تِيگسَاسْ .. لؤلؤة البحر المتوسط المغمورة

د. عبد السلام الجعماطي

شَهدتْ مراسي بلاد غمارة بشمالِ المغرب الأقصى في العصر الوسيط حالةَ انتعاشٍ اقتصاديٍّ وتوسع عِمراني، وذلكَ بفضلِ تحقيقِ الوحدة السِّياسية بين أقطار الغرب الإسلامي؛ ومن بين تلك المراسي احتل مرفأ تيگساس مكانةً مُهمةً في الطريق البحري الرابط بين سواحل الأندلس وشمالِ إفريقيا من جهة، وبين غرب البحر المتوسط وشرقه من جهة أُخرى، مثلما يتضح من خلال هذه الدراسة.


يُعتبرُ موضع تيگساس (Tiguissas) من المواضع الأثرية بشمالِ المغرب المتوسطي، ويتعلقُ الأمر بأحد أعرق مراسي المغرب، وهو الموضع الذي تقوم عليه حالياً مدينة اسطيحة السَّاحلية؛ ويكفي حاضرة تيگساس التاريخية فخراً، أنَّ قبيلتي بني زِيّات وبني بُوزْرَة المجاورتين لها، كانتا موطناً لعدد من العلماء في مختلف مجالات العلم والمعرفة؛ وفي طليعتهم الجغرافيُّ والرَّحَّالة الطُّلَّعة الذائع الصيت الحسن بن محمد الوزان أو ليون الإفريقي (ت، بعد: 957ﮬ/1550م) صاحب كتاب "وصف إفريقيا"؛ والفقيه المجتهد الطلعة أبو فارس عبد العزيز الزياتي (ت: 1055ﮬ/1645م)، الذي احتوى قصب السبق في تشريع قانون منع التدخين في مدونته الفقهية "الجواهر المختارة مما وقفتُ عليه من النوازل بجبال غمارة"، حتى قبل أن يتم تداول هذه العادة على نطاق واسع بين أمم المعمور، وهما ينتسبان إلى القبيلة الأولى؛ والعلامة المؤرخ المحقق سعيد أحمد أعراب البوزراتي الغماري (ت: 1424ﮬ/1993م)، صاحب الفضل في إخراج نصوص تراثية نادرة للنشر، وفي مقدمتها: "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف"، والمشارك في إخراج موسوعة العلماء المالكيين "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" في ثمانية أجزاء. وعموماً فإنَّ هذه البلدة تستحق هذه الالتفاتة إلى ماضيها العريق، لعلنا نكون بهذا الإسهام قد أجلينا عنها غبار النسيان.

تقعُ أطلال مدينة تيگساس الأثريةِ على مسافة نحو 70 كلم عن مدينة تطوان شمالَ المغرب الأقصى، وتحتلُ أحدَ أجمل شواطئ إقليم شفشاون؛ وهو لفظ طوبونيمي أمازيغي ضارب في القدم، يقصد به ذلك المكان المسطّح طبوغرافيا، والمطلُّ مباشرة على ساحل البحر، ولعلَّ تعريب الاسم إلى "اسطيحة" الحالية يحمل نفس المدلول. وقد أطلق عليها المؤرخون العرب عدداً من الصيغ المتقاربة؛ فكتبوا اسم "تيگساس" (بالكاف المعقوفة) بصيغ "تيكساس" و"تيقساس" و"تيقيساس" وتجيساس" و"تيجيساس"؛ وهي جميعها تدلُّ على نفس المدلول؛ والجدير بالذكر أن تيگساس تعتبر من أقدم المدن والمرافئ المغربية، فقد شهدت تعاقب عدة شعوب وحضارات على السيادة بها، وبهذا الصدد، تذكر "خريطة المغرب الأركيولوجية"، اعتماداً على المصادر المكتوبة ونتائج الحفريات الأثرية التي أجريت بها سنة 1958: "أن هذه المدينة من تأسيس المغاربة قبل مجيء الرومان واحتلالهم لشمال المغرب، وقد مرت عليها أطوارٌ عديدةٌ، حتى نزل بها القوط، وبعد الفتح الإسلامي أصبحت مدينةً إسلاميةً معروفةً متصلة تمام الاتصال بمملكة الأمويين في الأندلس"1.

كما أورد صاحب "مرآة المحاسن" وصفاً لتيگساس، منبهاً على قدم عمرانها، وهو وصف يجمعُ بين الجوانب الطبوغرافية والاقتصادية للمدينةِ؛ غير أنَّه لا يحدد تاريخاً مضبوطاً أو مصدراً معيناً لمعطياته عن هذه الحاضرة؛ ويبدو أنه استند إلى مصدر يعود إلى زمن سابق للقرن الهجري الثامن، ويقول بهذا الصدد: تيگساس هي مدينة "في شرق تطوان على مسيرة يوم منها، في موضع كثير الحجارة والصخر، في سفح جبل في غربيها، تحتها في شمالها جرف كثير الصخر عظيمه، على مكسر موج البحر، ولها نهر نَبّاع، يجلب إليه منه جدول؛ ولها تبسيط تركبه الجداول من كل جهة؛ فتسقي الزرع والكتّان والثمار، فأهلها في أمن من القحط، وهي قديمة العمران"2.

تيگساس عاصمة بلاد غمارة

تبوأت مدينةُ تيگساس في العصر الوسيط أهميةً عظيمةً، ويكفي في هذا المقام أن نستعرض الدور الذي أدته هذه الحاضرة عبر المحطات الكبرى لتاريخها الإسلامي، سواء على المستوى السياسي، بوصفها حاضرة بلاد غمارة خلال حقب معينة من تاريخ المغرب؛ أو على المستوى الاقتصادي، حيثُ احتضنت مرفأ نشيطا للملاحة البحرية والتجارة بالحوض الغربي للبحر المتوسط.

بالنسبة إلى الجانب السياسي، تكشف الروايات التاريخية عن وجود هذه الحاضرة الإسلامية منذ عصر الأدارسة بالمغرب، حيثُ شكلت عاصمةً محليةً لبلاد غمارة منذ تقسيم المغرب بين أبناء المولى إدريس الثَّاني بمبادرة من خلفه المولى محمد بن إدريس (213-221ﻫ/829-836م)؛ وتذكر الرواية في سياق التقسيم الإداري الجديد للمغرب أن المنطقة الشَّمالية الغربية خضعت للأمير عمر، حيثُ ولاه أخوه "مدينة تيگساس ومدينة ترغة وبلاد صنهاجة وغمارة وما والاها"3. وفي تطور الأحداث السياسية والعسكرية غداة هذا التقسيم، تتكشف المكانةُ التي احتلها الأمير الإدريسي المذكور، إذ تشير إليه الرواية بوصفه "صاحب تيگساس وبلاد غمارة"4. والجدير بالذكر، أنه أضحى حاكماً يباشر تدبير شؤون القسم الشَّمالي من المغرب الأقصى برمته، انطلاقاً من عاصمته تيگساس، عقب انتصاراته على أخويه القاسم صاحب طنجة وسبتة، وعيسى صاحب شالة وتامسنا؛ إذ ضم إليه كل هذه الأقاليم، غير أنه ظل يدينُ بالولاء إلى أخيه الأكبر المولى محمد بالعاصمة فاس.

لقد استمرت أهمية هذه المدينة على المستوى السياسي طيلة العصور اللاحقة، حيث ذكرها البيذق في سياق التحركات العسكرية التي قامَ بها الموحدون لتوطيد نفوذهم بشمال المغرب5. كما ظلت تيگساس تتمتع بمكانة مرموقة بين المرافئ الاستراتيجية بالساحل المتوسطي خلال عصر المرينيين، وهو ما تكشف عنه بعض الإشارات إليها في أحد التقاييد المحلية، ويأتي في طليعة تلك الإشارات ذكر تيگساس بوصفها المرسى الذي نزل به عدد من الأمراء المطالبين بالعرش المريني؛ مثل الأمير عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الحق، عقب عبوره من الأندلس بمعية فرقة من الجنود المسيحيين الذين استقدمهم لمنازعة سلطان المرينيين بالمغرب أبي يعقوب يوسف (685- 706ﻫ/1286-1305م).

ويذكر ابن مرزوق بهذا الصدد أنّ الدّعي المذكور "احتل قريتي ترغة وتيگساس ثم توجه إلى ناحية الهبط وبايعته مدن أصيلة والعرائش والقصر الكبير سنة 704ﻫ/1305م. واستفحل أمره، ولم يتمكن السلطان أبو يعقوب من القضاء عليه؛ فبقي عثمان يصول ويجول بقبائل الهبط وغمارة إلى أن قتل السلطان سنة 707ﻫ، وكلف ابن عمه عبد الحق بن عثمان بملاحقة الأمير الثائر عثمان الذي لجأ إلى مدينة سبتة واعتصم بها إلى شهر محرم 709ﻫ"6. وسوف تستمر هذه المكانة الاستراتيجية لتيگساس طيلة القرن الثامن للهجرة، حيثُ ورد ذكرها في إشارة ثانية وذلك بمناسبة نزول دعي آخر للعرش المريني بهذا المرسى، وهو أبو سالم سنة 760ﻫ/1359، مطالباً بدوره بعرش المرينيين7.

محطة بحرية نشيطة

أمّا بالنسبة إلى الدور الاقتصادي الذي أدّته تيگساس ، فيجدر التنويه بكتاب "المسالك والممالك" لأبي عبيد البكري، بوصفه أقدم النصوص الجغرافية التي أشارت إلى هذه الحاضرة المغربية في سياق حديث المؤلف عن شهرة بني حميد بنتاج خيولهم التي عرفت لدى أهل الأندلس بالخيول الحميدية؛ ويحدد النص المذكور مواطن هذه القبيلة الغمارية في المنطقة الممتدة ما بين نهر لو وتيگساس8. ومن المعلوم أن معظم المادة الجغرافية والتاريخية التي أوردها البكري عن بلاد المغرب منقولة عن كتاب "المسالك والممالك" لأبي مروان محمد بن يوسف الوراق القيرواني، الذي عاش بقرطبة وتوفي بها سنة 363ﻫ/974م، بعد أن ألف عدة مصنفات للخليفة الأموي الحكم المستنصر (350-366ﻫ/962-977م).

ويبدو أنَّ مرسى تيگساس قد استمر ازدهاره على المستوى الاقتصادي إلى حدود عصر الموحدين، وهو ما يتضح من خلال نص جغرافي اشتمل عليه كتاب "أنس المهج وروض الفرج"، للجغرافي السبتي الشريف الإدريسي (ت: 565ﮬ/1170م)، الذائع الصيت، إذ يشير إليه بوصفه محطةً بحريةً رئيسةً تتوسط سواحل بلاد غمارة، ضمن خط ملاحي يربطُ بين سبتة وهنين؛ وبالتالي فهو يصف هذا الطريق البحري كونه شاهد عيان على النحو الآتي:

"ومن سبتة على البحر إلى هنين مجريان، والطريق بينهما من سبتة إلى وازلان ثلاثون ميلاً، ومنه على حصن [تيگساس] ثلاثون ميلاً، إلى حصن مسطاسة نصف يوم، إلى حصن كركال خمسة عشر ميلاً، إلى مدينة بادس على البحر نصف يوم. فذلك من سبتة إلى بادس مجرى، ومن بادس إلى هنين مجرى"9.


خريطة حوض البحر المتوسط (مجتزأة من خريطة العالم للشريف الإدريسي)


ومن نافلةِ القول إنَّ هذا الطريق البحري هو نفسه الذي تم اتباعه من قبل سفن غرب الأندلس والسواحل الأطلنتية للمغرب الأقصى؛ وذلك ما تؤكده عدة روايات عن توقف السفن المبحِرة من غرب المتوسط وجنوب شبه جزيرة إيبيريا نحو الشرق في اتجاه المغرب الأوسط وإفريقية ومصر والشام. ويجدر التنبيه على أنَّ الوصف المذكور يعد فريداً في بابه، إذ لا تشير إليه كتب الجغرافيا العربية السابقة لعصر الشريف الإدريسي. ومرد هذا الغياب يعود دون ريب إلى كون المرسى المذكور قد شَهِد خلال أواخر عصر المرابطين وبداية عصر الموحدين عملية إعادة إدماجه في شبكة المواصلات بين مراسي ضفتي المتوسط بفعل تحقيق الوحدة السياسية بين المغرب والأندلس منذ بدء إسقاط ملوك الطوائف سنة 483ﻫ/1091م على وجه التقريب. ومما يزكي هذه الفرضية مبادرة الموحدين إلى ضم مرسى تيگساس لنفوذهم، تبعاً للإشارة التي أوردها البيدق مؤرخ عبد المؤمن بن علي الكومي؛ يضاف إلى ذلك أنَّ الموحدين نهجوا سياسةً عسكريةً تعتمد على الأساطيل البحرية بشكل أساسي، وقد استخدموا مراسي دولتهم الشاسعة في مواجهة القوى البحرية المعادية، وخاصةً بني غانية والممالك الإيبيرية والنورمان المستقرين بجنوب إيطاليا وصقلية، أثناء محاصرتهم للمهدية سنة 555ﻫ/1160م.

ومما لا شك فيه أنّ بداية عصر الموحدين قد شهدت انطلاقةً قويةً لصناعة السفن في أوراش هذه الإمبراطورية؛ وبحكم غنى منطقتي الريف وغمارة بثرواتهما الغابوية، فقد استفادت تيگساس من موقعها في هذه الصناعة. وتوفر المصادر الجغرافية معطيات دقيقة عن صناعة السفن وإنتاج الخشب بالمنطقة الواقعة بين تيگساس وسبتة شمال المغرب الأقصى، مثل كتاب "الجغرافيا" لابن سعيد المغربي (685ﮬ/1286م) الذي يشيد بغنى جبال غمارة بالثروات الغابوية وتوفيرها لخشب الأرز الجيد المستخدم في إنشاء الأساطيل والأبنية الملوكية10؛ إضافةً إلى إشارة أخرى للبادسي، تفيدُ لجوء السفن الأندلسية العابرة للمتوسط إلى مراسي بلاد الريف من أجل التزود بالخشب لإصلاح الأعطاب التي تلحقها11.

ومع أنَّ الوصفَ الَّذي قدمه الإدريسي لمرفأ تيگساس يقتصر على ذكر المسافة التي تفصل هذا المرسى عن باقي المرافئ في خط السير جيئةً وذهاباً، فإنَّ نشاط الملاحة البحرية عبره يعد في حدِّ ذاته مظهراً جليّاً للانتعاش الاقتصادي الذي شهدته بلاد غمارة إلى حدود هذه الحقبة، وهو ما يتضح مثلاً من خلال نصوص أخرى في "نزهة المشتاق" تصفُ هذه المنطقة بشكلٍ يؤكد ازدهارها في فجر عصر الموحدين؛ وفي هذا الصدد، يقول الإدريسي ما يلي:
"وبلاد غمارة جبال متصلة بعضها ببعض كثيرة الشجر والغياض وطولها نحو ثلاثة أيام ويتصل بها من ناحية الجنوب جبال الكواكب، وهي أيضاً جبال عامرة كثيرة الخصب وتمتد في البرية مسيرة أربعة أيام حتى تنتهي قرب مدينة فاس. وكان يسكنها غمارة إلى أن طهر الله منهم الأرض، وأفنى جمعهم وخرب ديارهم لكثرة ذنوبهم وضعف إسلامهم من كثرة جرأتهم وإصرارهم على الزناء المباح والمواربة الدائمة وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق وذلك من الله جزاء الظالمين"12.

غير أنَّ معطيات أخرى ذات صبغةٍ عمرانيةٍ وعسكريةٍ عن تيگساس -أوردها الإدريسي- تؤيد فرضية انتعاش هذا المرفأ المتوسطي على المستوى الملاحي والتجاري خلال الحقبة الموحدية بالذات، على الرغم من العلاقة غير الودية التي كانت تجمعه بجيرانه، حيثُ يذكر الجغرافي السبتي عن تيگساس أنها "حصن معمور في غمارة لكن أهله بينهم وبين غمارة حرب دائمة"13.

تراجعُ مكانة تيگساس

من بعض المعطيات التاريخية الأكيدة، يمكن القول إنَّ علاقةَ العزلة التي أضحت تعيشها تيگساس عن الوسط القبلي المحيط بها منذ هذا العصر شكلت بداية التراجع الاقتصادي لهذا المرسى. ويبدو أن هذه العزلة تعزّزت منذ عصر المرينيين بسبب سلوك الأوضاع العامَّة بالمغرب الأقصى لمنحى بعيد عن الاستقرار، ولعل السبب في تضاؤل مكانة تيگساس اقتصادياً، يكتسي بعدين، أحدهما داخلي يتمثل في تغيُّرِ الظروف السياسية بشمال المغرب الأقصى عشية أفول نجم الموحدين وانتشار الفوضى السياسية والتناحرات القبلية، إلى جانب تعاقب سنوات الجفاف والمجاعات، وهو ما يعكسه مصدر منقبي في إحدى رواياته14. أمَّا على المستوى الخارجي، فنضع بعين الاعتبار ذلك الانقلاب في موازين القوى العسكرية، الذي حصل بين ضفتي الحوض الغربي للبحر المتوسط لصالح الجيران الشماليين؛ فمع تراجع هيبة الدولة الموحدية بالغرب الإسلامي وتضاؤل صولة أساطيلها البحرية بسواحله، رجحت الكفة لصالح أساطيل المدن الإيطالية والإسبانية والبرتغالية.

وكان من المظاهر المباشرة لتزايد قوة تلك الأساطيل، أن صارت تكتسي خطراً داهماً على الملاحة بسواحل شمال المغرب، ومن ضمنها حركة الأسفار البحرية انطلاقاً من تيگساس وفي اتجاها، بالنظر إلى موقعها الجغرافي كواسطة عقد للمواصلات البحرية بين منطقة الريف وشبه الجزيرة الطنجية. كما أنَّ بلاد الريف وغمارة قد شكلتا خلال عصر الإدريسي معبراً بين ضفتي المغرب والأندلس.

وعلى الرغم من ندرة النصوص التاريخية عن هذه الوضعية الحرجة التي عاشتْ في ظلها تيگساس منذ منتصف القرن السَّابع الهجري، وحتى اضمحلال مكانتها في أواخرِ القرن الثَّامن للهجرة، فإنَّ بعض المصادر المنقبية تشيرُ إلى استفحال القرصنة المسيحية ضد السفن المنطلقة من مرسى تيگساس ؛ وفي هذا السياق يقولُ البادسي الذي كان حيّاً عام 722ﮬ/1322م -بوصفه شاهد عيان- ما يلي: "ومما شاهدناه من بركة دعائه أنَّ أبا إسماعيل بن أحمد كان أراد التوجه إلى تݣيساس من بلاد غمارة بعياله، فتقدم ووجه إلى عياله زورق صيد، فخرج عليه عدو البحر بمرسى ياليش، فأسرت زوجة إسماعيل وبنت لها منه صغيرة، وأخت لي شقيقة..."15.

واعتماداً على هذه الإشارات، نخلص إلى استنتاج مؤداه أنَّ إيقاع النشاط البحري بهذا المرفأ أضحى تحت رحمة القراصنة الأوروبيين، منذ تراجع نفوذ الموحدين. ومن نافلة القول إنَّ أمن السبل البحرية يعد شرطاً لا مناص منه لضمان سلامة الملاحة والتجارة انطلاقاً من المرافئ، لذلك نذهب إلى التأكيد أنَّ اضمحلال مكانة تيگساس الاقتصادية خلال القرن الثامن الهجري/الرابع عشر للميلاد، كان له ارتباط وثيق مع الاختلال الداخلي والتهديد الخارجي لسواحل المغرب المتوسطي.

غير أن تيگساس لم تفقد ازدهارها العمراني إلا في أواخر العصر المريني؛ وفي هذا السياق، يذكر ابن مرزوق أنَّ أهل تيگساس هجروا حاضرتهم بعد وفاة عاملهم الحاجب فارح بن مهدي العلج عام 806ﻫ/1404م، "بسبب القحط الذي أصابها"16؛ أمّا العلامة سعيد أحمد أعراب، فيرى أنَّ الإسبان هم الذين قاموا بتخريبها أواخر المائة الثامنة للهجرة17. بينما يرجِّح مؤرخ المملكة الراحل عبد الوهاب بن منصور18 ما جاء في رواية صاحب "مرآة المحاسن"، الذي يذكر أنّ جلاء سكان تيگساس عن بلدتهم، إنَّما يعودُ إلى الظلم الذي قاسوه من واليهم فارح العلج، وهو ما اضطرهم إلى مغادرة المدينة19.

الدورُ الجِهادي والدفاعي لتيگساس

يبدو أنَّ تيگساس قد استعادت جانباً هامّاً من مكانتها على يد مولاي علي بن راشد أمير شفشاون سنة 877ﻫ/1473م؛ حيث تفيد عدة شهادات تاريخية معاصرة لهذه الفترة، استرجاع تيگساس لدورها على المستويين العسكري والاستراتيجي، بصفتها قاعدةً للأسطول الجهادي التابع لبني راشد أمراء شفشاون، وهذا ما يفسر تلك المحاولات البرتغالية والإسبانية المتكررة لاحتلال كل من ترغة وتيگساس أو تخريبهما. غير أن جميع المحاولات آلت إلى الفشل الذريع؛ وفي هذا السياق ذكر ابن مرزوق في غضون أحداث 914ﻫ/1508م، أنَّ الأميرَ علي بن راشد حاكم شفشاون "جعل قاعدة سفنه بترغة وتيگساس ، وقد ازداد نشاط المجاهدين على إثر سقوط غرناطة، فـ[صاروا] يجوبون البحار ليلاً ونهاراً ويعودون بغنائم كثيرة نتيجة الحملات التي يقومون بها ضد المدن الشاطئية الأندلسية التي استولى عليها العدو الغاشم [يقصد الإيبيريين]، وكثيراً ما كانت تتم الغارات المذكورة باتفاق ومشاركة البحارة الريفيين انطلاقاً من مربط سفنهم بحجرة بادس"20.

أمَّا العمليات العسكرية التي قام بها البرتغاليون والإسبان ضد كل من تيگساس وترغة، ففي سنة 923ﻫ/1517م، هاجمت ستون سفينة حربية برتغالية مرسى ترغة من أجل تحطيم السفن الجهادية الراسية به؛ غير أن الجنود البرتغاليين لم يجرؤوا على النزول إلى الشاطئ نظراً لشدة المقاومة التي واجهتهم21. وفي سنة 939ﻫ/1533م هاجم أسطول إسباني قاعدة ترغة، غير أنه فشل على غرار سابقه البرتغالي22. وتكررت المحاولة نفسها من الجانب الإسباني سنة 976ﻫ/1568م، دون جدوى23. كما تعرضت تيگساس عام 1009ﻫ/ 1601م لهجوم مسيحي، غير أن سكانها تصدوا للمهاجمين واستطاعوا أن يبيدوا أكثر من 30 نفراً منهم، وأن يأسروا قائد الأسطول من بين مئة أسير مسيحي آخر24.

وَمِنَ الواضحِ مما سَلفَ أنَّ كل من ترغة وتيگساس صمدتا طيلة القرن العاشر للهجرة/السادس عشر للميلاد، على الرغم من فقدان الكثير من أهميتهما السياسية والملاحية؛ فقد استمرتا محطتين للسفن الجهادية المنطلقة من تطاوين وأحوازها تحت قيادة المقدمين من أسرة آل النقسيس.


الهوامش
* صورة المقال: منظرٌ عام لموقع مدينة تيگساس الأثرية
1. أحمد المكناسي: خريطة المغرب الأركيولوجية للمواقع الأثرية لما قبل التاريخ إلى ظهور الإسلام، تطوان، 1961، ص: 13.
2. محمد العربي الفاسي: مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، طبعة حجرية، فاس، 1945، ص: 225.
3. أبو الحسن علي بن أبي زرع الفاسي: الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط. 2، الرباط، المطبعة الملكية، 1999، ص: 63-64؛ أحمد ابن القاضي المكناسي: جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، الرباط، دار المنصور للطباعة والنشر، 1973، القسم الأول، ص: 203-204.
4. نفسه، ص: 65.
5. ويذكر المؤلف بهذا الصدد ما يلي: "ثم قلعنا إلى تيكساس ونزلنا بموضع يسمى أم يكيك ووحّدَ بنو نال وبنو زياد، وقلعنا منها إلى آست سار فوحد أولاد حيان متاع تيزيران وبنو أزكدا فقلعت محلتنا إلى الثلاثاء متاع بوعريف، فوحد تم عبد الله بن يحياتن، وقلعنا إلى القلعة متاع بادس، ووحد أهل الطارقية والمحففة، وقلعنا إلى كزناية متاع تيزغت فوحد منهم ثلاثة قبائل وبقي ثلاثة قبائل". أبو بكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيذق، أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط. 2، الرباط، المطبعة الملكية، 1425ﻫ- 2004م، ص: 54؛ (يجدر التنبيه إلى التصحيف الذي لحق اسم تيكساس في النسخة المعتمدة في هذا البحث، واستدركها المحقق في لائحة التصويبات، ص: 96).
6. محمد بن عزوز حكيم: أطلس قبائل غمارة، تطوان، 2007، الجزء الأول، ص: 34.
7. نفسه، ص: 38.
8. أبو عبيد البكري: المسالك والممالك، تحقيق أدريان فان ليوفن وأندري فيري، ط. 1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1992، ج. 2، ص: 786.
9. الشريف الإدريسي: أنس المهج وروض الفرج، تحقيق جاسم عابد مزال، نشر المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، مدريد، 1989، ص: 43-44.
10. ابن سعيد المغربي: كتاب بسط الأرض في الطول والعرض، تحقيق خوان بيرنيط خينيث، تطوان: معهد مولاي الحسن، 1958، ص: 73.
11. عبد الحق بن إسماعيل البادسي: المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق سعيد أعراب، ط. 2، الرباط، المطبعة الملكية، 1414ﻫ- 1993م، ص: 106.
12. الشريف الإدريسي: نزهةُ المشتاق في اختراق الآفاق، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، د. ت، مج. 2، ص: 532.
13. نفس المصدر والصفحة.
14. البادسي: المقصد الشريف، ص: 58.
15. نفسه، ص: 111- 112؛ والجدير بالإشارة أن المعطيات المثبتة في المتن تأتي في سياق رواية عن سيرة أحد المتصوفة بمنطقة الريف، و"بركة" ذلك الشيخ الصوفي في استدرار الفدية اللازمة لاستنقاذ الأسرى من أيدي القراصنة.
16. أطلس قبائل غمارة، ص: 39.
17. البادسي: المقصد الشريف، ص: 111، التعليق رقم: 104.
18. روض القرطاس، ص: 63، التعليق رقم: 108.
19. مرآة المحاسن، ص: 225-226.
20. أطلس قبائل غمارة، ج. 1، ص: 114.
21. نفسه، ص: 122.
22. نفسه، ص: 131.
23. نفسه، ص: 139.
24. نفسه، ص: 166.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها