اسْتِغْلَال البَرَاءة في فيلم "تَمَسْكَن وتَمَكَّن"

عبد الهادي شعلان

 

ستجد في حياتك من يطلب منك المساعدة، وحين ترى ملابسه الفقيرة وحاله المعدم؛ سيرقّ قلبك وستمد له يد العَون وأنت مطمئن أنه سيحمل لك الجميل داخله، وقد تطلب من صاحب العمل الَّذِي تعمل عنده أن يجد له عملاً، ولأنه يبدو محتاجاً للعمل؛ فسيبذل كل جهده حَتَّى يقنع صاحب العمل به، يبدو مسكيناً لك ولصاحب العمل، لكنه حين يبدأ العمل سيصيبك العجب من سلوكياته الَّتِي ستجعلك في مرتبة أقل، ورُبَّما حل محلَّك عند صاحب العمل، واستغل كل فرصة لأن يعلو حَتَّى ولو على حسابك أنت يا من ساعدته، سيتسلَّق الحياة كلبلاب معتمداً على أخطاء من ساعدوه، إذا أردت أن ترى هذا النموذج من البشر فعليك أن تشاهد الفِيلْم الإماراتي "تَمَسْكَن وتَمَكَّن" تأليف: خالد العجماني، إخْرَاج: محمد جمعة، شارك فيه: خالد العجماني، بدر الزرعوني، فيصل القناطي، محمد العجماني، سليم العطار، عبد الرازق الزرعوني، محمد الزرعوني.

 

يحدث في كل مكان

أول ما يطالعنا في الفِيلْم جُمْلة افتتاحية مكتوبة على الشَّاشَة، مفادها أن جميع الأحداث وشخصيات الفِيلْم من وحي خيال المؤلف وأي تشابه بينها وبين الواقع هو صُدْفة لا أكثر، ستصدِّق هذه الافتتاحية حين تطالع الفِيلْم؛ فالأحداث يمكن أن تدور في أي مكان ومع أي شخصيات أخرى، شرط أن تتَّسم بنفس السِّمَات الشخصيَّة النفسيَّة الَّتِي تدور في الفِيلْم، جرّب وضَعْ الشخصيَّات والأحداث في مكان آخر ستجد أن تصرفاتها هي نفس التصرفات مع اختلاف بسيط؛ ذلك أننا في الفِيلْم نتعامل مع نموذج بشري عام يمكن أن يوجد في أي مكان وزمان، ليس نموذجاً خاصاً ببيئة خاصَّة وأحداث خاصَّة، هو نموذج شمولي للاستغلال والقفز على المناصب، وهذا تجده في أي مجتمع وتحت أي ظروف، مع اختلاف كيفية العرض، هذا الوصولي تجده حولك، وهؤلاء الطيبون المخدوعون نشاهدهم في كل مكان، فمن السهل أن تتطابق هذه الشخصيَّات مع شخصيات في الواقع الَّذِي نعيشه.

علامات المتسلِّق

ظهر حَمْنِي مميزاً في بداية الفِيلْم، فقد أثار التراب من حوله حين قفز من فوق الشجرة، وكأنَّه جاء بعاصفة وغبار مُؤْذي، ثم وجدنا أن الذباب يحيط قدميه، كان ظهوره مزعجاً، وجاذباً للذباب، بداية موفَّقة لرجل سيكون فيما بعد متسلِّقاً، فكل ما خرج حوله حين ظهر هو التراب والذباب، حَتَّى إن التسلُّق كان هو ظهوره الأول حين تسلَّق الشجرة، كان المشهد الأول لظهور حَمْنِي يسير بخط مواز معبراً عن كينونة الشخصيَّة وشارحاً لها دون وضوح ممجوج لطبيعة الشخصيَّة الَّتِي سنتعامل معها، فهو تسلَّق الشجرة في البداية وسيظل يتسلَّق الجميع طوال الفِيلْم، دلَّ الذباب على قذارته الخارجية، وكشفت تصرفاته على قذارته الداخلية، نبَّأنا الفِيلْم أننا سنتابع شخصاً متسلقاً وقذراً دون إيضاح، فقط بإشارة تسلُّقه للشجرة وتجمع الذباب حوله.

اعتمد الفِيلْم منذ البداية على تتبُّع شخصيَّة حَمْنِي، رأيناه يدخل لقلوب الشخصيَّات عن طريق مدحها وتسلقها، ثم يقول كلاماً سيئاً في حق من يريد أن يحتل مكانته، فَعَلَ هذا مع عرقوب، ثم احتل مكانه في عمله عند بوشيخه، ثم ترك العمل عند بوشيخه واستغل وجود بوهامور، ومدح مرتضى ثم احتل مكانه، وكان المشهد الَّذِي تم تعين حَمْنِي مديراً للحسابات في شركة بوهامور يلخِّص كل شخصيَّة حَمْنِي ببراعة، فقد رأيناه على الشَّاشَة يتذكَّر، عرضت الشَّاشَة ذكرياته جانبه بالأبيض والأسود، وأصبح المشاهد يرى حَمْنِي وهو واقف لاستلام موقعه الجديد كمدير للشركة، وفي الوقت نفسه على الشَّاشَة نفسها يرى ما رآه حَمْنِي في خياله من استرجاع لكل ذكريات التملّق الَّتِي قام بها، هل هذا يعني أن حَمْنِي كان يخطط لهذا؟ لقد كشف الفِيلْم أنه فعل كل ذلك من أجل أن يعمل في شركة بوهامور عن طريق بو ذياب حَتَّى يُسْقِط شركة بوهامور، كل ذلك على فترات زمنية، استخدم الفِيلْم القطع الزمني بطريقة واضحة، فما إن نرى الشوارع تنطلق فيها السيارات بسرعة، فنعلم أن قطعاً زمنياً قد حدث.
 

الشخصيَّات بين الخير والشر

قام الممثِّل خالد العجماني بأداء دور حَمْنِي بجودة وتميُّز، فقد تعامل مع الشخصيَّة باستيعاب لدواخلها النفسيَّة، ورُبَّما لكونه كاتب الفِيلْم فهو أقرب لمعرفة طبيعة الشخصيَّة، تعامل خالد العجماني مع الشخصيَّة بتعبيرات وجه توحي للمُشَاهِد بدواخله وأعماقه الغائرة، وكأنه يقوم بالفعل بخداع الشخصيَّات الَّتِي أمامه، كأنه يقوم بفعل حقيقي، إلى جانب تطور شخصيته وفق المواقف النفسيَّة الَّتِي مربها، ووفق تطورات الأحداث الَّتِي وضعته في أماكن ومواقف مختلفة تحتاج لتعبيرات مختلفة، لكنه كان يحافظ على روح شخصيَّة حَمْنِي الَّتِي يؤديها، لقد تلوَّن في مواقف عديدة واستطاع أن يتقمَّص الدور، إلى جانب استخدامه الجيد لنظرات عينيه المعبرة عن الموقف، لقد جعلنا خالد العجماني نَكْرَه نموذج حَمْنِي، ونصبح على استعداد للحذر من وجوده في حياتنا، ووصلت شخصيَّة حَمْنِي للمشاهد بكل دواخلها النفسيَّة وكل معطياتها دون عنف في التمثيل.

من الشخصيَّات المهمة في الفِيلْم شخصيَّة مرتضى، والَّتِي قام بها الممثِّل محمد العجماني، كان الدور متناسباً معه تماماً، ظهرت الشخصيَّة بطيبة صافية يمكن خداعها بسهولة، كان على ثقة بالمحيطين به، يقوم بعمله بإخلاص، إلى جانب تميزه في المواقف الكوميدية الَّتِي زادت من وجوده كإنسان طيب، هذه الأفعال الطَّيِّبة رأيناها أيضاً في شخصيَّة عرقوب، والَّتِي قام بأدائها الممثِّل عبد الرازق الزرعوني، كانت طيبته البيضاء واضحة منذ البداية الَّتِي استقبل فيها حَمْنِي، إلى جانب قيامه بأداء أعمال بوشيخه عن رضاً واضح، ومن الشخصيَّات الَّتِي لا تحمل أي غل أو حقد شخصيَّة بوهامور، والَّتِي قام بها الممثِّل بدر الزرعوني، فعلى الرغم من غِنَاه وامتلاكه شركه كبيرة إلا أن الشفافيَّة والطيبة والوضوح كانت ظاهرة على شخصيته، يمكننا أن ندرك شخصيَّة بوذياب كشخصيَّة شريرة، واضحة الحقد والسواد والَّتِي قام بها محمد الزرعوني، كان الشر والغيظ والحنق والحقد بادياً في تمثيله، وملامح تكوينه.

نجد أن الشخصيَّات كانت تقف على ضفتين، شخصيَّة حَمْنِي وتعاونه مع بوذياب، وكلاهما يحمل ملامح الحقد والخديعة والرغبة في أخذ ما لا حق له به، والشخصيَّات الأخرى الَّتِي تم خديعتها عن طريق حَمْنِي، وكأن صُنَّاع الفِيلْم قسَّموا المجتمع لشرير وطيب، الشرير متمثِّل في حَمْنِي، وبو ذياب، والطيب متمثِّل في بوهامور، وبو شيخه، وعرقوب، ومرتضى، وبالتالي أصبح لدينا عنصران متقابلان، التسلُّق والشر والحقد مقابل البراءة والوضوح، كان هذا مرتبطاً بمقدمة الفِيلْم التوضيحيَّة، فهذه الشخصيَّات بتكوينها هذا يمكن أن توجد في أي مجتمع.
 

كشف المتسلِّق المخادع

كان لا بد للخداع أن ينكشف وأن يتمزَّق قِنَاعه؛ عن طريق من يُسَلِّط الضوء على خيانته، فكان لا بُد من وجود شخصيَّة المحامي سَنَد والَّتِي قام بها سليم العطار، رأينا المحامي سَنَد لمَّاحاً منذ البداية؛ بحكم تعامله مع ذوي الإجرام وأصحاب النفوس الشريرة، لقد شكَّ سَنَد في حَمْنِي ولم يطمئن له منذ البداية، وكان تعيين حَمْنِي مديراً للحسابات مكان مرتضى هي نقطة التحوُّل، لقد تتبَّعه سَنَد بمعاونة مرتضى بوضع شريحة في ملابسه؛ لتقوم بتسجيل محادثاته، وبالفعل تم تسجيل اعتراف بينه وبين بوذياب بأنه يعمل لصالحه ضد بوهامور، وانكشف المتسلِّق في النهاية عن طريق المحامي الحريص.

أدَّى الفِيلْم رسالته ببساطة في جعل المشاهد يستوعب في داخله أنه يجب أن يكون الإنسان حريصاً في التعامل مع الشخصيَّات الوصوليَّة المتسلِّقة المخادعة واكتشافها قبل أن تستغله، وأن ذِكْر عيوب الآخرين أمامنا لا يعني أن أصحاب العيوب الظاهرة هم في غاية السوء، فهذه الشخصيَّات الوصوليَّة تدخل عن طريق عيوب الآخرين وتصعد عليها، تستخدم هذه العيوب لمصلحتها الشخصيَّة للوصول لأغراضها الخفيَّة، لقد نبَّه الفِيلْم المشاهد لشخصيَّات تشبه اللّبلاب، تتسلَّق وتستخدم غيرها حَتَّى لو تسبَّب ذلك في أذيتهم، كان درس الفِيلْم واضحاً ورسالته بيِّنة، في أن نكون في غاية الحرص قبل أن نعطي ثقتنا لمن يتملَّقنا ويخدعنا، ولمن يحاول أن يثبت أنه الأكفأ حَتَّى لو استخدم أحزان الآخرين للصعود عليها للوصول لمبتغاه.
 



 Video © M.J. - YouTube | الفيلم: إخراج محمد جمعة

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها