حوار الأديان وأثره على التعايش السلمي؟!

بن الطالب دحماني


 

في السنوات الأخيرة صدرت مجموعة من الأعمال أكدت على أهمية الحوار بين الأديان وكسرت جدار التهيب والحذر الذي كان يغلف العلاقات بين المسلمين وغيرهم عبر قرون طويلة، وأتاحت الفرصة لتأكيد الثقة بجدوى الحوار الموضوعي الذي يمكنه أن يكون قناعات مشتركة تقوم على الرغبة الصادقة في فهم كل طرف لمشاعر وتطلعات الطرف الآخر، وعلى الحرص على فتح صفحة جديدة من العلاقات أساسها الاحترام المتبادل، والتطلع إلى آفاق مستقبلية تحمل بشائر الخير للإنسانية. وفي هذا الصدد صدر مؤخراً عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع كتاب "حوار الأديان وأثره على التعايش السلمي: ماليزيا نموذجاً" لمحمد ثروت.




محمد ثروت


الحوار لمواجهة التشدد الديني

وتأتي أهمية هذا الكتاب كما ذكر يوسف عامر في تقديمه لهذا العمل في كونها تعالج قضية الحوار بين الأديان، بالقضاء على ظاهرتي التشدد الديني وممارسة العنف باسم الدين، والبحث عن حلول لسلبيات العولمة من صراعات وحروب غير بريئة من قبل القوى العظمى المهيمنة على العالم، وقد أشارت الدراسة إلى أن الحوار في الإسلام يأتي لتبيان الحق وإقراره؛ فالله -عز وجل- حاور الملائكة، وحاور سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما كان هناك حوار مع إبليس، ولو أراد الله أن يقضى أي شيء بقوته وقدرته لفعل، لكن الله عز وجل يعلمنا أنه على الرغم من أنه سبحانه وتعالى يملك القوة والقدرة على إنفاذ ما يريد إلا أنه يحثنا على الحوار مع المختلفين معنا؛ ليعلمنا أهمية نشر السلام والحوار بين الجميع، خاصة مع من نختلف معه في الدين. وأضاف: تناولت الدراسة الحوار في القرآن الكريم، تناولت أيضاً الحوار في السنة النبوية، ممثلة على ذلك بالمعاهدات السياسية التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بين المسلمين واليهود واهتمت بنشأة حوار الأديان منذ الحوار الأول عام 1893م في شيكاغو الذي جاء بعنوان: "البرلمان العالمي للأديان" وانتهاء بوثيقة الأخوة الإنسانية عام 2019 م.

الحوار قديم قدم الدعوة الإسلامية

إن الحوار بين المسلمين وغيرهم من العالمين قديم قدم الدعوة الإسلامية وقد وضع له القرآن الكريم قواعد وآدابا فقال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].
وتكتسب هذه المجادلة أهمية خاصة مع أهل الكتاب؛ إذ يقول سبحانه: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت: 46]. ثم نجد الاهتمام الأكبر لمحاورة فريق من أهل الكتاب هم المسيحيون الذين يقول عنهم القرآن الكريم: (لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 82-83]. وفي آيات كثيرة يصور الإسلام المسيحية أرفع تصوير ويعطي عيسى عليه السلام مكانة سامية حين يصفه بأنه كلمة الله وأمُّه صديقة.

الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور أهل الكتاب

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور أهل الكتاب ويجادلهم مباشرة أو عن طريق الكتب التي بعث بها إلى ملوكهم ورهبانهم، وكذلك فعل صحابته وخلفاؤه من بعده، وكان من ثمرة ذلك الحوار أن تعرف كل طرف على تعاليم الآخر، وقد أدى ذلك إلى إقامة علاقات من التفاهم والتعاون من أجل العدل والخير والتعايش والسلم، وكان الجميع يعيشون تعاليم الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]. وسيجد المتتبع لحوارات النبي صلى الله عليه وسلم سواء مع أصحابه أو مع المشركين أو اليهود والنصارى، أو الملوك والأمراء، أن لها أهدافاً عظيمة ربانية، ترتقي وترتفع عن الأهداف الأرضية المادية التي يسعى لها الكثير من أصحاب المصالح الفردية.

انبعاث روح الحوار من جديد

ثم جاءت ظروف انقطع فيها الحوار فانقطعت المعرفة وذهب الخير والعدل، وفي السنوات القليلة الماضية تجددت الرغبة في الحوار من جديد بعد أن تحررت أجزاء كثيرة من أرض الإسلام من الاستعمار وأصبح بالإمكان قيام حوار يصلح من أمرنا ويعيد للحق نصابه وللمعرفة قدرها، لقد تم أكثر من حوار بين المسلمين وغيرهم وخاصة المسيحيين في الأعوام الماضية، وكان طبيعياً أن تقتصر بعض اللقاءات والحوارات على الجزئيات في الأول إلا أنه صار من الضروري في الآونة الأخيرة أن ينتقل هذا الحوار إلى مستوى ثان يضع العلامات الكبرى على طريق التعاون بين المسلمين وغيرهم.
فنحن نعيش في عالم صغير تواجه فيه الإنسانية مشكلات روحية ومادية كبيرة تحتاج إلى علاجات وحلول، وقد ظهر في القرنيين الماضيين العديد من النظريات والإيديولوجيات وادعى كل منها أن عنده الحلول النهائية لمعضلات الإنسان، ولكنها جميعاً انتهت إلى تخبط اجتماعي وأخلاقي خطير، وعليه بات لزاماً للخروج من هذه المشاكل وضع حد لكل ما يفرق أتباع الأديان المختلفة ثم جمعهم على كلمة سواء قوامها الخير والسلام للجميع.

الحوار لإصلاح الصور النمطية عن الإسلام وبيان سماحته

لقد أضحى الإسلام مؤخراً في نظر الآخرين ديناً دموياً إرهابياً، وبالتالي شوهت معالمه، وأخفيت محاسنه، وأصبحت هذه النظرة السوداوية اتجاه الإسلام من القضايا البديهية عند الآخر، وذلك بسبب الترسانة الإعلامية الغربية التي تستهدف تشويه الإسلام والعروبة، ولهذا كان الحوار ضرورياً لإزالة هذه الغشاوة عن أعين الغربيين الذين جهلوا حقائق ومحاسن هذا الدين، هذه الضرورة التي تتحقق - كما يرى الكاتب- عن طريق مجموعة من الأمور أهمها إحداث وسائل إعلامية مرئية ومقروءة باللغات الأجنبية لعرض الصور الصحيحة عن الإسلام، بالإضافة إلى تبادل الأساتذة والباحثين المنصفين بين الجامعات العربية والأوروبية للاحتكاك المتبادل والتعرف عن كثب.
وتكمن أهمية الحوار في هذا الجانب في كونه وسيلة للكشف عن سماحة الدين الإسلامي، وأن هذا الدين لا يفرض نفسه بالقوة والإكراه؛ وهو ما يقرره تعالى في قوله: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 29]، فالآية تقر أنه لا يجوز إرغام أحد على الإسلام، ولذلك عاش في ظل الدولة الإسلامية كل الأجناس بأديانهم ومذاهبهم، لا يرغمون على ترك دينهم أو عاداتهم أو شعائرهم رغم تفرد المسلمين يومئذ بالسلطان والسيادة العالمية، بل على العكس حفظت لهم دماؤهم، وأموالهم، وأعراضهم وغيرها.

الحوار بناء على وحدة الإنسانية    

إن موقف المسلم من غير المسلم موقف يؤدي بطبيعته إلى قبول الحوار معه على أساس أصيل، فالإنسان المسلم في حال تواصله مع غير المسلمين يستصحب وجود صلة قرابة بحكم عودة الجميع مسلمين وغيرهم إلى أب واحد أو أصل واحد هو آدم عليه السلام، فالحوار المطروح هنا هو حوار مع الآخر بجامع صلة الأخوة الإنسانية الدافعة إلى التواصل والتفاعل والتحاور والاستفادة والإفادة وتبادل المصلحة والمنفعة، ويكاد يكون موقف الإسلام هنا موقفاً فريداً، على اعتبار أن غالبية الأديان كانت تتسم بالعنصرية وبالنظرة الاستعلائية، وكانت تقيم حواجز بينها وبين الآخرين، فكانت آية الأمر بالتعارف حاكمة مصححة، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

واقع التعددية الدينية مبعث حوار الأديان

لا يجادل عاقل في أن مبعث الحديث عن حوار الأديان، وعن كل حوار، إنما هو واقع التعددية المعلوم من الشأن الإنساني بالضرورة، إذ لا يحتاج المتأمل في الطبيعة البشرية الكثير من الجهد حتى يكتشف التمايز الكبير بين البشر من وجوه متعددة، على الرغم من تساويهم في الأصل الإنساني العام، وفي الخصائص الأولية المشتركة، بل ليس من المبالغة القول بأن التشابه والاختلاف مبدآن عامان لكل ما في الكون من ظواهر طبيعية وثقافية، وهما من صلب قانون الخلق الإلهي لا يختلف عنهما مخلوق؛ لأن المحيط يفرض على الذات الاختلاف، بقدر ما تحتم عليها مورثاتها التشابه.
وإذا كان للاختلاف البشري تمظهرات فردية وأخرى جماعية على مستوى الحياة الإنسانية، فإن أخطرها شأناً هي الاختلافات الجماعية التي تتخذ أشكالا وصوراً متعددة بدءاً من التنوع العرقي وانتهاء بالتعددية الدينية مروراً بالاختلافات الألسنية. على أن التعددية الدينية هي المقصودة هنا، وليس يعني هذا أن أنواع الاختلاف الأخرى أقل أهمية في مجال العلاقات الإنسانية، فلطالما استغلت لبث نعرات الاستعلاء والتفوق، بينما كان من الأولى البحث في أصلها والتأكيد على طبيعتها الكونية التي لا تقتضي فضلا لأحد على سواه.
والتعددية الدينية كما -أشار الكاتب- تعتبر أخطر أنواع الاختلافات أثراً في غياب ضوابط التواصل والاحتكاك، ولأن فعل وازع الدين في النفوس أبلغ من غيره، يصبح التأكيد على الحوار بين الأديان أمراً ضرورياً من باب التأكيد على الأولى والأخطر الذي إذا صلح واستقام صلحت واستقامت بصلاحه بقية التفاعلات البشرية الثقافية والحضارية، ولأهمية هذا المنحى، ولأن البعض من الناس قد يحاول مصادرة قرار الآخرين وحرياتهم، بفرضه ما يؤمن به عليهم، يكرر القرآن الكريم هذه الحقيقة لتأكيدها وتثبيتها، فلو كان فرض التوجهات مقبولا، لسير الله خلقه وعباده إلى طريق الإيمان به، ولكنه تعالى جلت حكمته ترك الاختيار للإنسان، مصداقاً لقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118-119].

في الختام لابد أن نؤكد على أن الحوار بين الأديان عملية فكرية متواصلة ومستمرة تهدف إلى إنماء الشعور الديني العام وإثراء الخبرة الدينية وتعميق فهم كل طرف لذاته وللآخرين، وهذه الخاصية هي ما يميز الحوار الديني عن الحوار السياسي والاقتصادي وغيرهما من أشكال الحوار التي تهتم بقضايا وقتية تنتهي بانتهاء أسبابها أو بالتوصل إلى حلول لها، وبناء على ذلك فإن خضوع الحوار بين الأديان للإملاء السياسي لطرف معين يفقده مصداقيته، ويبعده عن مقاصده في نشدان الحقيقة والصواب والصلاح لكل الأطراف المتحاورة في جو من الموضوعية والحرية الفكرية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها