الشطرنج الأندلسي.. موروث حضاري مشترك

د. محمود أحمد هدية

لم تغب عن الحضارة الإسلامية روح الترفيه كغيرها من الحضارات البشرية، باعتبارها ظاهرة إنسانية طبيعية وتلقائية تنبع من النشاط الإنساني لمكونات المجتمع، وقد ابتكروا لعبة الشطرنج وشكلوها من خلال تأثرهم بمجمل العناصر المحيطة بمجتمعهم وبيئاتهم باعتبارها أنموذجاً حياً ومرآةً صادقةً لمظاهر حياتهم، وكونها تُعلم وتُرسخ العادات والتقاليد الموروثة، والتي تحث على القيادة والتعاون والعزيمة والإرادة والقوة والشجاعة والسرعة، وغيرها من عادات وتقاليد المجتمع.

وتُشكل الألعاب بصفة عامة أحد أهم عناصر الموروث الحضاري لأي أمة تسعى لبناء جيل يعي مفهوم الوطن، باعتبارها نِتاجاً للتكوين الثقافي والحضاري، وانعكاساً للبيئة الطبيعية والمناح الاجتماعي السائد في حقبة من الحقب، وإن كانت الأندلس ذلك الحيز لما لها من مرجعية حضارية زاخرة منها ما هو وليد تلك المنطقة ومنها ما جاء على يد العرب الفاتحين، بالإضافة لتلك الروافد التي قدمت مع أولئك الذين نهلوا من علومها ومعارفها.

هذا وتعتبر الألعاب بمختلف أشكالها وأنواعها من أقدم الصور التعبيرية التي رافقت الحضارة الإنسانية، والمتتبع لتاريخ الألعاب بصفة عامة يكتشف مدى تمكن الإنسان على وجه العموم للعديد من الطرق والأساليب، التي من خلالها استطاع أن يفتح لنفسه أبواباً من الترويح والتنفيس عن روحه ليواجه المشكلات والصعوبات التي يتعرض لها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يشكل اللعب باختلاف وسائله جانبًا مهماً من جوانب حياته، وفي هذا الإطار لا يمكن أن نعتبر كل ترفيه مجونًا أو مضيعةً للوقت لما له من جوانب وفوائد إيجابية لحياة الأفراد لكونها -أي الألعاب- متصلة بالفنون والرياضات، وارتبطت بدورها بالطرائف واللطائف وحسن التصرف في مواقفها، وهو ما نجده في المجتمع الأندلسي على وجه الخصوص والذي بدأ في محاكاة الطبيعة وتشكيل نماذج منها لتُظهر لنا مدى الزخم الحضاري لتلك البقعة، متمثلة في ألعابها وطرق اللهو والترويح، والتي في الأصل هي نتاج لتراكم ثقافي واجتماعي وديني وسياسي.
 

لعبة الشطرنج

لعبة الشطرنج واحدة من الألعاب الفردية التي يؤديها شخص واحد أو أكثر يمتلك الموهبة والمهارة في تأدية حركاتها، باستخدام بعض الأدوات التي تساعده في إنجازها، والتي تعددت ما بين الذكاء والفطنة وسرعة البديهة، فضلاً عن الخفة وحرية الممارسة التي اتسمت أغلبها بها، والتي خضعت لبعض القوانين والقواعد الحاكمة لها، وتختلف تلك الأدوات من حيث النوع والشكل وتعطي في بعض الأحيان أبعاداً سلوكيةً ومعرفيةً وجدانيةً، منها ما اتسم بخصوصيتها ولم تعرف وتفصح عن قواعدها وأصولها.

والشطرنج من تلك الألعاب المعتمدة على التفكير وحساب العقل في تأديتها، وقد تستغرق بعض الوقت في القيام بها. وهي على شاكلة ألعاب النرد والجداول والأفلاك أو كما تُعرف بألعاب الألواح قديماً، منها ما ارتبط بألعاب القمار والميسر وهو ما حُرم في أوساط المجتمع الأندلسي، وتهدف جميعها لترقية الوظائف العليا لدى الأفراد؛ كالإدراك والتفكير والتوقع والتنبؤ وغيرها من العمليات القائمة على عمل العقل؛ لإنها تساعد أيضاً في إنماء القدرة على التشخيص والإبداع والفحص والملاحظة.

ومورست لعبة الشطرنج من الخاصة والعامة في بعض الأحيان في أوساط المجتمع الأندلسي من المسلمين والنصارى على حد سواء، واللعب بها يرتكز على إعمال الفكر واستجماع البديهة، وأشارت بعض المصادر لانتشار لعبة الشطرنج في أوساط الأندلسيين، فهذا ابن بسام يذكر أن الوزير الكاتب عبد الله بن عبد البر كاتب بني عباد أُهدى إليه شطرنج من أحد أصدقائه فمدح سحرها إعجاباً بها.


نموذج لطاولة الشطرنج تعود إلى القرن (8-9هـ/14-15م) محفوظة في متحف الحمراء بغرناطة
 

وتُعد لعبة الشطرنج واحدة من المكونات الحضارية في العصور الوسطى، لكونها لعبت في العديد من الأوقات والأماكن ونقطة التقاء بين التقاليد الإسلامية والمسيحية، فتبادلت قواعدها والخبرة العملية المطلوبة لها، فكانت جنباً إلى جانب للألعاب الأخرى الممارسة في المجتمع الأندلسي والإسباني، كالصيد وركوب الخيل والاستماع إلى الموسيقى وفنون الأدب، تعبيراً عن الثقافة المهذبة في العالم الإسلامي، والتي نقلت عن طريق العرب، على الرغم من ارتباطها بأوساط ذات شأن اجتماعي واقتصادي في التاريخ الأندلسي، ومارستها طبقات وفئات بعينها، ولكن هذا لم يمنع أن يؤديها بعض من الفئات الأقل تأثيراً في المجتمع الأندلسي.

ونقلت لعبة الشطرنج للأندلس في القرن الثالث الهجري/ التاسع لميلادي بفضل العالم المشرقي زرياب، الذي أثر في جوانب عديدة من الحياة الفنية في الأندلس، ويأتي في مقدمتها تحسيناته التي أدخلها على آلة العود، وطريقته في انتقاء تلاميذه، وتعليمهم العزف والغناء في مدرسته التي افتتحها في قرطبة، فخرّجت العديد من فناني الأندلس، هذا وساعدت ثقافة زرياب الموسوعية الشاملة، وتنقله من بغداد إلى المغرب فالأندلس، وما حظي به في البلاط الأندلسي من احترام ورعاية وتقدير، على تفجير طاقاته الإبداعية التي تجاوزت حدود المجال الفني إلى المجال الاجتماعي، حيث وضع للطبقات الراقية في الأندلس قواعد للسلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام "حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آداب"، وسمّوه "معلم الناس المروءة"، وبعض الذين نزحوا من العراق إلى الأندلس، ومن لهف وعشق الأندلسيين لهذه اللعبة أنهم كانوا يستغرقون معظم الأوقات أمام رقعة الشطرنج غير مبالين بالطعام ولا بغيره، فعُقدت لها مجالس في المنازل والقصور، وقد أعدت لها مجالس أنيقة ومنمقة محاطة بالأطباق للاستمتاع باللعبة ولتوفير المناخ الملائم والهادئ لها، وهو ما يجعل بعضهم يقضي ليله دون أن يرفع رأسه أمام رقعة الشطرنج.

كما حظي الشطرنج بالنصيب الأكبر في تسلية تلك الفئة من مجتمع الخاصة واعتبرت لعبة الأذكياء عند جُلهم، فبرع فيها بعضهم، وتتحدث المصادر عن براعة ابن عمار وزير المعتمد صاحب إشبيلية في هذه اللعبة، وأبو جعفر أحمد بن عباس من وزراء زهير العامري، صاحب مملكة ألمرية، وكان الأديب محمد بن أحمد بن قطبة الدوسي (ق8هـ) متخصصاً مشهوراً في الشطرنج، في حين حرم بعض الفقهاء لعب الشطرنج لأنه كان يشغل المسلم عن آداء شعائر دينه، ووضعوا المؤلفات التي تحض على هذا التحريم مثال ذلك كتاب (استواء النهج في تحريم اللعب بالشطرنج) لأبى بكر محمد بن الفخار الجذامي (ت: 123هـ).

وللشطرنج ستة صورة أولها المربعة وتكون ثمانية أبيات في مثلها، وثانيها المستطيلة وتكون أبياتها أربعة في ستة عشر، وثالثها المربعة التي تقوم على عشرة أبيات في مثلها، والزيادة في البيتين الإضافيين، ورابعها وهي الآلة المدورة المنسوبة إلى الروم، وخامسها التي تسمى بالفلكية وأبياتها اثني عشر على عدد بروج الفلك، وسادسها وهي التي تسمى الجوارحية، وعدد أبياتها سبعة في ثمانية أبيات.

هذا ومارسها أيضاً العامة على نطاق محدود؛ لأن أغلبهم يعتبارها مضيعة للوقت والجهد، ولأنها من المحرمات وتلهي الناس عن إقامة فرائضهم، كما نظر العوام للشطرنج كمصدر للشؤم والنحس وأنها لا تجلب إلا أبغض الأمور ولا يرجى منها نفعاً غير تضييع الوقت، فجاء في أمثالهم: "أقل للنحس أين تمشي؟ قال: لشطرنجي أن مورك".

ومن أهم ما كتب عن الشطرنج في الجزيرة الإيبرية كتاب النرد والجداول الشهير، والمعروف باسم (كتاب الألعاب) للملك القوطي ألفونسو العاشر الحكيم –العالم- (1221 – 1284م) أشهر الكتب المنسوبة للعصر القوطي، والذي تناول العديد من ألعاب الشطرنج والزهر والجداول مع توضيح طرق لعبها وصنعها، ورتب كلاً منها حسب ترتيب الملك ألفونسو أحد الملوك الذين عززوا الثقافة على مر التاريخ الإسباني، فتحت ولايته تم تنفيذ عدد كبير من الأعمال العلمية والأدبية بالإضافة للفلك والقانون، والكتاب في مجمله أُلف قبل وقت قصير من وفاة الملك ألفونسو العاشر وذلك قرابة عام 1283م، ومع ذلك لا يُعرف سوى القليل عن التاريخ الذي بدأ بتدوينه وكتابته، ومن المرجح أنه في أوائل الستينيات، الكتاب صغير على الطراز القوطي يبلغ ارتفاعه حوالي أربعين سنتيمتراً وعرضه حوالي ثلاثين، ويتكون من ثمانية وثمانين ورقة من الرق بالإضافة إلى غلاف في جلد الغنم.


ويعتبر الفونسو العاشر واحد من أهم من قاموا بترجمة الكتب والمخطوطات الإسلامية الأندلسية، وقد اعتنى عناية خاصة بالتراث الإسلامي الأندلسي، وكان من نِتاج ذلك ظهور أول ترجمة للقرآن الكريم في منتصف القرن الثالث عشر إلى اللغة القشتالية، وبلغ اهتمامه بدراسة علوم العرب من الفلك والرياضيات والطب أوجه في إسبانيا فترجم أيضاً التلمود والقبَّالة، فضلاً عن كتب عربيَّة في الحِكَم والألغاز نقل أصحابها فيها حشداً من آراء فلاسفة العرب ومفكِّريهم، ونقلت عن العربية كتب في الألعاب، واستُعملت الموسيقى الأندلسيَّة في صياغة الأغاني الإسبانيَّة المعروفة بالكنتيجات، وذاعت بينهم ترجمات كتب عربيَّة مشرقيَّة في الحكمة مثل: (كليلة ودمنة)، والقصص مثل: (السندباد)، عرفها الناس عن طريق صورها العربية، وأُنشئت مدرسة للدراسات العليا في مُرسية ثم أخرى في إشبيلية، واجتمع في هاتين المدرستين أعلام العلماء من المسلمين والنصارى واليهود، وكان يُشرف على هذا العمل الضخم ذلك الملك الذي استحقَّ من التاريخ لقب "السَابْيوُ أي العالِم".

وبالعودة لكتاب الألعاب.. نجده يشير في بدايته إلى أن الألعاب وسيلة من وسائل السعادة الفطرية التي أرادها الله للإنسان حتى يتمكن من تخطي ما يواجه من هموم ومشاكل لذلك وجدت وصنعت الألعاب لتحقيق السعادة، ومن بين تلك الألعاب لعبة الشطرنج التي كانت مفضلة في ذلك الوقت، لسهولة أدائها خاصة وأنها تُلعب أثناء الجلوس مثل النرد والجداول، لذا لعبها معظم الناس من الخاصة والعامة على حد سواء، كما لعبتها المرأة وهو ما ستظهره إحدى المُنمنمات، كما أنها تلعب في كل الأوقات أثناء الليل أو النهار في القصور والخلاء والحدائق والسجون.

وتظهر إحدى المنمنمات الموجودة بكتاب الألعاب؛ منمنمة لسيدتين تلعبان الشطرنج، إحداهما مسلمة والأخرى مسيحية في هدوء ولباس يعكس الحالة الاجتماعية لهما.


الورقة الأولى من (كتاب الألعاب) لألفونسو العاشر

 

أما بالنسبة لتكوينه، فيحتوي الكتاب على أكثر من مائة وخمسين منمنمة، منها عشرة تمثل صفحات كاملة، أما عن طرز كتابته فكان النص محاذياً في عمودين بخط الحرف القوطي في ذلك الوقت، ويشير الباحث طارق البحيري إلى تقسيم الكتاب بقوله: إن الجزء الأول منه مخصص لكتاب الشطرنج من (ورقة 1 إلى 64)، وكتاب النرد من (ورقة 65 إلى 71)، وكتاب الجداول من (ورقة 72 إلى 80)، وكتاب الشطرنج والجداول العشرية من (ورقة 81 إلى 85)، والألعاب الأخرى من (ورقة 86 إلى 89)، وكتاب الأوراق من (ورقة 91 إلى 93)، والألعاب الفلكية من (ورقة 95 إلى 99)، لذا فالجزء المفرد للعبة الشطرنج كان أكبرها (64) ورقة مكتوبة من الأمام ومن الخلف عن لعبة الشطرنج مما يوضح أهمية اللعبة آنذاك.

كما يشير الكتاب للعبة أخرى مرتبطة بلعبة الشطرنج ومستوحاة من الفصول الأربعة تلعب بقطع الشطرنج الكلاسيكية والنرد، يؤديها أربعة من اللاعبين وهو ما يظهر في إحدى المنمنات الموجودة بالكتاب باستخدام النرد والتلوين، ويمثل كل منهم محطة وعنصراً من الطبيعية، فالأخضر يمثل الربيع والهواء والدم، والأحمر يمثل الصيف والنار، والأسود يمثل الخريف والأرض، والأبيض يمثل الشتاء والماء.
 

وارتبطت لعبة أخرى بالشطرنج داخل أوساط المجتمع الأندلسي وهي لعبة النرد، التي تُعد من وسائل الترفيه، وقد أخذها المسلمون عن غيرهم من الشعوب والأمم التي احتكوا بها بعد الإسلام، وأصلها لعبة فارسية وهي المعروفة باسم الطاولة، ومارسها الخاصة والعامة، وتعرف بنرد شير نسبة إلى أرد شير بن بابك الذي وضع أسسها، وهي من الألعاب المشابهة للشطرنج لكونها لعبة هادئة يمارسها القوم وهم في حالة رخاء، وتعتمد على الحظ بشكل كبير ويستعمل فيها ثلاثون حجراً وفصان، على رقعة رسم عليها اثنا عشر منزلاً، وفي بعض الأحيان أربعة وعشرون منزلاً.
ولعبة النرد عبارة عن قطع صغيرة مصنوعة من العاج أو العظم أو الخشب لها ستة أوجه، ولكل وجه من الأوجه الستة نقاط مرتبة من الواحد إلى الستة، وهي مقسمة بحيث يكون مجموع النقاط في كل وجهين متقابلين سبعة، ونظراً لانتشارها في المجتمع الأندلسي فقد نهى المحتسبة عن لعب النرد باعتبارها مدعاة للعب بالقمار والميسر، وهو ما أشار إليه ابن عبدون بقوله: "يجب أن يُنهى عن لعب الشطرنج والنرد.. على سبيل القمار؛ فإنها حرام وتشغل عن الفرائض".

ويشير الباحث طارق البحيري لطريقة تصنيع اللعبة وتأديتها بقوله: لقد جاء تصنيع صندوق الطاولة في إحدى المنمنمات؛ بأن عملية التصنيع تتم في مرحلتين الأولى: يقوم النجار بتصنيع الإطار والسطح الخشبي، أما المرحلة الثانية: فيقوم نجار آخر بتنعيم السطح حيث سيلعب عليه ويضع اللمسات الأخيرة، ويتكون صندوق النرد من شكل مستطيل ويوجد على الجانبين الطويلين تجاويف (رسم) على شكل هلال، حيث ستكون أحجار اللعب على شريط يقسم الأجزاء إلى قسمين متساويين، ويتكون كل مربع من ستة تجاويف وتسمى المنازل، وتتخذ هي الأخرى شكل الهلال، وأما عدد الأحجار لكل لاعب هو 15 قطعة، وهناك بعض منها لكل لاعب 12 قطعة إضافة إلى النرد، واللعبة في الأساس تعتمد على تحريك الحجر –النرد- ليدور حول اللوحة في المنازل الموجودة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها