عمر أبو ريشة.. شاعراً ودبلوماسياً

د. مصطفى حكماوي


لا يمكن الحديث عن شعرائنا في القرن العشرين دون التوقف عند عمر أبو ريشة، الشاعر الذي ولد في مطلع القرن وغادرنا في نهاياته (1908- 1990)، الشاعر الذي لم يترك حدثاً وطنياً أو قومياً إلا تكلم عنه، كان أديباً ثائراً في شعره وكلماته وصوره، أعطى الشعر روحه فصنع اللوحات الشعرية الخالدة التي كانت له ولم تكن لسواه، كما كان سفيراً ملتقطاً لنواحي الجمال في أي مكان حل فيه لينقلها إلينا، فنفتن بها دون أن نتمكن من رؤيتها.


ينحدر أبو ريشة من زمرة الشعراء الرمزيين، ولكنه يختلف معهم كما صرح هو نفسه في أكثر من مرة؛ فهؤلاء يقولون بأن الشعر يجب أن تكون له رمزية واحدة فقط هي الموسيقى، وأن الغاية الأساسية منه هي خلق جو موسيقي لا يتعب الإنسان، ولا يحمله على التفكير في شيء، ولهذا فإن أكثر قصائدهم غير مفهومة، أما الرمزية في رأي شاعرنا فيجب أن تتوافر فيها ثلاث صفات هي: اللون والنغم والخيال، وأن تكون هذه العناصر الثلاثة وسيلة لنقل القارئ إلى حالة نفسية معينة أو عاطفة ساورت الشاعر وعبر عنها في قصيدته.

وبحرص عمر أبو ريشة على تضمين أعماله هذه العناصر يكون قد خلف لنا شعراً طالما تمنينا أن نقرأه ونسمعه، ولعلّ سر العبقرية في هذا الشاعر بالإضافة إلى ما سبق؛ أنه ينظر إلى الوجود بذلك النظر النافذ الذي يلتقط ما وراء الحجب من المشاعر والأحاسيس، ثم يردها إليك في شعره وقد تبلورت في نفسه، فإذا هي صور صادقة لما أحس ورأى، ولكنها صور لم ينقلها الشاعر نقلاً؛ وإنما أذابها في نفسه، وخلع عليها من ذاته، فجاءت على أنها لعمر لا تشبه من الشعر ما تقدم، ولا يمكن أن يلحق بها لاحق فيما تأخر.

ولقد بلغت طاقة أبو ريشة الشعرية ذروة اكتمالها في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، واستمر مدها حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، وفي هذه الفترة كانت حركة شعر التفعيلة قد بزغت، وتتابعت دواوين شعرائها في بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة، وأرجاء عربية أخرى منذ أواخر عقد الأربعينيات (بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، أدونيس، خليل حاوي، نزار قباني، صلاح عبد الصبور، محمد الفيتوري، علي السبتي...)، وكان من أهم ما ميز شعر أبو ريشة في هذه الفترة هو أنه -بفعل تكوينه واتجاه رسائله- كان يجعل كلماته وأبياته تستجيب إلى الحالة التي يعيشها، بعيداً عن حالات نراها في النتاج الشعري العربي على طول القرن العشرين، عندما كان بعض الشعراء ينساق وراء الشكل القديم، وتتطاول القصائد بسبب الانزلاق في قوالب شعراء التراث، وهي صيغ مركبة للجمل والعبارات وأوزان البحور، وهؤلاء الذين ينضوون في هذه الحالات إنما يفقدون ارتباطهم بزمنهم ومتطلباته التعبيرية، فيتحولون إلى مقلدين، وسرعان ما يدرك المتلقي تداخل النسيج وهيمنة القديم، مما يترك النص في عتمة تضيّع ملامحه.

ويتميز شعر عمر أبو ريشة أيضاً بالحضور القوي لفن الوصف بمختلف أشكاله وألوانه، حيث جعل منه موضوعاً للإبداع ووسيلةً للتعبير، وقدم من خلاله نصوصاً شعرية بديعة، تناول فيها وصف الطبيعة وموجوداتها، ووصف الأوابد والأماكن، ووصف الأعمال الفنية من نحت ورسم، واتبع طرائق متباينة في أداء وصفه من المباشرة في ذكر الموصوف إلى التشبيه والاستعارة والكناية، وكان يترك مسافة بينه وبين الموصوف أو يزج بنفسه في المشهد الذي يرسمه، مستهدفاً غايات جمالية للإمتاع، مدفوعاً إليها بالإعجاب والدهشة والانفعال بالجمال، وغايات تعبيرية لعرض موقفه وأفكاره ومشاعره تفادياً للمباشرة وللخطابية في الأداء؛ يقول في وصف الطبيعة معبراً عن حزنه وألمه:
مأتم الشمس ضجَّ في كبد الأُفْـ ... ـقِ، وأهوى بطعنةٍ نجلاءِ
عصبت أرؤُسَ الروابي الحزانى ... بعصابٍ من جامدات الدماءِ
فأطلّت من خدرها غادة الَّليْـ... ـلِ، وتاهت في ميسة الخيلاءِ
وأكبّتْ تحلُّ ذاك العصابَ الـ... أرجوانيّ باليد السَّمراءِ
وذؤاباتُ شعرها تترامى ... في فسيح الآفاق والأجواءِ
وعيون السّماء ترنو إليها... من شقوق الملاءة السوداءِ

فالشمس هنا تودع يومها والليل يطعنها طعنة قاتلةً بقدومه، وقد استطاع أبو ريشة أن يحول الظاهرة الفيزيائية إلى حالة إنسانية؛ إذ الشمس مهزومة أمام عظمة الليل، فخيال الشاعر منحنا صورة رائعة، والأهم من ذلك كلّه كيف استطاعت الصورة هنا أن تعكس الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر، وهي حالة الحزن والألم.

لقد عاش عمر أبو ريشة متنقلاً في بداية حياته بين البرازيل والأرجنتين والهند والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وأنهى عمله الدبلوماسي في الهند مرة أخرى. وخلال هذه الفترة قدم أفضل أشعاره، إذ استفاد من تنقلاته وتعرفه إلى البلدان والحضارات الأخرى، وخاصة حضارة الهند التي تركت آثارها العميقة في نفسيته وشعره، فقد بهرته بثقافتها، وهو بالمقابل أكرمها بشعره الذي يتحدث بدقة عن كل ما كانت تلتقطه عيناه.

وفي السنوات الأخيرة من عُمُر أبو ريشة توقف عن قول الشعر، كما ذكر مجموعة من النقاد الذين رأوا أن هذا التوقف كان احتجاجاً على الواقع المتردي عربياً، وقد ذكر عدد من أصدقائه أنه كان يحيي أمسيات شعرية من مختاراته الشعرية القديمة والمعروفة، في الوقت الذي أشار فيه البعض الآخر إلى أنه كان منهمكاً في إعداد ملحمته المعنونة بـ"محمد: مقدمة ملحمة النبي"، لكنه غادر حياتنا دون أن تصدر هذه الملحمة، وبقينا مكتفين بمقدمتها التي نشرت في مجموعته الشعرية، والتي يقول فيها:
عَربِدي يَا قُريشُ وانغمسي ما ... شئتِ في حمأة المنى النكراء
لن تُزيلي ما خطَّهُ الله للأر ... ض وما صاغه لها من هناء
شاء أن ينبت النبوة في القف ... ـر ويلقي بالوحي من سيناء
فسلي الربع ما لغربة عبد الل ... ـه تطوى جراحها في العراء
هو ذا أحمد فيا منكب الغبــ... راء زاحم مناكب الجوزاء

لقد عاصر شاعرنا طيلة حياته عدة أحداث كان لها الأثر العميق في شعره؛ فقد رأى الاحتلال والثورات، وعاش الجلاء والتحرر، شهد احتلال فلسطين، وكان شاهد عيان على الانكسارات والانتصارات، لذلك انبرى للشعر كأداة محاولاً استنهاض الأمة العربية في أكثر من مكان، وخير دليل على عمق جرحه قصيدته بعد النكبة التي استهل بها ديوانه، والتي يذكر فيها:
أُمّتي، هل لك بين الأُممِ ... منبر للسيف أو للقلمِ
أتلقّاكِ وطرْفي مطرقٌ ... خجلاً من أمسكِ المنصرمِ
ويكاد الدمع يهمي عابثاً ... ببقايا كبرياءِ الألمِ

 

في الختام؛ يمكن أن نقول إن عمر أبو ريشة كان شاعراً كبيراً، يقف –كما ذكر جميل علوش في كتابه "عمر أبو ريشة: حياته وشعره مع نصوص مختارة- على رأس مذهب شعري رفيع، ولو التمسنا سمة بارزة له ولشعره لقلنا إنها الطرافة؛ فهو شاعر طريف في صوره وخيالاته، طريف في أفكاره وموضوعاته، طريف في صياغته الشعرية التي لا نجد لها مثيلاً، لا في قديم ولا في حديث، وقد بلغ في الشعر مرتبة راقية، قلّ من يستطيع أن ينافسه فيها، فالواقع أن قصائده مفعمة بدقة الحس، وقوة الخيال وروعة الفن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها