النانوتكنولوجي.. وإشكالية الأخلاق!

د. ناصر أحمد سنه

"النانوتكنولوجي" Nanotechnology ("تقنية النانو" / "تقنيات النانو"/ "التقانات متناهية الصغر")، إحدى التقنيات الحديثة نسبياً التي تتميز موادها بفرادة خصائصها الفيزيائية والكيميائية عن مثيلاتها في الحيز الأكبر. وإذا ما تم التحكم في شكل وحجم المواد في نطاق "الحيز النانوي"، يمكن إنتاج مواد وأجهزة وأنظمة فريدة، يمكن الاستفادة منها في ميادين الطب والجراحة والصناعة، والزراعة والمياه والبيئة إلخ. لكن، كعادة التقنيات الحديثة عند ظهورها، تثور حولها أمور أخلاقية، فما "تقنية النانو"، وما تطبيقاتها؟ وما إشكالياتها وأخلاقياتها؟

 

لاستيعاب مفهوم (النانو) يمكنك تصور قسمة المتر إلى ألف مليون جزء، فيكون "النانو" هو هذا الجزء (جزء من ألف مليون من المتر)، وتعادل سُمك شعرة الإنسان 50 ألف نانو، أما سمك ورقة الكتابة فمائة ألف نانو. ويمكن تعريف (علوم النانو) بأنها: "الدراسات المعرفية النظرية لبنية وظواهر وسلوك المواد النانوية". أما (تقنية النانو) فهي: "تصميم وإنتاج واستخدام مركبات وأجهزة وأنظمة عبر التحكم في الشكل والحجم في الحيز النانوي". ويستخدم الكثيرون "تقنية النانو" لتعريف الكل المشترك: الجانب المعرفي النظري والتقنية التطبيقية المؤسسة عليه.

تطبيقات تقنية النانو

في مجال الطب والجراحة.. تستخدم أسلاك نانوية كمجسَّات حيوية يتم طلاؤها بأجسام مضادة تلتصق بجزيئات الشريط الوراثي (DNA)، أو البروتينات إلخ، وتوظف في التشخيص المبكر لأمراض معينة. وتوجد (حاملات عقاقير نانوية) قادرة على استهداف خلايا بعينها، فتعالجها. وتستخدم جسيمات الذهب النانوية في وسائل الاختبار المنزلي عن الحمل في السيدات. وفي دماء مرضى كوفيد-19 وكاستجابة طبيعية مضادة للفيروسات.. تم تحديد "فقاعات نانوية طبيعية" تفرز من الخلايا المصابة (أفخاخ للفيروس)، وتحتوي على بروتين -يستخدمه فيروس سارس- كوف-2 لغزو الخلايا. وهذه الفقاعات يمكنها منع العدوى من سلالات فيروسية، وتمثل وقاية وعلاجاً (رذاذ أنفي) لسلالات حالية ومستقبلية من فيروس كورونا، والفيروسات التاجية عموماً.

وفي مجال الأورام وجراحاتها: تستخدم "مشغولات الذهب النانوية/ قضبان الذهب النانوية إسطوانية الشكل" لتدمير الخلايا السرطانية. ويبلغ طول القضبان النانوية حوالي 120 نانومتر، وهذا أصغر من حجم خلية السرطان بمقدار 170 مرة، وعند حقنها داخل الجسم تلتصق بالخلايا السرطانية، نظراً لسطحها المعزز. ومن ثم مع تسليط أشعة ليزر (ذات طاقة عالية) تقوم المادة "الذهبية النانوية" بما تمتص/ وتعكس من حرارة تلك الطاقة الضوئية بإذابة وتدمير الخلايا السرطانية، دون الخلايا السليمة (العلاج الحراري الضوئي الانتقائي). مما يعد تدخلاً مفيداً في علاج تحور الخلايا السرطانية الطلائية المبطنة لبعض الأعضاء كالرحم. كما يكفي ميكروجرام واحد (واحد على ألف من جرام الذهب) لعلاج كبد مصاب بالسرطان. وتستعمل ألياف البوليمر النانوية لإجراء الجراحات الترقيعية للأوعية الدموية. وتم زراعة أجهزة ترقيعية مصنوعة من ألياف البروتين النانوية في الجهاز العصبي المركزي للإنسان، كذلك تستخدم ألياف البوليمر النانوية في علاج الحروق والجروح، وتدخل في صناعة مستحضرات تجميل.

في الصناعات (ثورة صناعية ثانية)

تدخل المركّبات النانوية البلاستيكية في صناعة السيارات لإنتاج أجزاء مقاومة للصدمات (كونها قوية وخفيفة ومقاومة للصدأ). وقامت شركة "سامسونج" للألكترونيات بتجهيز غسالات بنظام التنظيف بالفضة، ويعتمد على التحليل الكهربائي لجزيئات الفضة، وتعقيم الملابس من البكتيريا والفطريات بنسبة فائقة ولمدة شهر. وهناك ثياب يدخل في تركيبها جسيمات نانوية (جسيمات السليكون)، تمتاز بمقاومتها للرائحة والأصباغ. وتقدِّم الملابس العسكرية المصنوعة من مواد نانوية حلاً للوقاية من أحوال الطقس ومن المخاطر الكيميائية والبيولوجية التي قد تواجه الجنود. وتستعمل بعض المواد البلورية النانوية الجيلاتينية كمواد عازلة تُطلى بها سطوح المباني والمكاتب للتخفيف من درجة الحرارة. ويجري العمل على إنتاج طلاء ذكي لتحديد الأهداف الحربية، أو المركبات للأغراض الأمنية. وفي مجال الاتصالات صنعت ألياف نانوية بصرية قادرة على إرسال المعلومات والمكالمات دون الحاجة لتحويلها من ضوء لكهرباء. وبالتالي تزداد سرعة النقل إلى نحو 100 ضعف. ويمكن صناعة ليزرات نانوية تحول أجهزة الاتصالات لحجم صغير جداً، كذلك تصنيع كمبيوترات ذات قدرات عالية لعمليات التشفير وفك التشفير.

وفي مجال الزراعة: ستستخدم معدات ذات مسامات نانوية تطلق جرعات فعالة من الماء والمواد المخصبة للزرع والغذاء والدواء للمواشي. ويتم إجراء تجارب على إنتاج مستشعرات حيوية تلتقط البكتيريا الدقيقة التي تسبب تلوث الغذاء وفساده. وقامت شركة "سامسونج" للألكترونيات بتبطين الثلاجات بطبقة مجهرية من محلول نانو الفضة، لمنع البكتيريا من عملية التمثيل الضوئي والتنفس، وبالتالي موتها. مما يجعل الثلاجات تحافظ على الطعام لفترة أطول من الثلاجات العادية. كما يجري العمل على إنتاج شراب عديم اللون والطعم يحتوي مواد نانوية وعند وضعه في الميكروويف على تردد معين يتحول لعصير ليمون، وعلى تردد آخر يتحول لعصير تفاح وهكذا. كما تقدم الجسيمات النانوية وأنابيب الكربون النانوية، طرقاً رخيصة وفعالة في عمليات تحلية وتنقية المياه.

وتستخدم جسيمات الفضة النانوية في مرشحات الهواء للتخلص من الروائح غير المرغوبة وقتل الجراثيم. ووُجد أن استخدام هذه المرشحات النانوية يؤدي إلى قتل 99% من فيروسات الأنفلونزا العالقة في الهواء.

إشكالية وأخلاقيات النانوتكنولوجي

حددت المفوضية الدولية لأخلاقيات المعرفة العلمية والتكنولوجيا (الكومست The World Commission on the Ethics of Scientific Knowledge and Technology (COMEST) إشكالية النانوتكنولوجي: بعدم القدرة على رؤيتها، مما يصعب التحكم في آثارها، وتتبع نتائجها، ورصد عواقبها. كذلك "تطورها المتلاحق" يجعل من الصعب تحديد تأثيراتها بعيدة المدى، وطرق الاستجابة لها، وتأثيرها على المجتمعات غير المشتركة في تطويرها. كما يسهم تطوير تقنياتها في تعميق الفجوة العلمية والتطبيقية بين الدول النامية والدول المتقدمة. أما أخلاقيات النانوتكنولوجي فيمكن إيجازها فيما يلي:
• ينبغي شيوع تطبيقاتها للجميع بشكل "عادل"؛ لأن في إتاحتها للبعض دون البعض إضراراً بمن حرم منها. فمن "العدالة" عند إجراء تجارب على منتج معين يجب اختيار المتطوعين اختياراً عشوائياً دون قصر التجارب على فئة بعينها مثلاً، ومن ثم عند توزيع المنتج النهائي أن يكون متاحاً للجميع؛ لأن الأصل في منتجات العلم أنها من أجل تحقيق رفاهية البشرية. والاتجاه العالمي نحو تبني مفهوم "العلم المفتوح" ستساعد على تحقيق العدالة بشكل أكبر؛ إذ ستصبح كل البيانات ومصادر الاكتشافات، ومناهج البحث وخطواته متاحة للجميع.

• قد تُحدث أنابيب النانو الكربونية (carbon nano-tubes) (CNTs) تأثيرات سامة على الرئتين بعد استنشاقها بوقت قصير. كما أن جزئيات النانو (قابلة للتحلل بشكل جزئي مثل النحاس وأكسيد الزنك) قد تكون سامة بسبب أيونات المعادن المنبعثة منها. واحتمالية هذه المخاطر الصحية أكبر عند من يعاني مشكلات تنفسية أو قلبية أو في الأوعية الدموية، وفي النساء الحوامل، والأطفال والعجائز.

• يجب توفير رقابة شديدة من الجهات المختصة، فمخاطر المواد النانوية المُهندسة engineered nano-materials – وخاصة المستقبلة- لم يتم التحكم فيها بعد، أو لم يتم التعرف عليها حتى الآن. وهناك مخاوف من تأثيراتها المستقبلة المجهولة على الصحة أو البيئة. وحتى يتم فهم الصلة بين سلوك مواد النانو (المُهندسة)، وسلوك مواد الغراء colloids أو كيفية تفاعلها مع الكائنات العضوية، فمن الضروري تطوير أدوات اختبار مخاطر هذه المواد، وإجراء أبحاث لفهم نتائج تفاعل مواد النانو المُهندسة مع الميدان الحيوي لمنطقة ما.

• مع إجراء الاختبارات الدورية.. متى ظهرت أضرار منتج معين، وجب بيان مدى إمكانية تجنبه، فإذا لم يكن من الممكن تجنب ضرره وكان ضرره أكبر من نفعه، وجب إيقاف استخدامه فوراً حتى يتاح سبل تجنب أضراره، وإلا يوقف استعماله مهما كانت منفعته. إن منع الضرر مُقدم على جلب المنفعة، وجلب المنفعة ومنع الضرر مبدأ ينطبق على كل جوانب وتطبيقات العلم، إلا أن منتجات النانوتكنولوجي لها خصوصية، حيث لا يوجد معيار واحد يقاس به الضرر (وبخاصة بعيدة المدى) لكل منتجاته.

• لم يتم التعرف بعد على تأثير بعض العقاقير النانوية، مما يتطلب ضرورة تواز أبحاث الأمان النانوي nano-safety مع إنتاج تقنيات النانو. مع ضرورة وضع قواعد إرشادية لها تختلف عن القواعد المنظمة للأدوية الأخري. فلا يمكن تطبيق معايير سلامة وكفاءة الأدوية العادية لتصبح هي معايير سلامة وكفاءة أدوية النانو؛ لأنها أدوية مركبة غير بيولوجية.

• احترام الكرامة الإنسانية مبدأ أساس يجب مراعاته في كل جوانب العلم والتكنولوجيا. وكرامة الإنسان تتطلب عدم الإضرار به (من قريب أو من بعيد)، فلا تطرح بالأسواق منتجات النانوتكنولوجي إلا التي تم اختبار سلامتها، وعدم إضرارها بالمستهلك.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها