"البروكار الدمشقي".. سحر الحرير المطعم بالذهب

خلف أحمد محمود أبوزيد


تشكل الحرف والمهن الشعبية، النشاطات الإنسانية والتجسيد المادي، لتراث روحي وفكري وفني عميق الجذور، يمحنا الثقة ويطلعنا على القدرات الكامنة في أعماق الإنسان بطريقة صادقة؛ لأحلام الأمة وأمالها وبؤسها وشقائها وسعادتها، فهي تمثل جزءاً كبيراً من همومنا وثقافتنا وانتمائنا الفكري والفني، وهي رصيد مخزون لخبراتنا الحياتية والإمكانية الإنتاجية الذاتية المتاحة داخل كل مجتمع محلي، وتعد صناعة "البروكار" من الصناعات الدمشقية القديمة، التي استطاعت بفضل جمالها ودقة حرفيتها أن تتخطى حدود سوريا، وتحقق شهرة عالمية واسعة في مختلف بلاد العالم، حتى أصبحت من أنفس المقتنيات التي يتباهى بها الملوك والأمراء والمشاهير.

 

البروكار وأنواعه

البروكار قماش من الحرير الطبيعي، ينسج على النول اليدوي، تضاف إليه خيوط الذهب والفضة، يمتاز برسوم مميزة منها النباتية مثل الوردة والياسمين الدمشقي، إضافة إلى النقوش المختلفة. وإن مصطلح البروكار الحديث يعود إلى "بروكانيلو" بالإيطالية التي تعني القماش الحريري المفنن بخيوط ذهبية أو فضية، ثم حرفت إلى بروكار بالفرنسية، وتعني القماش الحريري، ومنها انتقلت إلى العربية"1، إلا أن هناك معلومات تاريخية، ترجع تسميته إلى شخص كردي ابتكره وأطلق عليه "برو"، وهي اختصار لاسم إبراهيم باللغة الكردية، و"كار" وتعني مهنة، وصارت تعرف فيما بعد مهنة إبراهيم أي "بروكار"2. للبروكار الدمشقي تاريخ ضارب الجذور "يرجع إلى بدايات صنع الخيط، حيث أمر الملوك والسلاطين والأمراء الحرفيين بصناعة أثواب وأزياء لهم من الذهب والحرير، فظهرت أنواع عديدة من الأقمشة المصنوعة بطرق وآليات مختلفة، ومن هنا ظهرت صناعة البروكار، التي أرجعها البعض لأكثر من ثلاثة ألاف سنة"3، وارتبطت تجارته بطريق الحرير سابقاً، حيث كانت خيوط الحرير تستورد من الصين، ثم استخدم الحرفيون السوريون بعد ذلك الحرير الذي تنتجه بلدة "الدريكيش" السورية، التي اشتهرت بتربية دودة القز وتغذيتها بأوراق شجرة التوت، حيث كان الحرير المنتج يرسل إلى حلب لمعالجته وبرمه وفتله وتبيضه، ثم صنعه حسب الطلب ليكون جاهزاً للنسيج في دمشق، واستمرت هذه الصناعة في التطور حيث تخرج العديد من أشهر العاملين فيه أواخر القرن التاسع عشر، وفي النصف الأول من القرن العشرين من معمل النعسان للأرابيسك والشرقيات، الذي كان يضم مئات العاملين وله أقسام وتخصصات كالموزاييك، والنحاسيات والثريات وغيرها، حيث اشتهر نساجو دمشق منذ مئات السنين بتقديم أنواع متعددة من البروكار منها الخفيف وزناً، ويستخدم للأزياء ولاسيما للعرائس وملابس السهرة، والوسط لعمل جاكيت أو لاميادير أو أدوات الديكور وصناعة السترات، أما الثقيل منه للمفروشات وورق الجدران.


الفيديو: Youtube.com/CGTNArabic©

مراحل صناعة البروكار

انتقلت صناعة البروكار الدمشقي من جيل إلى جيل بفعل الحرفيين الدمشقيين، الذين تمسكوا بأصول هذه الحرفة وورثوها لأبنائهم وأحفادهم، حيث استعمل الحرفيون في نسيج البروكار الأنوال اليدوية التقليدية، التي توفر لهذا النسيج دقة اللحمة ونعومة الملمس، حيث تتطلب صناعته جهداً ووقتاً وعلماً "فهي تستخدم الرياضيات في حسابات الخيوط في التصميم المعطى، وتعتمد على الميكانيك في صيانة وخيط النول اليدوي المستخدم، فالصانع الماهر يجلس وراء النول لساعات طويلة من العمل المتواصل ليتاح له نسج متر واحد"4، وتمر صناعة البروكار بعدة خطوات أساسية هي:

الخطوة الأولى: إرسال شلل الحرير إلى شخص يُدعى الفتال الذي يقوم بكر الشلل خيوطاً على بكرات خشبية، ثم تؤخذ هذه البكرات لما يسمى عملية "الزوى"، وهي عملية تجميع الخيوط على بكرتين أو أكثر على بكرة واحدة، ومن هنا يصبح الخيط ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً، ومن ثم تبرم تلك الخيوط على آلة الفتل لتصبح بمثابة خيط حرير واحد متين.

الخطوة الثانية: وهي ما يعرف باسم "المسدى" وهو الشخص المسؤول عن تحضير السدى؛ أي الخيوط الطولانية للقماش والخلفية.

الخطوة الثالثة: مرحلة الصباغ التي تتضمن (القصارة)، وهي عملية معالجة الحرير الخام من خلال وضعه في الماء المغلي والصابون والكربونات، حيث تصبح مادة الحرير بيضاء ناصعة ليتم صبغها يدوياً وفقاً لألوان محددة.

الخطوة الرابعة: تسمى "المزيك"، وهو الشخص الذي يأخذ شقة الحرير الطبيعي التي ستصبح خيوطاً للسدى من الصباغ الذي يقوم بتغطيسها بالنشاء المحلول في الماء، والمضاف إليه الصمغ المأخوذ من أشجار اللوزيات، وفي دمشق يضيفون سكر نبات والغراء للحرير الطبيعي، حيث تستمر عملية التغطيس حوالي 5 دقائق فقط في هذه المواد ثم تعطر شقة الحرير، وبعد ذلك يقوم المزيك بلف الشقة على الملف الخشبي، على شكل كرة متطاولة، ومن ثم يقوم بنشرها على عوارض خشبية، وذلك لإجراء عملية تعرف بـ"البز"، وهي أبعاد الخيوط بعضها عن بعض بأصابعه كيلا تلتصق، وحتى تتحمل ضربات المشط عليها عند تركيبها على النول، أما خيوط الحرف واللحمة فلا تحتاج للتخشين لأنها محمية في المكوك.

الخطوة الأخيرة: من معالجة الحرير تتم من خلال شخص يسمى "الملقى" الذي يهيئه بدوره للحائك، فيقوم بتشبيك خيوط "السدى" مع النير تمهيداً لعملية الحياكة، ثم يأتي الحائك الذي يحول الخيوط إلى نسيج سدى في الطول، ولحمة في العرض وفق الهيئة التي يريدها، وأن كل "6 : 8 شلل من الحرير تنتج ثوباً من البروكار بطول 20 إلى 25 متراً، كما أن قماش البروكار قد يكون مؤلفاً من لونين أو 3، أو 4، أو 7 ألوان، وإن عدد الألوان يرتبط بعدد المكوكات، حيث إن إنتاج قطعة من البروكار بسبعة ألوان يحتاج إلى 7 مكوكات، ويستخدم اللونان الأبيض والأسود لخيوط السدة، وألوان الأحمر والأخضر والبيج ثم الأزرق بكميات قليلة لخيوط اللحمة، لتعطي هذه الألوان رونقاً خاصاً بالإضافة إلى استخدام الخيوط الذهبية والفضية والقصب في صناعة البروكار"5.
 

ملامح فنية وجمالية

حمل البروكار الدمشقي، لمسات جمالية وفنية، أبرزت الذوق والأناقة لكل ما نحتاج إليه في حياتنا اليومية، حيث أبدع الحرفي الدمشقي في إبراز مظاهر رائعة من الجمال، جاء بعضها مستوحى من الحياة الدمشقية اليومية مثل رسم، البندقة واللوزة والناعمة أي الوردة الصغيرة، وهي مستقاة من ثمر شجر البندق واللوز والورود المتواجدة بكثرة في البيوت الدمشقية، كما أن هناك رسوماً جاءت مستوحاة من التراث الديني العربي والإسلامي، ومن أشهرها رسم الشرفية، وهي زخارف مستلهمة من الأشكال الهندسية المتواجدة في الجامع الأموي بدمشق، وهي عبارة عن شكل هندسي يتكون من 12 ضلعاً، ورسوماً مستوحاة من القصص الدينية كرسم سفينة نوح، لوحة معركة حطين، ورحلة السندباد البحري. هذا بالإضافة إلى رسم الكشمير والشال العجمي الدمشقي، كما انفتح الحرفي الدمشقي على تراث الحضارات الأخرى، كالتراث الأوروبي والفارسي مستلهماً رسومات من تراث هذه الحضارات، حيث رسم "روميو وجولييت"، ورسوم مأخوذة من إمبراطور ألمانيا "تاج ملوكي".

كما أخذ من الثقافة الفارسية مشاهد صيد الغزلان ورقص الجواري، وجلسات الرجال وتدخينهم للنرجيلة، وزهرة الكشمير ورسوم لعمر الخيام، ورسم الفراشة، حيث يلقى هذا الرسم رواجاً كبيراً من السياح الأجانب، ويحتوي على سبعة ألوان. ورسموا طير الحب، الذي أطلق عليه تجار البروكار، فيما بعد رسم العاشق والمعشوق، الأمر الذي يبرز مدى تلاقي الحضارات وانسجامها على القماش الدمشقي، "وعملية الرسم هذه تتم بوضع الرسوم المنتقاة على ورق مليمتري، ليتم بعد ذلك تدقيقها لتنزيلها على الآلة، فالنول يتألف من خيوط الشبكة الموصولة بالألة، حيث إن هناك أبرة أفقية وعمودية تشبك الخيوط في الآلة لإخراج الرسم المطلوب"6.
 

مشاهير مع البروكار الدمشقي

نال البروكار الدمشقي، شهرة عالمية كبيرة، كانت سبباً لأن يطلبه الحكام والملوك والمشاهير، وتذكر المرويات السورية القديمة "أن الملكة ماري أنطوانيت زوجة الملك الفرنسي، لويس السادس عشر آخر ملوك فرنسا، كانت مولعة بالبروكار الدمشقي، وكانت خزائنها تضم 72 نوعاً منه عام 1782م، قبل الثورة الفرنسية"7، وكذلك الأمر بملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، عندما طلبت قماش البروكار لصنع ثوب زفافها، من الأمير فيليب دوق ادنبره، في عهد الرئيس السوري شكري القوتلي، حيث صنعه أحد العاملين في معمل النعسان في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وابتكر زخرفة خاصة بالملكة ما زالت لليوم تحمل اسمها، يطلق عليها نقشة العاشق والمعشوق أو طيور الحب، وأن هذا الثوب لا يزال موجوداً في متحف مدام توسو بلندن شاهداً على عراقة الصناعة الدمشقية. كما ارتدت البروكار الدمشقي ملكة إسبانيا السابقة صوفيا، وملكة الأردن السابقة نور الحسين، وملكة ماليزيا (حاجة حمينة)، كما اقتناه البابا يوحنا بولس الثاني وعليه النقش الكنسي، والبابا بنديكت كهدية من أنطون مزنز صاحب معمل المزنز، كما علقت جدارية كبيرة على مساحة 112 متراً مربعاً من البروكار على جدران قصر الملك الراحل " فهد بن عبد العزيز" بالرياض، هذا إلى جانب العديد من الوفود الأجنبية والشخصيات العالمية، التي أبدت إعجابها واهتمامها بالبروكار الدمشقي، كان في مقدمتهم ملك إسبانيا السابق "أخوان كارلوس"، الذي أطلع على صانعته وأعجب بها كثيراً.

البروكار في المخيلة الشعبية

احتفت الذاكرة الشعبية بالبروكار الدمشقي، حيث جاءت الأمثال الشعبية لتعبر عن صعوبة هذه الحرفة، ومن أشهرها هذا المثل الذي يقول: "كار الطاق ما ينطاق"، وهو مثل يبين قسوة المهنة وصعوبتها، حتى يحصل الحرفي على قطعة جميلة، فالطاق هو الخيط، فلفه وشده وضمه أعمال فيها صعوبة، كما لم يغفل الغناء الشعبي البروكار الدمشقي وقيمته وندرته وسحره، ومن أشهر المقطوعات الغنائية السورية التي تغنت بجمال البروكار، هذه المقطوعة التي تقول:
حبيبي جبلي... جبلي بروكار
حبيبي كارو أحلى كار
جبلي المدهب جبلي المحجب
بروكار مركب وقلي سهار
حبيبي جبلي جبلي بروكار
جبلي كارو أحلى كار
قلي يا حلوة بروكار للحلوة
ما أحلى السدة والقمر دار8

فهذه المقطوعة الغنائية من عيون الأغاني الشعبية الخاصة بالحرفة، التي بينت لنا سحر البروكار الدمشقي وأعماقه ومدلولاته في الوجدان الشعبي السوري، ونحن نستحضر أمجاد مهنة تراثية اسمها "البروكار".

 


الهوامش: 1. حوار أجرته صحيفة النهضة السورية، مع الحرفي "محمد الفياض" أمين تحرير مجلة الحرفيين، عدد كانون الثاني يوليو عام 2020م.2. البروكار النسيج الحريري الدمشقي، هشام عدرة، مجلة العربي، العدد 699، فبراير 2017م.┊3. البروكار والزجاج والحفر، وسوق المهن اليدوية، إبراهيم حاج عبيدي، المجلة العربية السعودية، العدد 390 يوليو 2009م.┊4. المصدر السابق.┊5. البروكار الدمشقي فخامة مهددة بالاندثار، هيثم حودية، جريدة البيان، العدد الصادر بتاريخ 29 مايو 2021م.┊6. البروكار الدمشقي، أصالة وتراث وحضارة، صحيفة العرب، عدد الخميس الموافق 29 يونيو عام 2017م.┊7. المصدر السابق.┊8. البروكار الدمشقي، د/ جوزيف زيتون، موقع تاريخ سوريا، بتاريخ 26/ 2/ 2016.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها