الموتُ.. بوصفه أثراً خلاصياً

جولة في رواية "شرود أبيض"

د. محمد صلاح زيد

إن عالم الشخصية الروائية في الرواية المصرية المعاصرة، نجده أحياناً يرتجف من الخوف والقهر والعذاب النفسي والسديم والتيه.. ووسط هذا العالم المرير والمليء بالأحزان، ورغم قساوة الحياة بكامل مفرداتها عليه، إلا أنهم لا يقفون جامدين، بل أحياناً يدخلون في تحدٍ واضح مع الواقع، إلا أن الحياة كثيراً ما تأبى أن تمنحهم ما كانوا يحلمون به وسط هذه التدحرجات الحياتية المختلفة، فتمتلئ تلك الشخصيات بالقلق والضجر اللذين ينبعان من عالم متاهي سديمي يحيط بهم، فتكون الكتابة عنهم متشظية كما أرواحهم التي تنطق بها النصوص.

وعند الجيل الجديد من كتاب الرواية في مصر، نجد أن تشظي الشكل غالباً ما يقترن بالحد الأدنى في صوغ النص، والذي يتجلى في استعمال لغة مقتصدة، وتجنب الوصف المطنب، وتوظيف التلميح والصمت، ودعوة المتلقي ضمنياً، إلى إعادة تخيل النص، وهذه "الأدنوية" في التعبير، تسجل اعتراضاً عن ملاحقة الواقع في كليته واختصار السرد وتعويضه بتفاصيل صغيرة تكسر وهم القبض على ما هو عام وشمولي1.

ومن خلال هذا المنطلق، جاءت هذه الدراسة، لطرح تساؤلات عدة تشغل تشظي الشكل في الرواية المصرية المعاصرة، وقد اختار الباحث نموذجاً روائياً لكاتب يتحقق لديه تشظي الشكل، ويعتمده أساساً في الكتابة وصوغ الحكاية، محاولاً رصد أهم ملامحه وتشكلات الكتابة عنده في صوغها المتاهي.
 

ثيمة الموت في رواية شرود أبيض

يعد الموت ثيمة مركزية في رواية "شرود أبيض"؛ سواء الموت الوجودي أم القيمي، فبوفاة والده الذي أحبه كثيراً قبيل مناقشته لرسالة الدكتوراه الخاصة به، استحالت الحياة لديه عدماً، كان والده "سليمان الشافعي" ذلك الرجل المستنير المتفتح الذي شكل شخصيته بأفعاله الجريئة وطموحه، ذلك الرجل الذي يحيا بداخله ولا يغادره، ولا يذهب إلى قريته "المحارب" بعد وفاته، إلا ليكون في جواره، لقد أصبح تائهاً شريداً بعدها، لا يعرف له طريقًا، يقول:
"لا أذكر أني حكيت حلماً لكميل أو شعبان، أو حتى أبي حين ما نتحدث كصديقين حميمين، وأبدو أنا أحياناً كصديقه الأكبر سنًا، فيستمع لي بحماس وكأنه يريد أن يعرف أو يتعلم. قديماً كان هو من يسيطر علي بحكاياته وقصصه وأمثاله التي يتناقلها عن جدتي، وعن كبار السن في المحارب الذين يحبهم ويجلس معهم كثيراً، ثم بعد أن زاد تكرارها عن الحد المعقول بدأت أنا أهرب بذكاء بأن أمسك بزمام الحديث وأحدثه وهو يستمع بشغف ويسأل بمودة تلميذ يحب أستاذه. علاقة غريبة بيني وبين أبي، يشكلها الزمن بخصوصية تجعل تكرارها نادراً، لا أظن أن أباً تحولت علاقته بابنه بمثل التحولات التي شكلت علاقتي به. يبجلني أمام الناس كما لو كنت أخاه الأكبر، ويسألني ويستفسر أمامهم، ثم يعارض ويشكك ويضيف جديداً، أو يؤيد ويعلو صوته وينفعل ويصير حديثه كله خارجاً من عضلة القلب التي تضخمت، ونصحه الطبيب أكثر من مرة في حضوري أو حضور حسن الذي كان أكثر ملازمة له مني بعدم الانفعال أو الغضب.

في مرة من مرات مشاجراته الكثيرة مع أسمى قلت له مهدئاً بعد فاصل طويل من النصائح عن أسرار البيوت التي يجب ألا يطلع عليها أحد، قلت له: إني أنا أنت، فالشبه بيننا كبير في كل شيء. أخذت أنفه الشامخ وعقله المتقد كما يقول أغلب الناس عني وعنه، وأخذت جسمه الفارع دون الانحناءة الخفيفة التي كانت من نصيب محيمد. كنت أحس أنه أنا بتعديلات إيجابية وأحياناً سيئة، وأظن أن أكثر المغايرات سيئة. أبرز أوجه الشبه بيننا كانت الفكاهة والقدرة الكبيرة على إضحاك الناس بلمحات سريعة خاطفة وتشبيهات ذكية للأشياء من حولنا، والأكثر انتقادات ساخرة لاذعة تضحك وتبكي معاً. تبكي الضحية وتضحك الآخرين.. الآن أحسب أن فكاهتي ماتت معه، يبدو أنها تضخمت هي الأخرى مثل عضلة قلبه ثم انفجرت أو توقفت عن العمل فجأة فدفنوها بحماس وحب كما دفنوا أبي، لا أدري كيف يجتمع الحماس في الدفن مع الحب؟ ظهر حب أبي عند كثير من الناس من الأهل والأقارب والجيران، وكل رجال المحارب ونسائها عند الدفن. هل كانوا دون وعي ينفذون الأثر الذي يقول: إكرام الميت دفنه، وكانوا يريدون إكرامه؟ لا أدري، ولكن تأكدت بالفعل أني لست الوحيد الذي أحبه بصدق، وتعلق بحديثه الحلو، وجلسته الممتعة الكريمة وبسمته الساحرة" [ص: 20-12]2.

وكأن هذا الأب كان بمثابة الإله الذي يرشده دائماً إلى الصواب، ويبصر به الطريق، طريق الحياة المظلم، ويراقبه في كل أفعاله حتى بعد وفاته، الأب النموذج والمثال الذي يحاكيه ويفخر به، ولا ينسى أثره فيه، ذلك الأثر الذي زرعه داخله منذ الصغر ونما معه بتقادم العمر، كان يرى نفسه ظلًا لأبيه، يقول:
"سليمان الشافعي شكل شخصيتي بأفعاله الجريئة وطموحه، ولولاه لكنت إنساناً عادياً، لا أنشغل كثيراً بالتفاهات.. يستمر بكائي كثيراً بعد موت أبي؛ فيسخر الآخرون مني ومن ضعفي ومن حنيني الذي يشبه حنين النساء ورقتهن" [ص: 13]3. ظل يراقب والده في كل أفعاله، ويذكره دائماً بلا نسيان، لقد شكل تذكره الدائم لوالده صورة رغبة لاعجة تبتغي أوبة الغائب المفقود، كي تزول الغشاوة التي حجبت الحياة وكسفت الفرح، كان تذكره الدائم لوالده كنوع من استعادة صلة كانت موثوقة بنبع الحياة الحي الباذخ داخله.

 لم يتوقف الموت الوجودي عند والده، فلقد سبقه إلى عمته "نصرة"، تلك المرأة القوية التي تكبر أباه بعشرين عاماً، فكان يناديها كما عوده أبوه بجدتي، غيبها الموت مبكراً قبل التحاقه بالجامعة، ماتت في نفس اليوم الذي ظهرت فيه نتيجته للثانوية العامة، فبكاها كثيراً، بكى تلك المرأة التي كان يعتبرها أمه الحقيقية عوضاً له عن "أسمى" أمه التي ولدته، لكنه ظل بعيداً عنها طوال الوقت، يقول: "ما زال يتملكني الغرام القديم بمتابعة الحاجة نصرة وترصد حركاتها وسكناتها.. نصرة هي الأم الحقيقية لي، وهي الدنيا بأسرها.. دكتها وسريرها وبخورها وفلوسها المعطرة وبطاطتها المسلوقة والسوداني المطحون، كل شيء لها ومنها وفيها أتأمله في ذاكرتي التي أصبحت صحرائي التي أنقب فيها بدراية وخبرة وصبر، فأعرف مواضع السلوان والمتعة. نصرة تحبني كرجلها الوحيد، كما كانت تقول دائماً. دللتني كثيراً دون بقية أطفال العائلة، وحسدوني على أصابعي التي تخرج من حجرتها ممتلئة بالشلنات والفكة أو بالحلوى أو السوداني أو البطاطا" [ص: 36]4. كانت الحاجة "نصرة" أماً بديلة له عوضته عن حنان أمه الحقيقية "أسمى" الغائبة، عاش طفولته في كنفها، وكنف رعايتها ومحبتها له، محبتها تلك التي ستتجلى أكثر للجميع بعد وفاتها، عندما يكتشفون أنها كتبت أوراقاً بكل ممتلكاتها له، وحرمت الباقين منها؛ مما أشعل نار الفتنة بينه، وبين عمه عبد الحميد وأبنائه.

"نصرة" كانت له الدنيا بأسرها: "المحارب بدون نصرة كحياتي بدون ديمة. نصرة طفولتي، كان فيها تدللي ومتعتي وأملي في حياة تشبه العز الذي كان يلفها لفاً. المحارب بدون نصرة كمقبرة" [ص: 37]5. ويرصد لنا الكاتب تفاصيل يوم وفاتها بكل حزن وأسى، ذلك اليوم الذي يعني له انكساراً كبيراً، وفقداً لأحد أهم الشخصيات التي تشكلت من خلالها حياته، يقول: "يوم وفاة نصرة يوم فاصل في حياتي، احتشد كل الرجال، وكل النساء إلا أسمى أظهرت شماتتها وأعلنت فرحتها دون أدنى مواربة. ماتت يوم ظهرت نتيجتي في الثانوية العامة، لم تعرف بالطبع نتيجتي أو تبارك لي وتعطيني بيدها عشرين جنيهاً وربما أكثر، كما فعلت في المرات السابقة. صعق عمي عبد الحميد حين رأى العقود المسجلة التي باعت لي بها نصرة فدادينها كلها. خرج هائجاً كالثور وأنا أبكي في وسط الديوان، فجذبني من رقبتي وصرخ بأعلى صوته: حيلتك إيه عشان تقدر تشتري اتناشر فدان" [ص: 40-41]6. ماتت "نصرة" تلك المرأة التي كان يستند عليها كثيراً، ويعتمد عليها في الكثير من شؤون حياته المعنوية، لكنها آثرت أن ترحل بجسدها فقط، وتركت له رعايتها المادية التي قد تعوضه فقدها شيئًا ما، وستظل معه طوال عمره، منحته كل أملاكها الأرض والديوان والطاحونة والأبقار التي تملكها لدى الفلاحين، أرادت أن تقول له، إنها ستبقى معه طوال العمر ولن تفارقه أبداً، ستظل ترعاه وتحنو عليه دائماً حتى لو رحلت بجسدها وتركته.

ويظل الموت كأثر خلاصي لديه، عندما يرغب فيه أثناء وجوده في القرية الساحلية بالساحل الشمالي، استدعت رغبته في الخلاص لديه وفاة أخته "ندية"، تلك الأخت الجميلة التي ارتبط معها بذكريات الطفولة القديمة، كانت وفاتها بمثابة الصاعقة على نفسه، لم يكن يتوقع أن تفارقه ندية هكذا في وقت مبكر من عمرهما، يقول:
"فكرت أن أركب السيارة وأربط عصابة على عيني بعد أن أوجهها إلى البحر أو إلى أحد المباني، ثم أنطلق بأقصى سرعة لعلني أجد باب الخروج. فكرت في أكثر من فكرة للخروج ولكني كنت أؤجل التنفيذ إما خوفاً، أو لأن الفكرة غير جيدة أو لا تروقني ولا تتناسب مع شرف زيارة الموت الأولى لي.

كثيراً ما أحسد ندية أختي التي ماتت وهي تلد ابنها حسام، ندية أكبر مني وتزوجت جعفر ابن عمي. أشعر أحياناً بالغباء لأني لم أتوقع ميتة ندية الجميلة التي تناسب رونقها وجمالها. ندية زهرة البيت ونوراته ونداه الذي تبخر فجأة، بيضاء بحمرة.. واسعة العينين، وجبهتها لامعة دوماً، ولها ذقن مفلوجة تنثر البهجة إذا ضحكت وتبدو أكثر روعة وجمالًا إذا بكت. كان يجمعني بها حبنا الجنوني لأبي وتمردها الدائم على أمي أسمى. موت ندية أصابني بالاكتئاب ولكني بقيت حياً وطارت أحزاني مع اكتمال عام على غيابها، ويحط من جديد حين أرى ابنها حسام، فتجنبت رؤيته، وكثيراً ما أرسلت له عيديته مع أبناء عمه، وحين أراه صدفة أبكي وتتنازعني رغبتان متناقضتان في قتله؛ لأنه سبب فقدي لندية ورغبة في رعايته لأنه سيحمل قلبها الطيب وضحكاتها التي تبث المرح في كل ركن من أركان البيت.

آهٍ يا ندية لو جئتِ معي هنا إلى الساحل الشمالي، حيث الورود والعصافير والنظافة التي كانت شغلك الشاغل" [ص: 25-26]7. إن الرغبة في الموت لدى البطل هنا جاءت كأثر خلاصي من هذا العالم الدنيوي الموحش، يرغب فيه ويفكر به ويسعى إليه؛ لدرجة أنه يحسد أخته "ندية" التي نالت شرفه، فهو يشعر بالغباء لأنه لم يتوقع موتها الذي يناسب رونقها وجمالها، وكأن الموت هنا شرف عظيم يُكافأ به كل شخص نبيل، وفي المقابل فالحياة عقاب للأحياء، الذين هم غالباً أخساء، فكما الموت للنبلاء، فالحياة إذن تبدو لديه للأخساء. إن ثمة شعورين متوازيين متضادين يكشف عنهما هذا المقطع السردي السابق، وهما: فجيعته في فقد أخته وحزنه عليها، وتذكره الدائم لها، وسعادته بنيلها شرف الموت الذي يناسب رونقها وجمالها ونبلها، حزنه فقط لفقدها وغيابها، أما موتها فهو شرف يناسب نبلها، يسعى إليه كثيراً ولا يناله.

وعبر قطار الموت الذي أحاط بحياته، ركب فيه صديقه "كميل" مع من ركبوا، غيب الموت آخر من بقي له في الحياة من أحبة حقيقيين مخلصين، فبكاه كثيراً، وحضر جنازته وهو غير مصدق لخبر مقتله: "استيقظت على حمد وحسن وهما يفتحان باب الاستراحة ويلبساني ملابسي ويأخذاني لأسير في جنازة احتشد فيها كل رجال ونساء القرية، جنازة ضخمة جداً، حتى الأطفال والأبقار والشردان والنخل، كل شيء في المحارب احتشد في الجنازة، حين اتجهوا إلى المقابر سألت عن كميل ولم يجبني أحد، فتأكدت أن الموت الذي يلوث كل هواء الكون الآن وينتشر كالوباء أخذ كميلًا وجورجينا، الموت يتعمدني أنا شخصياً، مشكلتي معه شخصية، وهو ما زال يرسل لي الشرود الأبيض ليطلع علي؛ ليعرف أحبابي ويأخذهم" [ص: 71]8. مشهد خلاصي توقفت فيه الحياة بوفاة صديقه "كميل"، وجنازة مهيبة تنبئ عن عظمة كميل ونبله واستحقاقه لشرف احتشاد كل شيء في قريته المحارب لتوديعه. ومن الموت الوجودي الحقيقي الذي يسلب الحياة إلى الموت الوجودي المتخيل الذي يؤذن بحياة جديدة مغايرة تماماً للحياة السابقة، يؤذن بحياة كما الموت، لكنها حياة لا تُسلب فيها الروح، وإنما يُسلب فيها النور، القدرة على الإبصار، فلقد كانت تجربة العمى التي أصابت "حميد" في آخر فصول الرواية بعد وفاة صديقه "كميل"، تجربةً قاسيةً على نفسه، رأى فيها الموت الحقيقي الذي طالما عاش يحلم به وهو نائم وهو مستيقظ، حتى وهو مسافر إلى "الساحل الشمالي"، عندما كان يتمنى كثيراً أن تنفجر إطارات سيارته حتى يغيبه الموت للأبد مع من غيبهم، كان يرجو لقاءهم في العالم الآخر، وكم من مرة تمنى هذه الأمنية، فكان يزيد من سرعة السيارة فوق السرعة القانونية المقررة، لعل إطارات السيارة تفعلها وتريح قلبه المنهك، الذي تمنى له أيضاً أن يتضخم وينفجر كما حدث مع أبيه ليلحق به، لقد أدخله العمى في تجربة موت وجودي متخيل أذاقه الهوان، وأورثه الذل والضعف، فاستحالت حياته عذاباً على عذاب، تلك الحياة المتشظية المملوءة بالتيه والاغتراب والشرود الدائم، كما الشرود الأبيض الذي يتقافز هنا وهناك طوال الوقت بلا استقرار أو اطمئنان، يقول:
"الطبيب الذي جاءوا به قال هذا فقد مؤقت للبصر بسبب نفسي، وارتفاع ضغط الدم، سبب انفصالًا في الشبكية والعصب البصري، والأمر يحتاج لاستقرار الحالة النفسية. سمعت بكاء أسمى وهي تندب حالي وحالها، فتمنيت أن أرى ملامح وجهها، وعجزت عن تخمين تعبيراتها وإحساسها تجاه هذا العمى الذي أصابني، وتلك الحالة غير المتوقعة" [ص: 72]9.

يتجاور في "شرود أبيض" الموت الوجودي الحقيقي والوجودي المتخيل المقترن ببلاغة الانتهاء الوجودي، والموت المعنوي المؤطر بجمالية الانحدار القيمي، فتبرز منظومة القيم المجتمعية في صورة تحول كارثي أو أشبه بالكارثي؛ "حيث تفقد بعض الشخصيات حسها الإنساني، وتنحدر صوب عالم الشرور والآثام، وتتصل بالفعل المدنس والمحرم، فتنمو المآسي والأحزان، وينتشر القلق والألم"10، جاء هذا عبر أحداث متفرقة داخل الرواية، بدءاً من تبدل مظاهر الحياة وتغير معالمها داخل قرية "المحارب"، وتبدل أساليب الزراعة بحقولها؛ مما أورث الناس انتشار الأمراض كالسرطان والتهاب الكبد الوبائي وغيره، ومروراً بنشوب المشاجرات داخل القرية الفقيرة المعدمة، حتى سقط قتيل في إحدى هذه المشاجرات، أيضاً تجلى هذا في حكايات "خالد" حارس شاليهات الساحل الشمالي، تلك الحكايات المتكررة عن جرائم العربان وحوادث النهب والقتل التي يقومون بها طوال الوقت، هذا غير حوادث القتل والسرقة والاعتداءات التي أصابت المجتمع المصري عقب القصور الأمني الذي نتج عن ضعف الدولة بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير؛ مما حدا بعودة المتطرفين للظهور مرة ثانية، وتمكنهم من ارتكاب عمليات إجرامية أودت بحياة الآمنين، وكان "كميل" وأخته "جورجينا" صديق "حميد" ضحايا لبعض هذه العمليات، التي هددت أمن واستقرار الوطن، وحرقت وقتلت ودمرت الكثير، مما أعطى مبرراً كافياً لديمة _في اعتقادها_ للهرب من "حميد" خارج مصر.

لقد جاءت هذه النماذج لتؤكد على موت الأحياء وهم على قيد الحياة، وكأن الموت هو نهاية القبح. لقد مثل الموت هنا بنوعيه الوجودي والقيمي أثراً خلاصياً من هذه الحياة المتشظية، التي يعاني فيها الأحياء شروداً كبيراً، شروداً يتراءى أمام أعينهم جميعاً طوال الوقت، كما تتقافز الشردان في كل مكان داخل "المحارب" وخارجها، فأضحت النجاة في الموت.

 ختاماً؛ يمكن القول إن الكتابة الروائية في "شرود أبيض"، لم تتوان من جهتها عن اختراق الحجب، وسفح المحظورات، والاجتراء على التعايش مع الحياة الناقصة غير المكتملة المتشظية داخلياً وخارجياً، فكانت تجاور المحاولات والانكسارات، أملًا في الوصول يومًا. لقد انحازت إلى قيمة الحياة بجوار الموت، دون أن يغيب عنها الوعي المأساوي الجارح بهشاشة هذه القيمة وصعوبة الإبقاء على وهجها متوقداً وسط رماد الفناء والزوال.


الهوامش: 1. انظر: محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد، كتاب دبي الثقافية، مجلة دبي الثقافية، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، الإصدار (49)، ط(1)، 2011م، ص: 51. / 2. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، دار إبداع للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014م، ص: 20،21. / 3. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 31. / 4. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 36. / 5. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 37. / 6. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 40،41. / 7. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 25،26. / 8. محمد سليم شوشة، شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 71. / 9. محمد سليم شوشة: شرود أبيض، مرجع سابق، ص: 72.  / 10. انظر: محمد أمنصور، الرواية الرؤيا، مصاحبات لروايتي محمد أمنصور: "المؤتفكة" و"دموع باخوس"، إعداد اللجنة الثقافية لجمعية الباحثين الشباب في اللغة والآداب، مطبعة PABAT NET MAROC، الرباط، ص: 51،52.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها