النقشبندي.. قيثارة الإنشاد والتواشيح الدينية

خليل الجيزاوي



الشيخُ سيدُ النقشبندي وَهَبَهُ اللهُ حنْجَرَةً ذهبيةً، وصَوْتًا من أعذبِ الأصْوَاتِ الشجية، صَوتًا يَهزُ المشَاعرَ الإنسَانيةَ، ويَأسرُ الوِجْدَانَ، ويَسْمُو بالمشَاعرِ، ويَخطفُ قلبَكَ للصفَاءِ الرُوحِي والخُشُوع، صَوتًا نُورانيًا وَلَحْنًا من تراتيل السماء.

تَسمعُه قَبلَ الإفطارِ في رمضَان فيملأ قلبك بِالرِضَا والخُشُوع، وتنصِتُ له قبلَ الفَجْرِ وهو يَشدُو بالابتهالاتِ والتواشيحِ الدينية، فيُلامِسُ صَوتُهُ رُوحَكَ بِعذُوبةِ الأدَاءِ الشّجّي، ولا تَملكُ إلا أَنْ تُردِدَ بَعْدَ سَمَاعِهِ: الله .. الله عليك يا شيخ سيد.

 

صوتان عندما تَستمعُ إليهما تَشعرُ برهبةٍ وجدَانيةٍ، صوتان علامةً مُميزةً ومَلمَحًا من أهم ملامح شهر رمضان المُعظّم، صوتُ الشيخ محمد رفعت في تلاوة القرآن الكريم، وصوتُ الشيخ سيد النقشبندي في الابتهالات والتواشيح الدينية، ذلك الصوت الذي رآه الكثيرون من أشهر المُلحنين آيةً من آياتِ اللهِ في خَلْقِهِ، وقيثارة تشدو ألحَان السّمَاءِ، ويَرَاهُ خُبراءُ الصوْتِ أقوى وأوسعُ الأصْوَاتِ مِسَاحةً في تاريخِ التَسْجيلاتِ الصوتِيةِ، وأجمعَ خبراءُ الأصْوَاتِ على أَنَّ صَوْتَ الشَيْخِ أعذبُ الأصواتِ التي قدمت الدُعَاءَ الديني، فصوتُ الشيخ يتكونُ من ثمانِ طبقاتٍ، يقولُ الجوابَ، وجوابَ الجوابِ، وجوابَ جوابَ الجوابِ، صَوْتًا يتأرجحُ ما بينَ الميترو سوبرانو والسبرانو، صَوتًا يَهزُ المشاعرَ والوجدانَ.

وَصَفَهُ الدكتورُ مصطفى محمود في برنامجِهِ العلم والإيمان، بأنه صوتٌ مثل النور الكريم الفريد الذي لم يصلْ إليه أحدٌ؛ ولهذا كان الشيخُ سيد النقشبندي إمَامًا للمنشدين والمبتهلين في تَاريخِ  الإنشادِ الديني.


 بداية الرحلة

وُلِدَ الشيخُ سيد محمد النقشبندي يوم 12 مارس عام 1920، في قرية دميرة مركز طلخا محافظة الدقهلية، شمال القاهرة، وانفصلَ أبوه عن أُمِهِ وهو طفلٌ صَغِيرٌ، وتزوجَتْ أمُهُ بِرَجلٍ آخر، ثم تركت محافظة الدقهلية، وانتقلَ الطفلُ للعيشِ مع والدته وخاله وزوج أمه في عزبة البيضاء مركز طهطا بسوهاج، وانتظمَ الشيخُ سيد بالدراسة في معهد طهطا الأزهري، وحفظَ القرآنَ الكريمَ كَامِلا وبعضَ أصُولِ الفقهِ وعُمْرُهُ ثمَانِ سنواتٍ عَلَى يَدِ الشَيخِ علي خليل، في عزبة البيضاء بَدأ يَجذبُهُ صَوْت الشَيْخِ عبد الرحمن سعد مؤذن المسجد الجميل، ويُنصتُ للشيخ عبد الرحمن خاصةً في تواشيح الفجر التي تملأ سماء عزبة البيضاء بأنوار الابتهالات الدينية، وليلةً بعد ليلةٍ كان سيدُ يُوقظُ خالَهُ قبلَ الفَجرِ بنصفِ ساعة؛ ليذهبَ معه للمسجدِ، حتى يَرَى ويَتأملُ الشيخ عبد الرحمن وهو يُنشدُ الابتهالات الدينية، ويومًا بعد يومٍ بدأَ سيدُ يُقلدُ شيخَ الجَامعِ في الإنشادِ الديني، وأدركَ الخالُ حلاوةَ صوتِ ابن أخته، فشجعَهُ على حفظِ الابتهالات الدينية، وأخذَهُ مِنْ يَدِهِ للموالدِ الدينيةِ: مولد أبو الحجاج الأقصري، ومولد عبد الرحيم القناوي، ومولد جلال الدين السيوطي.

وفي الموالدِ حفظَ الكثيرَ من الابتهالات الدينية، وجذبته حالة الصفاءِ الرُوحِي، فحفظَ قصائدَ عمر بن الفارض وقصَائدَ الإمام البوصيري، واسْتَحسَنَ المقربون صَوْتَهُ، وشَجَعُوهُ على إنشادِ الابتهالاتِ والتواشيحِ الدينيةِ.

قال الخال عن صَوتِهِ كلامًا كثيرًا جَمِيلا، وأنه سيكون له مستقبل كبير في الإنشاد الديني.

وفي المسَاءِ كانت الأمُ تَجلسُ مع النسوةِ في صَحْنِ الدَارِ وتُنادِيه، تعال يا شيخَ سيد، قول يا شيخَ سيد: فيقولُ الشيخُ: خايف أقول اللي في قلبي، غنّي يا شيخَ سيد، فيُغنّي الشيخُ سيد: يا جَارةَ الوَادِي، وتُنْصِتُ النِسْوةُ وينجذبن للصَوتِ العَذبِ، وتطلقُ النِسْوةُ عليه لقبَ: الشيخ سيد صاحب الصوت الملائكي.

وفي معهد طهطا الأزهري اشتهرَ صَوتُهُ بينَ الزُمَلاءِ ومشَايخِ المعهدِ، وبَدأَ يُنشدُ الشيخُ سيد بينَ الزُمَلاءِ وأمامَ المَشَايخِ في المعهدِ قصيدةَ البُردةِ للشَاعرِ كعب بن زهير:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ 
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ... الْقُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ 
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ

وبدأ يُنشدُ في المناسبَاتِ الدينيةِ، وبَدأ صَوتُهُ يُعرفُ في البلادِ المُجاورة، واشتهرَ الطالبُ الأزهري الشيخ سيد النقشبدي بحلاوة صَوتِهِ، ويَتمُ توجيه الدعوة للطالبِ النقشبدي لإحياءِ ليلة في قرية كوم بدر مركز طهطا محافظة سوهاج، وفيها تَجَلَى الشيخ سيد وأنشدَ الكثيرَ من الابتهالاتِ الدينيةِ التي أُعْجِبَ بها الحاضرون، نظرًا لجمالِ وروعةِ صَوتِهِ، ونالَ نفحةً كبيرةً، نَالَ جُنَيْهًا كَامِلا هو أَجْرُهُ في إحْيَاءِ هذه الليلة من عام 1937، وكانت الليلةُ أولَ درجاتِ سُلَمِ الشُهرةِ، وبَدأتْ الدعواتُ تَنهَالُ عليه مِنْ كُلِ مُحَافظاتِ الصَعيدِ.

ليلة أخرى مُهمة في حياةِ الشَيخِ سيد، في عام 1940، عندما نظمتْ مديريةُ سوهاج برئاسةِ الشاعر عزيز أباظة ليلةً للإنشاد الديني، فدعا عزيز أباظة الطالبَ الأزهري، صاحب الصوت العذب الجميل، وَعُمْرُهُ عُشْرُون عَامًا لإحياءِ الليلة بالابتهالاتِ والتواشيحِ الدينيةِ، وطلبَ أباظة منه أن يُغنِّي شَيئًا للمُطربِ محمد عبد الوهاب، فغنى الأغنيتين اللتين حفظهما وهو صغيرٌ من راديو الإذاعة: خايف أقول اللي في قلبي، وجارة الوادي.

وفي هذه الليلة أقسمَ الشيخُ سيد أنه لن يُغنيَ مرةً أخرى، وأنه خُلِقَ للتواشيحِ والابتهالاتِ الدينيةِ.
 

 البداية الثانية

ذات ليلة شَاهدَ الشيخُ سيد النقشبندي رُؤيةً غيرت مَصِير حَيَاتِهِ، فِي الصَبَاحِ قصَّ الرُؤيةَ على أَهْلِهِ، أنه شَاهدَ وسَمعَ السيد أحمد البدوي يُنَادِي عَليه ويَدْعُوهُ للسَكنِ بِجِوَارِهِ في مدينة طنطا، وكان لا بُد له من تنفيذِ الرُؤيةِ، فَشَدَّ الشيخُ الرِحَالَ إلى مدينة طنطا، وسَكَنَ قَرِيبًا من المَسْجدِ الأحمدي عام 1955، وفي مسجد سيدي سالم العزبي، بَدأ الشيخُ يَشدُو بالتواشيح الدينية، والتفَ الناسُ حَولَ صَوْتِهِ الشَجِيّ، وليلةً بَعْدَ لَيْلَةٍ زادتْ شُهرتُهُ بينَ دائرةِ الأحِبةِ والمُعْجَبين بِصَوتِهِ، حتى وَصَلتْ شُهرتُهُ إلى مَجلسِ السيد أحمد القصبي مُحافظ الغربية، فدعاه المحافظُ في استراحتِهِ لإحياءِ ليلة عندَهُ، ويَشدُو الشيخُ بالكثير من التواشيح الدينية، وتستمرُ الحَفلةُ قُربَ الفَجْرِ.

وكانَ الدكتــورُ محمود جامع الطبيب المشــــهور من ضــيوف محــــافظ الغربيــة في تلك الليلة، ونَصَــحَ الدكتورُ محمــود جامع الشيخَ سيد النقشبدي بضرورةِ المُشَاركةِ في إحياءِ عدة حفلات خلال مولد الإمام الحسين رضي الله عنه بالقاهرة.

وتكررَ حضُورُ الدكتور محمود جامع الليالي التي يُحييها الشيخ سيد النقشبندي في استراحةِ محافظ الغربية، ومن جَانبِهِ قامَ الدكتورُ جامع بتعريفِ الشيخ سيد على رئيسِ مجلس الأمة وقتها أنور السادات‏،‏ قبل توليه رئاسة الجمهورية‏،‏ وباتَ الشيخُ سيد مُلازمًا للرئيسِ الساداتِ قبلَ الرئاسةِ وبعدها‏؛ ليصبحَ هو والشيخ مصطفى إسماعيل ملازمين له‏، خاصةً عندما يذهبُ الرئيسُ السادات إلى قريته ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية لإحياء أية مناسبة بها‏.‏

وأول ابتهالات دينية قام بتسجيلها بصَوتِهِ كانت في سوريا عام 1957، كان الشيخُ سيد يُؤدي مناسكَ الحَجِ وتعرفَ على الشَيْخِ السُوري محمد علي مراد الذي دعاه لزيارة دمشق وحلب، وهناك قامَ بإحياءِ الكثير من ليال الإنشاد الديني، وتم تسجيلها؛ لتكون هذه الحفلات أول تسجيلات إذاعية بصَوتِهِ.

وفي عام 1966 كان الشيخُ النقشبندي يُحيي حفلَ الليلة الختامية بمولد الإمام الحسين بالقاهرة، وسَمِعَهُ مُصَادفَةً الإذاعي أحمد فراج، فقرر استضافته على الفورِ، وسَجلَ معه حلقةً في برنامجه (في رحاب الله)، ولاقت هذه الحلقة إعجابًا كثيرًا، وأصبحتْ الحلقة حديثَ الناسِ في الشارع، فقررَ رئيسُ الإذاعةِ في اليومِ الثاني تسجيل عدة حلقات من الأدعية الدينية بصوت الشيخ في برنامج (دعاء)، كل حلقة مدتها خمس دقائق، وكانَ البرنامجُ يُذاعُ يوميًا عقب صلاة المغربِ مُباشرةً في رمضان، وهكذا وصلَ صوتُ الشيخ إلى مئاتِ الملايين في الوطنِ العَربِي كله.
 

 الشيخ النقشبندي وبليغ حمدي 

كان الرئيسُ أنور السادات يحتفلُ بزفاف ابنته في استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية عام 1972، وأثناء الحفل طلبَ لقاءَ الشيخ سيد النقشبندي وبليغ حمدي ووجدي الحكيم، الذين كانوا يَحضرُون حفلَ الزفافِ، وقال الرئيسُ السادات للثلاثة: متى نسمعُ صوتَ النقشبندي بألحان بليغ حمدي يا حكيم؟! وكان وجدي الحكيم مسئولا في الإذاعة.

بعد عدة أيام طلب وجدي الحكيم الشيخ بالتليفون، وطلب منه الحضور بعد الظهر لمكتبه بالإذاعة، وبعد شرب الشاي أخبره أن بليغَ في الأستوديو ينتظره لسماع اللحن، انزعجَ الشَيخُ قائلاً: على آخر العمر هاغني يا وجدي؟! فاقترحَ وجدي الحكيم على الشيخِ أن يسمعَ اللحنَ أولاً، فإذا عجبه اللحنَ يخلعُ عمامته ويضعها على الكرسي المُجَاور، وردَ الشيخُ بِسُرْعَةٍ: وإذا لم يعجبني اللحن؟! فقال وجدي: لا تخلعُ العمامةَ يا مولانا، وأنا سأقولُ ما فيش تسجيل اليوم؛ لأن الكهرباءَ انقطعت، وارجع اشرب معي الشاي مرةً أخرى.

صحبَ وجدي الحكيم الشيخَ للأستوديو، وتركه مع بليغ الذي كان مُندمِجًا مع اللحنِ، بعد نصف ساعة عاد وجدي  خرىأخرى أأأأ للأستوديو، فوجدَ الشيخَ خلعَ العمامةَ والقفطان وجلسَ يَستمعُ إلى لحن بليغ حمدي بالجلبابِ الأبيضِ وهو يُرددُ: الله .. الله .. يا عم بليغ، وعندما رأى وجدي يقفُ عندَ رأسِهِ، نظرَ الشيخُ وهو يقولُ بفرحٍ: بليغ ده ولد جن يا وجدي.

وهكذا ولد لحن (مَولاي إنّي ببابكَ) كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان بليغ حمدي؛ ليكونَ هذا اللحنُ فاتحةَ خَيرٍ ومَرحلةً مُهمةً في حياةِ الشَيْخِ، ولم يَتركْ الشيخُ الإذاعةَ في هذا اليوم إلا بعد تسجيل ستة ابتهالات دينية من ألحان العبقري بليغ حمدي، واستمرَ التعاونُ بينهما؛ ليقدمَ الشيخُ خمسةَ عَشرَ دُعاءً وابتهالا من ألحان بليغ حمدي.

وفي عام 1975 سافرَ الشيخُ إلى أبو ظبي للمشاركة في احتفالية تأسيس دولة الإمارات، وسَجلَ في استوديوهات إذاعة أبو ظبي ثلاثين ابتهالا من كلماتِ الشاعر محمد السيد ندا، الذي كانَ يَعملُ بالإماراتِ في تلك الفترة، ثم تعاونَ الشيخُ مع كبار الملحنين مثل: محمود الشريف، وسيد مكاوي، وحلمي أمين، وأحمد صدقي؛ ليقدمَ معهم مجموعةً كبيرةً من التواشيح والابتهالات الدينية مثل: (سُبْحَانَكَ ربِّ سُبْحَانَكَ)، و(ماشي في نور الله)، و(يا ربِّ إنْ عـَظـُمتْ ذنوبي).

مَوّلاي إنّي ببابكَ

ويبقى لحن (مَولاي إنّي ببابكَ) نَقْلَةً مُهمَةً جِدًا في حياةِ الشّيخِ النقشبندي، ولا يزالُ حتى الآن مِنْ أكثر الابتهالات سَمَاعًا مِنْ عُشَاقِ صَوت إمام المنشدين الشيخ النقشبندي، وفيه يقولُ عبد الفتاح مصطفى:
مَوْلاي إنّي ببابكَ قَد بَسَطْتُ يَدي... مَنْ لي ألوذُ به إلاك يا سَندِي؟!
أقُومُ بالليّلِ والأسْحَارُ سَاهِيةٌ ... أدْعُو وهَمْسُ دُعائي بالدُموُعِ نَدِي
بنُورِ وَجهِكَ إني عَائذ وَجِلُ... ومَنْ يَعذ بِكَ لَنْ يَشْقَى إلى الأبَدِ
مَهْمَا لَقِيتُ من الدُنيَا وعَارِضِهَا ... فَأنْتَ لي شُغْلٌ عَمّا يَرىَ جَسَدِي
تَحْلُو مَرارة عَيْشٍ في رِضَاكَ... ومَا أُطِيقُ سُخْطًا عَلَى عَيْشٍ مِنَ الرَغَدِ
مَنْ لي سِواكَ؟ ومَنْ سِواك يَرَى قَلْبِي ويَسْمَعُه؟ كُلُ الخَلائِق ظِلٌ في يَدِ الصَمدِ
أدْعُوكَ يَا ربّ فاغْفر ذلَّتي كَرَمًا ... واجْعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدّي
وانْظُرْ لِحَالِي في خَوْفٍ وفي طَمَعٍ...هَلْ يَرحَمُ العَبْدَ بَعْدَ اللهِ مِنْ أَحَدٍ؟!
مَوْلاي إنّي بِبِابِكَ قَدْ بَسَطْتُ يَدي... مَنْ لي أَلُوذُ بِهِ إلّاك يا سَندِي؟!

 

✧ النقشبندي وأبو نواس 

كانَ الحسنُ بن هانئ المشهور بأبي نـُواس، من أشهرِ الشُعراءِ في العَصْرِ العَبَاسِيّ، ويُقالُ: إنّهُ كَانَ مُسْرِفًا على نَفسِهِ في المَعَاصِي والآثام، وكانَ له صَديقٌ من أهلِ التقوَى والصَلاحِ هو: محمد بن نافع الواعظ، قال: لما بَلغني مَوتُ أبي نُواس أشْفَقتُ عليه، فرأيتُهُ في المَنَامِ، فقُلتُ: يا أبَا نُواس، قال: نعم، قلتُ: ماذا فَعلَ اللهُ بكَ؟ قال: غفرَ اللهُ لي، قلتُ: بأيِّ شيءٍ؟ قال: بِتوبةٍ تـُبتـُها قبل مَوتِي، وأبيـــاتٍ قلتـُها، قلتُ: أين هي؟ قال: عِندَ أهْلِي، فَسِرتُ إلى أمِهِ، فلما رأتنـي أجْهَشتْ بالبُكاءِ، فقلتُ لها إني رأيْتُ كذا وكذا، فَهَدأتْ، وأخْرجَتْ لي كِتَابًا، فوجدتُ بِخطـِّهِ أربعةَ أبياتٍ يَقولُ أبو نُواس: 
يَا ربِّ إنْ عـَظـُمتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً *** فلَقدْ عَلِمْتُ بأنَّ عَفْوَكَ أعْظَــمُ 
إنْ كَانَ لا يَرجُوكَ إلا مـُحْسِـــنٌ *** فبمـَنْ يَلوذُ ويَسْــــــتَجِيرُ المُجْـرِمُ
أدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تـَضَرُّعًا *** فإذا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَـمُ 
مَا لِي إليكَ وَسِـــيلَةٌ إلا الرَّجـــــَـــا *** وجَمِيــــلُ ظَنـِّي، ثمَّ أَنِيَّ مـُســـْـــــلِمٌ 
أنشدها الشيخُ النقشبندي بِصَوتِهِ الشَجِيِّ، فانتشرتْ الأبياتُ انتشارًا سَريعًا، وكأنَهُ أحْيَاها من جَديدٍ.

سُبْحَانَكَ ربَّ سُبْحَانَكَ

تُعدُ مرحلةُ تعاونُ الشـــــيخُ ســـــيد مَعَ الشــاعرِ عبد الســـلام أمين مَرحَلةً مُهمةً في حياتِهِ، قدمَ الكثيرَ من الأدعيةِ والتواشيحِ والابتهالاتِ الدينيةِ من كلماتِهِ، وكانَ دُعاءُ (سُبْحَانَكَ ربَّ سُبْحَانَكَ) وَاحِدًا من أهمِ الأدعيةِ التي لاقتْ انتشَارًا وإعجابًا كثيرًا بينَ النَاسِ، فحفظوه ورددوه كثيرًا لبسَاطةِ الكلماتِ وعُمْقِ المَعَانِي في هذا الدعاء، يَقولُ فيه:
سُبْحَانَكَ رَبِّ سُبْحَانَكَ .. سُبْحَانَكَ ما أعْظَمَ شَانَك
نَدْعُوكُ ونَرجُو غُفْرَانَكَ .. رَبِّ سُبْحَانَكَ .. سُبْحَانَكَ
سُبْحَانَكَ رَبِّ سُبْحَانَكَ
أوْصَيْتَ بِحَقٍ مَعْلُومٍ .. لأَخِي السَــــائلِ والمَحْرُوم
ويَتيمُ الأهْلِ ومَنْ هَاجَرَ .. وأسيرُ الدَيْنِ المُهْمُوم
يَشْمَلهُمْ عطفكَ سُبْحَانَكَ
أوصَيْتَ عِبَادَك بِالبِرِّ.. بالصَدقة وزَكاةِ الفِطْرِ 
يُنْفقُها القَادِرُ تَزْكِيَةً للنفسِ.. وحُبًا في الخَيْرِ 
وَسَبيلًا يُسْبِغُ رُضْوَانَكْ 
ربَّاهُ إذا مَا أنْفَقنَا .. بِسَمَاحةِ نَفْسٍ وصِدْقَنَا
لا فَضْلَ لنا فِيمَا نُعْطِي.. فبِرِزقَكَ رَبَّ تَصَدقنَا 
لا رازقَ غَيْركَ سُبْحَانَكَ 
فأعِنَا كي نُنْفِقَ سِرًا .. لا نَرجُو فَخْرًا أو شُـــــكرًا
حَتَى نُدْخِلَها خَالِصَةً .. وكَفَى بِرِضَاكَ لنَا أجْرًا
نُخْلِفُ ما نُعْطِي سُبْحَانَكَ .. سُبْحَانَكَ ربِّ سُبْحَانَكَ

 



نهاية الرحلة

عاشَ الشيخُ النقشبندي خمسةً وعِشْرينَ عَامًا في عزبةِ البيضاءِ مركز طهطا بمحافظة سوهاج، وانتقلَ للسكنِ في مدينة طنطا عام 1955، ورفضَ كلّ العُرُوضِ التي طَلَبتْ منه الإقامَةَ في القاهرة؛ ليكونَ قريبًا من الإذاعَةِ والتلفزيون، رفضَ الشيخُ كل هذا قائلاً: لن أتركَ طنطا وجوار سيدي أحمد البدوي، سَأعِيشُ هُنَا، وسَأمُوتُ هُنَا، وزادتْ شهرةُ الشيخ ومَلأت مصر والوطن العربي، وسافرَ معظم الدولِ العربيةِ؛ ليقدمَ الكثيرَ من الحفلات الدينية، وكانَ دُعَاءُ (يَا رَبّ كَرَمَكَ عَلِينَا) أقربُ أعْمَالِهِ إلى نَفسِهِ، كانَ يُرددُهُ بينَ نَفسِهِ وأمامَ الجميعِ كثيرًا، وكأنه اعترافٌ بنعمِ اللهُ التي أنعمها عليه، وهي نعمةُ حب الناس، قبل نعمةِ الصوتِ الشجي، وهبَ الشيخُ صوتَهُ للملايين الذين أحبوا أدعيته وتواشيحه وابتهالاته الدينية، تقول كلمات الدعاء: يَا رَبّ كَرَمَكَ عَلِينَا ... يَا رَبّ نَصْرَكَ مَعَانَا .. ونَظَرَةً بِعَطْفَكَ تُثبتُ خُطَانَا

آخر يوم قرأَ فيه القُرآنَ قبل صلاة الجمعة، يوم 13 فبراير 1976 في مسجدِ التليفزيون بالقاهرة، ثم بَدأَ يَشعرُ بتعبٍ في صَدْرِهِ، أثناء عودته لطنطا، ذهبَ الشيخُ إلى مُسَتشفَى المَبرّة في مدينة طنطا، فَجْأةً وهو يَجْلسُ على الكرسي، أسندَ الشَيخُ سيد رأسَهُ للخَلفِ، وتَمتمَ بالشِهَادةِ، ثم فَاضَتْ رُوحُه إلى ربّهَا ظُهْرِ يَومِ السبتِ 14 فبراير 1976، وعُمرُهُ لم يَتجَاوزْ الــــ 55 عَامًا، وعادَ الجُثْمَانُ ليُدفنَ في مَقَابرِ الأُسْرةِ بالبساتين في القاهرةِ، بِجوَارِ والدتِهِ حَسَبَ وصّيتهُ الأخيرة.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها