سلامة حِجازي.. والتّراث الغنائيّ في عصر النّهضة

أحمد عزيز الحسين


 ازدانتْ لوحةُ عصر النّهضة الغنائيّة والموسيقيّة بأسماء متميّزة، وتألّقت فيها مواهبُ لافتة تركت تأثيرها البيِّن في ما أُنجِز من أعمالٍ فنيّة رائعة، ما تزال تسحر محبّي الغناء الأصيل، وتأخذ بألبابهم، ولعب رجالُ الدّين المتنوِّرون دوراً تقدُّميّاً في صياغة هذه اللّوحة، بدءاً من محمّد عبدالرّحيم المسلوب (1793-1928) شيخ الغناء في ذلك العصر، ومُبتكِر فنّ الدّور في تراثنا الغنائيّ العربيّ، ومروراً بالشّيخ أبي خليل القبّاني (1858- 1903) الذي أصّل فنّ المسرح الغنائيّ، وترك تراثاً فنيّاً وموسيقيّاً جديراً بالاحتفاء، ووصولا إلى سيّد الصّفتي، وأبي العلا محمّد، ومحمود صبح، وزكريّا أحمد، وانتهاء بالشّيخ سلامة حجازي (1852-1917) الذي تتلمذ على الشّيخ أبي خليل القبّاني، وأفاد منه في صياغة ملامح هذه اللّوحة، وفتح البابَ واسعاً للموسيقار المجدِّد سيّد درويش (1892-1923) كي يقتدي به، وينهج نهجه، وينعطف بهذا الفنّ انعطافة متميزة تُخرِجه من خانة النّخبة الأرستقراطيّة التي كان يتقوقع فيها، وتدخله إلى دائرة المُهمَّشين والصّنايعيّة وسكّان القاع. 


ومن حسن الحظّ أنّ أغلب تراث عصر النّهضة الغنائيّ حُفِظ من الاندثار والضَّياع، وبدِئ بتسجيله على أسطوانات أو (كبّايات شمعية) في باريس في أواخر القرن التّاسع عشر، وأصبح بإمكاننا الاستماعُ إلى ما أدّاه بعضُ مطربي ذلك العصر من قصائد ومُوشَّحات وطقاطيق وأدوار بديعة، ثم قامت شركةُ الأسطوانات الشّمعيّة نفسُها بافتتاح فرع لها في القاهرة في عام 1901، وهي السّنة التي رحل فيها المطربُ الشّهير عبده الحامولي عن دنيانا، وأتيح له أن يسجِّل بعض أدواره على هذه الأسطوانات قبل رحيله من مثل أدوار (لسان الدّمع)، و(قدك أمير الأغصان)، و(شرفت يانور العين)، و(أنا قلبي عليك).

وقد استمرّت الشّركة المذكورة في تسجيل الأدوار والقصائد والموشَّحات لتلاميذ الحامولي، كما قامت بالمهمّة نفسها شركاتُ الأسطوانات العاديّة عند ظهورها في عام 1903، وفي مقدّمتها شركتا (أوديون)، و(بيضافون)؛ وهكذا أتيح لأغلب هذا التّراث أنْ يُصَان ويُحفَظ بعد أن تلقّفه كبارُ المطربين في ذلك العصر، وأدَّوه بطريقة رهيفة ترشح بتملُّكهم له، وتقديرهم الكبير لمبدعيه.
 

واليوم نستطيع أن ننعم بالاستماع إلى كثير من هذا النَّتاج بعد أن أخرجه عشّاقُه وحَفظتُه من أرشيفاتهم، وأتاحوه على اليوتيوب للرّاغبين في الاستماع إليه، وفي مقدّمتهم (مؤسَّسة التّوثيق والبحث في الموسيقا العربيّة)، التي يديرها من بيروت الباحث والموسيقيّ مصطفى سعيد، وقد أصدرت المؤسّسة المذكورة كتاباً عن الشّيخ يوسف المنيلاوي، ومختارات من أعماله بالتّعاون مع دار السّاقي اللُّبنانيّة تحت عنوان (يوسف المنيلاوي مطرب عصر النّهضة العربية/ فنّه وعصره)، وهناك عشّاق آخرون لهذا التّراث لا يزالون ينشرون ما يتوافر لهم منه على قنواتهم الموسيقّية المُتاحة على (اليوتيوب) وفي مقدّمتهم عيسى متري، أمّا الدكتور مؤنس يونس فيُعنَى في قنواته الموسيقيّة الثلاثة، ولاسيّما "قطفات من تراثنا الغنائي القديم" بصيانة ما يتوافر له من هذا التّراث، فيخلّصه من (الخشخشة)، وينقّيه من (الغبار)، ويجعله نقيّاً صافياً كالبلّور لكي يتيح للشّباب الاستماع إليه بشغف، وقد لقيت قنوات الدّكتور مؤنس إقبالاً كبيراً، وتجاوز عدد الأعضاء الذين يتابعونها عشرة آلاف، ويقف في مقدّمة النّتاج الذي حظي باهتمام (مؤسَّسة التّوثيق والبحث في الموسيقا العربيّة) ما تركه الشيخ سلامة حجازي من أدوار وموشّحات وقصائد رائعة؛ إذ أصدرت نماذج من أعماله، وأتاحت لعشّاق فنّه الاطّلاع على بعض هذا النّتاج بعد أن قامت بتنقيته، وتخليصه من الخشخشة.

وسيرة الشّيخ سلامة حجازي تماثل سير أغلب مطربي عصر النّهضة كمحمّد سالم العجوز (1839- 1929)، ويوسف المنيلاوي (1850- 1911)، وسيّد الصَّفتي (1867- 1939)، وعبدالحيّ حلمي (1857-1912)، ومحمود صبح (1898-1941)، وإبراهيم القبّاني (1852- 1927)، وداوود حسني (1870- 1937)، وأبي العلا محمّد (1884-1927)، وسيّد درويش (1892- 1923)، وزكريّا أحمد (1896- 1961).

فقد بدأ حياته هو الآخر بتعلُّم مهنة بسيطة بعد وفاة والده ليحصل على لقمة العيش، وانصرف خلالها إلى حفْظ القرآن وتجويده، وتردَّد على المساجد، وألمَّ بما كان يحتاج إليه من علوم دينيّة ولغويّة وأدبيّة، ثمّ شغله حبُّ الفنّ عن التّخصُّص في علوم الدِّين والتُّراث، فاستغرق فيه، وأصاب نصيباً كبيراً منه، ولكنّه ما لبث أن أدار ظهره لهذه العلوم، وانصرف إلى الفنّ وحده، وجعله شغله الشّاغل، وقد عمل في البداية ممثِّلا ثانويّاً في فرقة الممثّل سليمان الحدّاد، ثم انتقل إلى فرقة الفنّان اسكندر فرح (1851- 1916)، وما لبث أن انفصل عنه، وأسّس لنفسه فرقة خاصّة سمّاها (فرقة دار التّمثيل العربيّ)، وقدَّم فيها بعض ما كان يترجمه الشّيخ نجيب الحدّاد (1867- 1899) من مسرحيّات، فلحَّنها وأجاد فيها، ثمّ أتيح له اللّقاء بالفنّان جورج أبيض (1880- 1959) عقب عودته من باريس؛ حيث شكّلا معاً ثنائيّاً ناجحاً قدّم بعض المسرحيّات المترجمة كمسرحيّة لويس السّادس عشر، وعطيل، وأوديب الملك، وكان الشّيخ سلامة يغنِّي المقطوعات الشعرية التي كانت ترِد في هذه المسرحيّات بعد أن يلحِّنها بنفسه؛ ممّا أكسبه شهرة مدويّة في مصر، وقد حفزتْهُ هذه الشُّهرة على مغادرة مصر إلى البلدان العربيّة لعرض فنّه فيها؛ حيث زار تونس، ولبنان، وسورية، والتقى في حلب بالموسيقيّين وأصحاب الموشَّحات، والأدوار والقدود الحلبيّة من أمثال عمر البطش (1885- 1950)، وحظي بإعجابهم الشّديد، كما كانوا موضع تقديره واحترامه، وفي دمشق داهَم الشّللُ النّصفيّ الشّيخ سلامة؛ فعاد سريعاً إلى القاهرة، ومكث فيها عامين يقارع المرض، ويصارعه وهو على خشبة المسرح يقدّم الفنّ الذي أولع به، إلى أن تُوفِّي في عام 1917 مخلِّفاً وراءه ثروة كبيرة من الأدوار والقصائد والموشَّحات، والمسرحيّات الغنائية التي تدلّ على عظيم ما قدّمه لمحبِّي الفنّ الأصيل.

وقد حاز الشّيخ سلامة على شهرة واسعة أهّلته لتقديم مسرحيّاته في (مسرح دار الأوبرا)، الذي بناه الخديوي إسماعيل في القاهرة، وجعله مقصوراً على الفرق الأجنبيّة فقط؛ إذ أجبِرتِ الحكومةُ المصريةُ على فتح أبواب دار الأوبرا في عام 1885 لمسرحيّات الشّيخ سلامة الغنائيّة، ولم يكن هذا تفضُّلا منها على فنّاننا الكبير، بل كان اعترافاً بشخصيّته الفنيّة المتميِّزة، وانصياعاً لقوّة فنيّة مذهلة جمعت الرّأي العامّ حولها، وأصبح لها نفوذٌ لا يمكن تجاهُله أو الوقوفُ في وجهه.

وقد عُرِف الشّيخ سلامة بقوّة صوته وجهارته ارتفاعاً وانخفاضاً، وكان صوته يرتفع إلى الطّبقات العليا، وينحدر إلى الدّنيا محافِظاً على رنّته وجماله وقوّته، ومع أنّه عُرِف بلون غنائيٍّ خاصٍّ به اختاره لنفسه، وتميَّز به من أقرانه، هو الغناء التّمثيليّ أو المسرحيّ الذي يصوِّر المواقف العاطفيّة، ويرسم الأحداث التّاريخيّة الحزينة، إلّا أنّه مع ذلك كلّه، أجاد في أداء الأدوار، وترك لنا ثروةً منها، ويمكن للرّاغبين في الاطّلاع على تفاصيل سيرته وحياته قراءة بعض ما كُتِب عنه في موسوعة (الوكيبيديا)، أو في كتاب (موسوعة الغناء المصريّ في القرن العشرين/ ص: 106) لمحمّد قابيل، أو في كتاب (كلمات في الفنّ/ 80-87) لرجاء النّقّاش، وأمّا مقالي هذا فسوف يُعنَى بتحليل أحد أدواره البديعة وهو دور (بسحر العين)، الذي ألّف كلماته الشّيخُ محمّد الدّرويش، ولحّنه محمد عثمان (1845-1900) شيخ الملحِّنين في القرن التّاسع عشر، وزميل الحامولي في الفترة نفسها، وملحِّنُ معظم أدواره وقصائده، وكان الموسيقار داوود حسني إذا أحيا حفلةً موسيقية بدأها بدور لمحمّد عثمان؛ لأنّه كان يعتبره أباه الرّوحيّ، والمعلِّمَ، الذي لا يتقدّم عليه ملحِّنٌ آخر في القدرة على التّجديد والابتكار حتى عبده الحاموليّ نفسه.

وسوف يلاحظ المستمع الذّوّاقة أنّ الشّيخ سلامة يؤدّي هذا الدّور بنفسه، ولا يُشرِك معه السَّنِّيدة أو (المذهبجية)، أو (الكورس) مع أنّ حوار السّنّيدة مع المطرب أصبح جزءاً من قالب الدّور بعد أن أضافه محمّد عثمان في الرّبع الأخير من القرن التّاسع عشر، وسمّاه (الهنك)، إلى حدّ أنّنا نجد أغلب المطربين، في عصره، يشاركون المطرب في أدائه للمذهب والأغصان، كما يشاركونه في التّرجيع والآهات، ويتركون له التّفريد واللّيالي ليؤدِّيهما بنفسه، ويظهر ما لديه من براعة في الغناء والارتجال؛ ولذك نجد عازف الكمان يحلّق برهافة في التّعبير عن المعاني عندما ينوب مناب (السّنّيدة)، وكذلك يفعل عازف القانون، وأظنّ أنّ كلّ العازفين من عمالقة عصر النّهضة، وقد يكون عازف الكمان البارع الذي رافق الشّيخ سلامة في هذا الدّور هو أنطوان الشّوّا / والد أمير الكمان سامي الشّوّا (1885-1865)، أمّا عازف القانون فقد يكون محمّد الرّشيدي الكبير، أو محمّد العقّاد الكبير (1850-1930)، أو عبدالحميد القضّابي، أو علي صالح، والد عازف القانون البارع محمد عبده صالح (1916- 1970) وهم جميعاً من خيرة عازفي القانون في القرن التّاسع عشر، والرّبع الأوّل من القرن العشرين.

كما نلحظ في الدّور أمراً آخر هو غياب (المُطيِّباتي)، الذي كان يطلق عبارات الإطراء والإعجاب، والمدح للمطرب عند أدائه للدّور أو الطّقطوقة؛ لكي يحفِّزه على مزيد من العطاء والارتجال والتّألُّق، ونجد دور (المُطيّباتي) ملحوظاً في أدوار عصر النّهضة وطقاطيقه بشكل عامّ؛ وذلك لأنّ المطرب كان يسجِّل ما يغنّيه في قاعة شركة الأسطوانات المخصَّصة للتّسجيل برفقة التّخت والسّنِّيدة فقط، ومن دون سمّيعة، وكان بأمسّ الحاجة إلى من يحفِّزه على إظهار ما لديه من إمكانات صوتيّة، وقدرات أدائيّة؛ ولذلك أسنِدَتْ هذه المَهمَّة إلى (المُطيِّباتي) في ظلّ غياب الجمهور.

وثمّة ملاحظة أخرى لا بدّ من إبدائها في الحديث عن هذا الدّور، هو أنّ الشّيخ سلامة حجازي يملك (بحّة) محبَّبة وجميلة في صوته، تشبه البحّة الموجودة في صوت الشّيخ أبي العلا محمّد/ أستاذ أمّ كلثوم (1898- 1975)، وفي ظنّي أنّ هذه البحّة تركت تأثيراً رهيفاً وفعّالاً في آليّة إنصات المستمع للدّور؛ ودفعته للإعجاب بغناء الشّيخ سلامة، وجعلته يلاحظ النّزوع التّعبيريّ الذي مال إليه عند أدائه للدّور، وهو ما جعله قريباً إلى القلب والنّفس معاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها