتان 127-128].

يبدأُ الشاعر بنفي أناهُ الجمعيّ، فيقول: "أجلسُ بين الأهلِينَ ولا أُسألُ عن اسمٍ،/ نسَبي هناك/ يرمي حطباً في جوف الليل/ ويعطي العابرَ أوصافاً/ ليس لي ما لهم لأنام"، وهو إذ يُعلِنُ انشقاقَهُ واختلافَهُ وخروجَهُ من المُطابَقة هُنا: "ليس لي ما لهم لأنام"؛ يُعلنُ بهذا، أيضاً، تشظِّي ذاتَهُ المُتحرِّرة من الانتماء، والغائصة في تشتُّت "الألم" و"السَّهر" و"الحُمَّى" و"الوجع": "أدخليني مَدْخَلَ ضيقٍ/ لنصعدَ بالألم./ ليس هيناً دخولُ المُلكِ من استدارة الخاتم./ ليلُ سهرٍ وحُمّى/ ألمسُكِ من الطرف الموجعِ".

إنَّ الانفكاك من مُطابَقات الأنا للفوز بفردانيّة الذّات لهُ ثمنٌ باهظ، والاغتراب الغامر في الانتماء للجماعة، يُقابلُهُ الاغتراب الفرديّ في الانتماء لذات تُحاوِلُ التَّحرُّرَ من الهُوِيّات الموروثة والمُسبَّقة، ولهذا يجهرُ أمجد بملء صوتهِ بغربته وتشظِّي ذاتِهِ: "أنا الغريبُ المكلومُ بمنجلِ العذراءِ"، ولعلَّ ثأرَهُ من كُلِّ انتماء ليسَ سوى فَجوة جديدة تتباعدُ، ولا تصلُ إليها "سهامٌ"، أو "رحمات": "أطلب ثأراً عاجلاً/ من ترفّعِ الكتفينِ/ باذخينِ/ لا تصلهما سهامٌ/ ولا تُدنيهما رحمات".

قالَ الشاعر في قصيدة "قصيدة عن الوحدة في مقهى": "لستُ وحيداً لأنني أُكلِّم نفسي وأرشِفُ قهوتي بصوتٍ مسموعٍ ما يثيرُ/ حَنَقَ رجلٍ يتأملُ ارتفاعَ الضُحى على طوار المشاة. ولستُ وحيداً لأن/ الضُّحى لم يتركْ لي سوى أحلاسِهِ الحامضةِ وما تولّى عنه الذاهبونَ/ إلى أدوارِهم. بل لعلني وحيدٌ لأن يدي لا تحركُ ساكناً وعيني لا تغُرّها/ العلامات. لا أتخيل شيئاً أكثرَ مما ترفعُه مرايا الظهيرةِ أمامي:/ أقواسٌ./ أكتافٌ متينة لعابرين./ لا أقطعُ وعداً لأحدٍ/ ولا أنتظر./ فحياتي أخفُّ من أن تحتمل ذلك" [الصَّفحة: 179].

يبدو الصِّراع بينَ مركزيّة الأنا وتشتُّت الذّات جليّاً في هذا النَّصّ؛ فالشاعر يُعلنُ انفصالَهُ وخُروجَهُ، ويُؤكِّدُ شُعورَهُ بـِ"الوحدة"، لكنَّ هذهِ "الوحدة" ليستْ وليدة هذا الانفكاك عن الآخرين: "ولستُ وحيداً لأن/ الضُّحى لم يتركْ لي سوى أحلاسِهِ الحامضةِ وما تولّى عنه الذاهبونَ/ إلى أدوارِهم"؛ إنَّما هيَ وحدة ناجمة عن تشظِّي الذّات نفسها التي تُحرِّكُها العلامات: "بل لعلني وحيدٌ لأن يدي لا تحركُ ساكناً وعيني لا تغُرّها/ العلامات".

فالإشكاليّة المريرة تكمنُ في ثمن الاستقلاليّة والانفكاك المُبتغَى عن مركزيّة الأنا المُنشغلة بالآخَر؛ لأنَّ الحياة الفرديّة -إذا فرضنا تعيُّنَها- تبقى، أيضاً، حياةً هشّة مُغترِبة، ومُتباعدة مُتشظِّية، بحدِّ ذاتِها، ولهذا يختتمُ أمجد نصَّهُ بالقول: "لا أقطعُ وعداً لأحدٍ/ ولا أنتظر./ فحياتي أخفُّ من أن تحتمل ذلك".

ثانياً:  سُؤال العالَم في جدليّة الحاضِر والغائِب

قالَ الشاعر في قصيدة "وحشة": "إنني صالحٌ للعزاءِ في أيّ وقتٍ./ لا وقتَ يلائمُ حصادَ القمحِ/ إلى الشمال من هذه الوحشة./ إنهم يفضُّون الرسائلَ في المباني الزرقاء./ المياهُ الساطعةُ تتسلَّل، الآنَ، إلى وحدةِ الأمهات./ الأمهاتُ يَهْرَمْنَ بين الإبرةِ والخيطِ بانتظارِ الأولادِ،/ والأولادُ لا يعودون" [الصَّفحة: 46].

ينبسطُ العالَم في هذا النَّصّ بوصفِهِ حُضوراً في الـ"وحشة"، وهذا ما تنطوي عليهِ عتبة العنوان؛ وما تفتتحهُ فَجوة القصيدة، فالشاعر مُقيمٌ في "العزاء" و"الوحشة"، وما من وقت للحُضور في "حصاد القمح" أو للإقامة في "المباني الزَّرقاء"، حيثُ تُفَضُّ "الرَّسائل" و"المياه تتسلَّلُ إلى وحدة الأمهات": "إنني صالحٌ للعزاءِ في أيّ وقتٍ./ لا وقتَ يلائمُ حصادَ القمحِ/ إلى الشمال من هذه الوحشة./ إنهم يفضُّون الرسائلَ في المباني الزرقاء./ المياهُ الساطعةُ تتسلَّل، الآنَ، إلى وحدةِ الأمهات".

إنَّ الحُضور في العالَم بوحشتِهِ وغربتِهِ ليسَ سوى حُضورٍ في الغِياب، فما يحضر هوَ العزاء، وما يغيب هوَ الحُضور، ولهذا يختتمُ أمجد نصَّهُ قائِلاً: "الأمهاتُ يَهْرَمْنَ بين الإبرةِ والخيطِ بانتظارِ الأولادِ،/ والأولادُ لا يعودون".

قالَ الشاعر في قصيدة "براري": "ذهبتُ إلى النَّهرِ/ فلم أجدْ إلاّ الحصى/ ووصايا الجفاف./ ذهبتُ إلى العاشقينَ/ فلم أجد سوى حبرِ الرسائلِ/ وخريفِ القرنفل./ ذهبتُ إلى البراري/ فلم أجد إلاّ عزلةَ الذئبِ/ ووحشة الأفعوان./ ذهبتُ إلى الحكمةِ/ فلم أجدْ إلاّ فتاتَ الموعظة./ ذهبتُ/ إلى الشِّعرِ/ فلم أجدْ/ إلاّ / حطامَ الوصف" [الصَّفحتان 59 – 60].

أينما يذهبُ الشاعر في هذا العالَم، يجدُ المُقلِق والمُخيف والغريب، فإذا أرادَ مُطابَقة الحُضور في "النّهر" لم يجد "إلاّ الحصى/ ووصايا الجفاف"، وإذا أرادَ مُطابَقة "العشق" لم يجد "سوى حبرِ الرسائلِ/ وخريفِ القرنفل"، وإذا أرادَ مُطابَقة "البراري" لم يجد "إلاّ عزلةَ الذئبِ/ ووحشة الأفعوان"، وإذا أرادَ مُطابَقة "الحكمة" لم يجد "إلاّ فتاتَ الموعظة"، وإذا أرادَ مُطابَقة "الشِّعر" لم يجد "إلاّ / حطامَ الوصف".

إنَّ الحُضور في العالَم هو حُضور لجَماليّات القُبح، وللهارِبِ الفالتِ نحو الغِياب، ولذلكَ يأتي تكرار جملة "لم أجد" تأكيداً على استحالة الحُضور في العالَم بوصفِهِ مُطابَقة مُتعيِّنة، وعلى سيادة التَّباعُد والتَّشظِّي والغِياب في فَجوة هذا الحُضور المُرجأ.

قالَ الشاعر في قصيدة "وديعة": "لم أر الذي استردَّها/ ولكنني سمعتُ خطواً خفيفاً/ على حاشية الليل،/ وفي الصباح وجدتُ على بلاط الرواق/ جلدَ أفعى وريشةً بيضاء" [الصَّفحة 176].

ينهَضُ هذا النَّصّ على الرَّمز، فالحمامة هيَ الحياة، والأفعى هيَ الموت: "جلد أفعى وريشة بيضاء"، وما حدثَ أنَّ حُضور الحياة في العالَم قد ترافقَ بحضور الموت/ الغِياب، فأمجد يُريد أنْ يقول إنَّ العالَم ليسَ إلاّ "ليلاً" مُعتماً، وإنَّ الحياة ليست إلاّ "وديعة" لا تكاد تحضر حتَّى يُغيِّبها الموت.

ثالثاً:  سُؤال الوجود في جدَليّة اليوميّ والكُلِّيّ

قالَ الشاعر في قصيدة "الشجر": "لنقل إنه الارتحالُ عن الوطن البدويِّ الصغير/ انحدرت مع الإبل/ مع وبرها المتعطش للعشب والشِّعر/ صوبَ الحجارِ الكبيرةِ والجرفِ والمدنِ المبهمة./ وطنٌ بدويٌّ صغيرٌ على كتفي واقفٌ كالشّجر/ يا شجرْ..
أنت يا واقفاً فوق كتفي المهيض/ أنت يا ضارباً في الغيومِ البعيدةِ/ في روح أمي./ مررنا على "وضحةَ" المستحمةِ بالصّهدِ والشّيحِ/ لما تزل نكهةُ العنقِ عالقةً في لساني/ ولما يزل صوتُها البدويُّ الخجول يباعدني في متاه السفر./ يا شجر../ أيها الميتُ والحيُّ والوطنُ المبتلى بالرجال الصغار/ شربناك في أمسنا علقماً وفي يومنا علقماً/ وفي غدنا حجراً عاقراً كالسماء"
. [الصَّفحتان 31 -32].

يرتسمُ سُؤال الوجود –هُنا- عبرَ إعادة تخليق الحياة وفقَ حركيّة جدَليّة بينَ اليوميّ العابر والزّائل والمُتحوِّل، والكُلِّيّ الذي يُعيِّن دلالة الكينونة في التَّشظِّي والغِياب الوجوديّ، ولهذا ينهض "الارتحال" في هذا المقبوس لأمجد على تفاصيل اليوميّ المعيش، وعلى افتقادِ هذا المعيش شيئاً فشيئاً: "لنقل إنه الارتحالُ عن الوطن البدويِّ الصغير/ انحدرت مع الإبل/ مع وبرها المتعطش للعشب والشِّعر/ صوبَ الحجارِ الكبيرةِ والجرفِ والمدنِ المبهمة./ وطنٌ بدويٌّ صغيرٌ على كتفي واقفٌ كالشّجر/ يا شجرْ.."، وتتعمَّقُ المُباعدةُ المُؤسَّسة على مُفارَقة اليوميّ نحوَ الكُلِّيّ حينما تتعمَّقُ هذهِ المُباعدة بـِ"الوداع" و"الغيوم البعيدة": "أنت يا واقفاً فوق كتفي المهيض/ أنت يا ضارباً في الغيومِ البعيدةِ"، لتكتملَ حركيّة هذا اليوميّ المفقود بمُباعدة "السَّفر": "مررنا على "وضحةَ" المستحمةِ بالصّهدِ والشّيحِ/ لما تزل نكهةُ العنقِ عالقةً في لساني/ ولما يزل صوتُها البدويُّ الخجول يباعدني في متاه السفر"، ولينتهي مطاف تشظِّي اليوميّ وغيابهُ بانبساط سُؤال الوجود في رؤية كُلِّيّة، هيَ رُؤية المصير "المُبتلى" بـِ"العلقم" والقلَق وهُواجس العقم: "أيها الميتُ والحيُّ والوطنُ المبتلى بالرجال الصغار/ شربناك في أمسنا علقماً وفي يومنا علقماً/ وفي غدنا حجراً عاقراً كالسماء".

قالَ الشاعر في قصيدة "ضفيرةٌ واحدة": "ضفيرةٌ واحدةٌ،/ ضفيرةٌ من سَعَفٍ وعويلٍ/ ضفيرةٌ واحدةٌ لي./ وقلبي يهتزُّ بين الليل والنّدى/ كحَربة متساقطةِ الأسنان./ ضفيرةٌ واحدةٌ من دخانٍ بعيدٍ/ غريبٌ في المضارب المصطفقةِ/ ناءٍ/ مُوحشٌ/ يابسٌ/ مُبتلٌّ/ ساكنٌ/ عاصفٌ/ في مضاربَ بعيدةٍ ومصطفقةٍ/ قلبي أو الله" [الصَّفحة: 50].

تُشكِّلُ حركيّة هذا النَّصّ مثالاً جليّاً عن إطلاق سُؤال الوجود بينَ العيانيّ اليوميّ المعيش، والكُلِّيّ المُكلَّل بالغربة، فـَ"قلبُ" الشاعر هو أرضُهُ اليوميّة، وبينَ الـ"أنا" و"الله" تنبسطُ مسافة الكينونة عبرَ انفتاح فَجوة الكُلِّيّ على كُلّ ما هو "ناءٍ" و"يابس" و"مُبتلّ" و"ساكن" و"عاصف"، حيثُ مُفارَقة "المضارب" بما هيَ هروب اليوميّ من بين أصابع العيانيّ المعيش، نحوَ كينونة كُلِّيّة تُعيِّنُ سُؤال الوجود في القلَق بينَ "قلبي أو الله".

قالَ الشاعر في قصيدة "جبهة الأمل": "الأملُ ليلٌ آخرُ لم يعد مستطلعو الفجرِ من جبهتهِ./ انتظرتُ./ لكنَّ الإشارةَ،/ طلعةَ الضوءِ/ تلْويحةَ اليدِ/ ضلّتْ طريقَها" [الصَّفحة: 182].

إنَّ "الأمل" في عتبة عنوان هذا النَّصّ، وفي مطلعه، هو خريطة طريق سُؤال الوجود عند أمجد؛ إذ يبدأُ انفتاح هذا السُّؤال بالأمل اليوميّ المعيش، لتنبسِطَ فَجوتهُ الكُلِّيّة على "إشارةٍ" "ضلَّتْ طريقَها"، وهذا الضَّلال ليسَ إلاّ قلَق الإنسان في موقفِهِ الكيانيّ من تشظِّي الوجود وغيابِهِ وتباعُدِهِ المُستمرّ وتعليق أجوبتِهِ، وهذا ما يتعيَّن في ثنائيّة "اللَّيل" و"الضَّوء"، فـَ"الأمل" هو "اللَّيل" اليوميّ في العالَم، و"الإشارة" المُتبدِّدة هي "الضَّوء" الذي ضلَّ طريقَهُ في دلالتِهِ الكُلِّيّة على مصير وجوديّ قلِق وتائه ومُتسرِّب باستمرار.

رابعاً:  سُؤال الشِّعر في جدَليّة الرُّؤية والرُّؤيا

قالَ الشاعر في قصيدة "الشِّعر": "إنني أبدأ الأغنية/ بالملامةِ/ بالقليلِ من الخمرِ/ أو بالتهكمِ من لهجتي البدويةِ/ لم تبقِ للقادمينَ من الشعراء،/ ولي،/ غير نافلةٍ من كلامٍ/ وشبرين من آخرِ الماء/ أغلقت في وجهنا القنطرة،/ (فها نحن نشقى)/ بأوجاعِنا اللغويةِ/ نشقى لأن القصائدَ/ لا تطفئ الأسئلة/ ونشقى لأن القصائدَ/ لا تبلغ المرحلة/ وها ذي قصائُدنا ورقٌ ناشفٌ في الحلوق" [الصَّفحة: 34].

يُؤسِّسُ الشاعر سُؤال الشِّعر –هُنا- انطلاقاً من البصريّ، فيبسطُ في النَّصّ أبعاد الرُّؤية الشِّعريّة وهيَ تخوضُ في تفاصيل العالَم الذّاتيّ والجمعيّ: "إنني أبدأ الأغنية/ بالملامةِ/ بالقليلِ من الخمرِ/ أو بالتهكمِ من لهجتي البدويةِ"، ليعلنَ –فجأة- أنَّ مسار الشِّعر قد "أُغلِقَ" في "وجهنا" نحنُ الشُّعراء، والـ"نا" في هذا الموضع تُغطِّي دلالة الأنا الفرديّة والأنا الجمعيّة: "لم تبقِ للقادمينَ من الشعراء،/ ولي،/ غير نافلةٍ من كلامٍ/ وشبرين من آخرِ الماء/ أغلقت في وجهنا القنطرة"، لكنَّ انغلاق سُؤال الشِّعر لا يقف عند عجز الرُّؤية البصَريّة عن فتح كينونة شِعريّة جديدة؛ إنَّما يصلُ هذا الإحساس إلى تلمُّس العجز الشِّعريّ عن بلوغ رؤيا كُلِّيّة تفتتحُ وجوداً شِعريّاً مُغايِراً وغير مطروق، ولعلَّ هذا ديدنُ الشُّعراء في تكرار طرح سُؤال الشِّعر عبر التّاريخ: "فها نحن نشقى"/ بأوجاعِنا اللغويةِ/ نشقى لأن القصائدَ/ لا تطفئ الأسئلة/ ونشقى لأن القصائدَ/ لا تبلغ المرحلة/ وها ذي قصائُدنا ورقٌ ناشفٌ في الحلوق".

قالَ الشاعر في قصيدة "فتاة في مقهى (كوستا)": "في مقهى كوستا جاءت وجلست على الطاولةِ أمامي مع أنَّ/ المقهى خالٍ من الرواد في ضُحى يجاهدُ عبثاً لانتزاع شعاعٍ من سماء/ لندن الطلساء. كنتُ أفكّرُ في قصيدةٍ فيها فتاةٌ تأتي وتجلسُ أمام/ شاعرٍ يحاولُ أن يكتبَ قصيدةً عن فتاةٍ تأتي وتجلس أمامه في مقهى/ خالٍ من الرواد. وضعت الفتاةُ كتبَها على الطاولة وحقيبَتها على الأرض/ ونَضَتْ عنها سترةً عنّابيةً من الجلد الصناعيِّ فتساقطتْ قطراتٌ من المطر/ مالت على حقيبتها فتهدَّلَ شعرُها فلمَّتهُ بحركةٍ سريعةٍ إلى الخلف، أشعلت/ سيجارةً وأخذت ترشفُ قهوتَها وهي تنظرُ إليَّ بزاويةٍ منحرفةٍ من عينيها./ أكثر من مرةٍ همَّتْ أن تقول شيئاً ولم تفعل وأكثر من مرةٍ هممتُ أن أتحدث/ إليها وأتراجع. ببلوزتها الزرقاءِ نصفِ الكمِّ التي تكشفُ زنديها المبرومين/ وبكتفيها اللتين تنطُّ منهما فهودٌ صغيرةٌ وبقدمها التي تتحرَّكُ تحت الطاولة/ على شكلِ مروحةٍ كانت تشبهُ فتاةَ القصيدة. كلُّ الإشارات تدلُّ عليها./ كان وزنُ الهواءِ وحركتُه يتغيران تحت الطاولة. أوقعتُ قلمي، كما لو سَقَطَ/ عَرَضاً، على الأرض لأرى ما الذي يجري ما إن التقطتُه ورفعتُ رأسي/ حتى اختفت الفتاة. كان على الحائط أمامي ملصقٌ إعلانيٌ كبيرٌ لفتاةٍ/ تجلسُ وحيدةً تدخّنُ وتحتسي قهوةً وتنظرُ بزاويةٍ منحرفةٍ من عينيها في/ مقهى يشبه هذا المقهى./ دوامةُ الهواءِ ألما تزالُ تحتَ الطاولةِ/ فنجانُ القهوةِ الساخنُ/ السيجارةُ المُدَخّنةُ على حافّة المنفضة/ المنديلُ الورقيّ المبقّعُ بأحمر الشفاه/ قلبي الذي تُسْمَعُ دقاتُه من بعيد./ القصيدةُ التي فكَّرتْ بقصيدةٍ أخرى وكَتَبَتَها" [الصَّفحتان: 209-210].

يمارسُ أمجد في هذا النَّصّ لعبةً جدَليّة بينَ الوقائعيّ والشِّعريّ، فينفتحُ عالَم القصيدة على عالَم البصر والرُّؤية واللَّقطات السِّينمائيّة، وتتحرَّكُ الفتاةُ المُفترَضة بينَ نصّ الوجود ووجود النَّصّ، وينبسطُ سُؤال الشِّعر بينَ مُطابَقة الحقيقة وتشتُّت المجاز: "كنتُ أفكّرُ في قصيدةٍ فيها فتاةٌ تأتي وتجلسُ أمام/ شاعرٍ يحاولُ أن يكتبَ قصيدةً عن فتاةٍ تأتي وتجلس أمامه في مقهى/ خالٍ من الرواد".

يحفرُ الشاعر –هُنا- أفقيّاً وعموديّاً في سُؤال طبيعة الشِّعر، ويخوضُ في كتابة النَّصّ تجربتَهُ وتجريبيتَهُ بما يُشبهُ ورشةً تحاولُ القبض على كيفيّات تخليق الكينونة النَّصِّيّة، سارداً سلسلةً من اللَّقطات البصريّة الخاصّة بِـ"الفتاة": "وضعت الفتاةُ كتبَها على الطاولة وحقيبَتها على الأرض...".

وهكذا، يختتمُ أمجد البُعد العيانيّ المُؤسِّس لسُؤال الشِّعر بسُؤال رؤيويّة الشِّعر التي تنزاحُ عن مُسبَّقات الشاعر البصَريّة، وتفتتِحُ عالَماً آخَر برؤيا مُغايِرة، فيقفل النَّصّ قائِلاً: "القصيدةُ التي فكَّرتْ بقصيدةٍ أخرى وكَتَبَتَها".

قالَ الشاعر في قصيدة "قناع كفافي": "كشاعره الشابِ، الذي ظنَّ أنَّ درجةً واحدةً في سُلّمِ الشِّعرِ الطويلِ/ ليست شيئاً ذا بالٍ، زرتُ يوماً بيتَ كفافي./ اسكندريةُ الشّاعرِ ذي القناع الهليني تحيا، فقط، في القصائد، أما/ الشمعةُ الإضافيةُ التي كانت تضيءُ وجهَ الجمالِ الفتيِّ وجذعَه المستقيمَ/ في صالة المنزل الوثنيِّ فظلت تتراقصُ في كتابٍ قرأتُه تواً./ سريعاً، مثل مروري بالمعاني (لا بالصور) ألقيتُ نظرةً على أنحائه الثلاثة،/ الحانةِ التي تُسكرُ، الكنسيةِ التي تصفحُ، المستشفى حيث يموتُ، ولم أرَ/ سوى الأمثالِ تلغو بالعِبَر./ مشيتُ شارعاً، شارعينِ، فكّرتُ بسطوةِ الحبِّ على قلبِ أنطونيو وبأهواء/ كليوباترا تتلاعبُ بالرّماح والرؤوس./ أكلتُ سمكاً عند عجوزٍ اسكندرانيٍّ يدعى (قدورة) وحبستُ، حَسبَ/ تعبيرِ المصريينَ، على اللذة الدنيا، شاياً غامقاً كالحبر./ تخيلتُ كفافي، حينها، أنا الفتى الذي ما حَسِبَ يوماً أن سلحفاةِ الأيامِ/ ستجتازُ خطوهُ المُجَنّحَ، عجوزاً دردبيساً يقف عنيداً عند زاويةٍ منحرفةٍ عن/ الكون قليلاً./ مبكراً، ومرتحلاً من مدينة إلى أخرى، طاردتني قصيدتُه (المدينة) كنبوءةٍ/ أشدَّ شؤماً من نبوءة أمي عن نفسي التي لن تعرفَ الراحةَ مهما طالَ الزمانُ/ وبدلت الأماكنُ وجوههَا" [الصَّفحة: 257].

يسعى الشاعر في هذا النَّصّ إلى تعميق حفرياتِهِ في العلاقة بينَ الوقائعيّ والمُتخيَّل في الشِّعر عبرَ جدَليّة البصر والبصيرة (الرُّؤية والرُّؤيا)، ويُحاولُ أمجد أنْ يقتفيَ –هُنا- عتبات "كفافي" الحياتيّة، ليُعيد تأسيس عتباتِهِ النَّصِّيّة: "كشاعره الشابِ، الذي ظنَّ أنَّ درجةً واحدةً في سُلّمِ الشِّعرِ الطويلِ/ ليست شيئاً ذا بالٍ، زرتُ يوماً بيتَ كفافي".

إنَّ الرغبة بالقبض على الرُّؤيويّ المُؤسَّس في نصّ "كفافي" نفسه، تُؤدي بأمجد إلى تقفِّي مُسبَّقات هذا الرُّؤيوي في الرُّؤية البصَريّة المعيشة وقائعيّاً، ليصلَ إلى نتيجة مفادُها أنَّ الانزياح الرُّؤيويّ في القصيدة يُعيِّنُ فَجوة مُباعَدة واختلاف عن المُستوى الوقائعيّ المُتخيَّل، ولهذا يقولُ أمجد: "اسكندريةُ الشّاعرِ ذي القناع الهليني تحيا، فقط، في القصائد".

يختتمُ الشاعر نصَّهُ بإسقاط الرُّؤيا التي تنطوي عليها قصيدة "المدينة" لكفافي على أمجد نفسه وسيرتِهِ الشَّخصيّة، وهُنا تتعدَّدُ طبقات التَّناصّ بينَ الشاعرين، وينبسطُ سُؤال الشِّعر عبرَ تشظِّي مُطابَقة المُستوى الوقائعيّ البصَريّ المعيش الذي تمثِّلُهُ "الاسكندريّة" لكفافي، وحلول المُستوى الشِّعريّ الرُّؤيويّ -الذي يفتتحهُ عالَم القصيدة بما هو أساليب وجود سُؤال الشِّعر- مكان الحقيقة الأصليّة الهارِبة والفالِتة وغير القابلة للتَّعيين: "تخيلتُ كفافي، حينها، أنا الفتى الذي ما حَسِبَ يوماً أن سلحفاةِ الأيامِ/ ستجتازُ خطوهُ المُجَنّحَ، عجوزاً دردبيساً يقف عنيداً عند زاويةٍ منحرفةٍ عن/ الكون قليلاً./ مبكراً، ومرتحلاً من مدينة إلى أخرى، طاردتني قصيدتُه (المدينة) كنبوءةٍ/ أشدَّ شؤماً من نبوءة أمي عن نفسي التي لن تعرفَ الراحةَ مهما طالَ الزمانُ/ وبدلت الأماكنُ وجوههَا".

تبدو تجربة أمجد ناصر غنيّة فيما تبسطهُ من أسئلة محوريّة تبدأ بأسئلة الذّات، وتمرُّ بأسئلة العالَم والوجود، وتنتهي بأسئلة الشِّعر. وهو في جميع أسئلتِهِ لا يطوي المجازيّ على الحقيقيّ؛ إنَّما يُحافِظُ على منطق التَّعدُّد الدَّلاليّ المفتوح عبرَ جُملة جدَليّات تتوزَّعُ عناصِرُها المُهيمِنة بينَ المُطابَقة والتَّشظِّي، والحاضر والغائب، واليوميّ والكُلِّيّ، والرُّؤية والرُّؤيا.

إنَّ تجربةً كتجربة أمجد تتطلَّبُ الكثير من التَّروِّي والتَّمعُّن، وتُشجِّعُ النّاقدَ على خوض عدد كبير من المُقارَبات المُتنوِّعة، ومن زوايا مُختلِفة، وهذا عائد إلى ثراء هذهِ التَّجربة، وانطوائِها على طبقات عميقة تقبلُ الحفر التَّفسيريّ، وإعمال الحركة الدَّوريّة للفَهم، وبناء التَّأويل المُتحرِّك والاختلافيّ.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها