اللغة العربية والذكاء الاصطناعي

د. ربيع أحمد سيد أحمد

 

تُعدّ اللغة العربية رُكنًا أساسيًا من أركانِ التنوعِ الثقافي للبشريةِ؛ وأقدم لُغاتِ العالمِ وأكثرِها ثراءً، واستخدامًا على مُستوى العالم ضمن اللغات الست. وهي من بين اللغات الأربع الأكثر شُيوعًا على الشبكة العنكبوتية؛ وهي اللغة الرسمية لكل الدول العربية؛ ويتخطّى المُتحدثون بها خمسمائة مليون نسمة. وهي لُغة القرآن والصلاة؛ ولُغة الضاد؛ وهي لغة الصوت والصورة، والمفردات والتراكيب، والحكمِ والأمثالِ.

 

لمحة عن الذكاء الاصطناعي

يتكون مصطلح الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence من لفظتين؛ الأولى اصطناعي Artificial، وتُشير إلى شيء مصنوع أو غير طبيعي؛ والثانية ذكاء Intelligence، وتعني القدرة على الفهم. أمّا اللفظة اصطلاحًا فتُعرف بأنها "العلم الذي يهتم بتصميم خوارزميات تستطيع أداء مهام مُحدّدة بنفس كفاءة البشر"؛ ويُفهم من اللفظة أية محاكاة تقوم بها عمليات خوارزمية مُعينة.

والذكاء هو "القُدرة على التعلم والفهم؛ واستعمال هذه المعرفة للوصول إلى هدف أو إنجاز مُهمة ما". والذكاء الاصطناعي هو "فرع من علم الحاسوب يهدف إلى صناعة آلات تقوم بمهام تحتاج من البشر الذكاء للقيام بها". ويُعتبر جون مكارثي عالم الحاسوب الأمريكي هو مبتكر الذكاء الاصطناعي؛ ويعزى إليه الفضل في صياغة المصطلح عام 1955م.

الإرهاصات الأولى للذكاء الاصطناعي

ورد في الأساطير اليونانية أنّ حدادًا يُدعى هيفايستوس قد صنع خدمًا ميكانيكيين؛ فإن صحَّ الخبر؛ فإن هذا يُعدّ من أوائل الإنجازات في مجال الذكاء الاصطناعي.

وأول ساعة أُهديت في أوروبا هي الساعة التي أهداها هارون الرشيد لشارلمان ملك فرنسا عام 207هـ/ 807م؛ وكانت من عجائبِ هذا العصر؛ حتى حيّرت رجال الديوان؛ وكان لها اثنا عشر بابًا صغيرًا بعدد الساعات؛ فكلما مضتْ ساعة فُتح باب فخرجت منه كرات صغيرة من النحاس تقع على جرس فيدق بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة، فتخرج صور اثني عشر فارسًا على جيادهم تدور على صفحة الساعة.

وعند أبي البقاء العكبري في شرح ديوان المُتنبي "كان أبو الطيب المتنبي ذات مرةٍ في مجلس بن عمار، وكان عنده جليسٌ أَعور يُعرفُ بِابْن كروس يحْسد أَبَا الطّيب المُتنبي لما كَانَ يُشَاهِدهُ من سرعَة خاطره؛ لأنه لم يكن شيء يجري في المجْلسِ إِلَّا ارتجل فِيهِ شعرًا، فَقَالَ الأَعْوَر لبدرٍ أَظُنهُ يعْمل قبل حُضُوره ويُعدُّه؛ وَمثل هَذَا لَا يجوز وَأَنا أمتحنه بشيء أحضرهُ للوَقْتِ فَلَمَّا كَانَ في المجْلس ودارت الكُؤوس أخرج لُعبةً لَهَا شعرٌ في طرفها تَدور على لولبٍ إِحْدَى رِجْلَيْهَا مَرْفُوعَة، وفي يَدهَا طَاقَة ريحَان، فَإِذا وقفت حِذاء إِنْسَانٍ شرِبَ فدارتْ فَقَالَ مُرتجلاً:
وجاريةٍ شَعْرُها شَطْرُها  ***  مُحكَّمَةٍ نافذٍ أَمْرُها
تدورُ وَفي كَفَّها طاقةٌ  ***  تَضَمَّنَها مُكرَهاً شِبْرُها
فإن أسْكَرَتْنا ففي جَهْلها ***  بما فَعَلَتْهُ بِنا عُذْرُها

وقد ابتكر الجزري آلةً شبيهةً بالروبوت؛ حينما طلب منه أحد الخلفاء أن يصنع له آلةً شبيهة بالروبوت؛ فقط طلب منه أحد الخُلفاء أن يصنع له آلة تُغنيه عن الخدم كُلمّا رغِب في الوضوء؛ فصنع له آلةً جاءت على شكل غُلام واقف، وفي إحدى يديه إبريق ماء، وفي اليد الثانية منشفة، وعلى عمامته طائر واقف، فإذا حان وقت الصلاة يُصدر الطائر صفيرًا بصوت العصفور، فيتقدم الخادم نحو الخليفة، ويصب الماء من الإبريق بمقدارٍ مُعينٍ، وعند الانتهاء من الوضوء يُقدم الغلام المنشفة ثم يعود لمكانه، ويسمع صوت العصفور بعد ذلك.

الذكاء الاصطناعي واللغة

يُطلق مُصطلح الذكاء الاصطناعي أيضًا على الأنظمة الحاسوبية التي تُحاكي، أو تُحاول مُحاكاة الذكاء البشري في أداء المُهمات والأعمال؛ وبالجُملة يُطلق الذكاء الاصطناعي على "أي نظام كمبيوتر يتم تدريبه وتطويعه لمُحاكاة السلوك البشري الذكي". ويرتبط هذا المفهوم بعدد من المعايير التي تتشابه مع الذكاء الطبيعي البشري مثل التعرف على أوجه الشبه، والاختلاف بين الأشكال والمواقف. والتكيّف مع المُستجدات والمُتغيرات. وتحسّن الأداء من خلال تجربة القدرة على تحليل البيانات والتعلم التلقائي. والذكاء الاصطناعي مرتبط بالمفهوم وتطبيقاته مهما اختلفت أكثر من ارتباطه بشكل معين، مثل ارتباطه بالروبوت أو وظيفة معينة.

ويتساءل البعض كيف يتعامل الذكاء الاصطناعي مع اللغة العربية؟

إنّ الفارق الأساسي بين برمجيات الحاسب المُعتادة، وبين التطبيقات المبنية على مفهوم الذكاء الاصطناعي؛ فبرمجيات الحاسب غير قادرة على الخروج عن المسارات المُحدّدة، بينما تستطيع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التعامل مع المشكلات في ضوء الخبرات التي تتكون لديها، والبيانات التي تُحصّلها. وبعد تعلّمها المُعطيات الأساسية تكون قادرة على المبادرة في تحليل المُشكلات وتفكيكها، وإعادة بنائها. فعلى سبيل المثال تتعامل برمجيات الحاسب مع الخطأ اللغوي في الجملة باقتراح تصويب له (برنامج الوورد)؛ وتظل تُكرر التصحيح ذاته للمشكلة المُشابهة، ولا يمكنها اقتراح غيرها إلا إذا أدخل المستخدم بيانات جديدة. بينما يُمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي اقتراح التصحيحات المُضمنّة سابقًا في النظام، بالإضافة لإقتراح أنماط جديدة أخرى تستقيها وتقيس عليها وتتعلمها من البيانات الضخمة المتوافرة لديها لإصلاح النوع ذاته من الأخطاء في الجملة؛ ليس هذا فحسب بل يُمكنها إدراك وتعديل التصحيحات الخاطئة التي يقترحها المُبرمج في البيانات الأساسية التي أُدخِلت على النظام.

برنامج شردلو من أشهر برامج الذكاء الاصطناعي

وقد كان أحد أشهر برامج الذكاء الاصطناعي؛ برنامج شردلو shrdlu، الذي وضعه تيري وينوجراد Tery Winograd بين عامي 1968 – 1970م. وهو برنامج حاسوبي يفهم اللغة عن طريق إدخال نموذج لسياق خطاب معين. بالإضافة إلى أنه يستكشف الأفكار الجديدة التي تُبين هذه المعرفة في شكل إجراءات مُحددة؛ وتكون النتيجة حوارًا يبدو طبيعيًا.

وقد جهّز "وينوجراد" البرنامج بمخزون من المعرفة محصور بموضوع صغير ومُحدّد؛ هذا الموضوع هو صندوق فارغ وطاولة، وبضعة قوالب على شكل مكعبات وأهرامات ملونة، وذراع روبوتية لوضع الألعاب في الصندوق. ونجح في جعل الوظائف الثلاثة المختلفة واللازمة لفهم اللغة؛ أي بناء الجملة، ودلالة اللفظة، والقدرة على المحاكاة العقلية؛ جميعها مدمجة داخل البرنامج بحيث تشترك جميعها وبصورة مُتزامنة في معالجة اللغة، بعد أن كانت تعمل بالتسلسل الواحد تلو الآخر في البرامج التي كانت شائعة في تلك الفترة.


مخطط برنامج شردلو للذكاء الاصطناعي


وقد أظهر برنامج "شردلو" قدرة كبيرة في تمكنه من الموضوع، وسيطرته على عالمه المُصغر المُحدّد، فكان يُعطي أوامر لذراع الروبوت لتحريكها بحركات مُحدّدة لالتقاط قالب مُعين، ووضعه في الصندوق. كما كان البرنامج يُتيح للشخص أن يُقيم حواراً مع الروبوت عندما كانت تُوجه إليه الأسئلة طالبة منه أن يقوم بإجراء مُعين؛ فكان يُجيب مثلاً بأنه حرّك قالبا ما حتى يتم إفساح المجال لإدخال قالب ثان، أو تلبية أوامر صدرت إليه؛ وهو بذلك برنامج مُتكامل. فالبرنامج يستخدم التراكيب اللغوية ودلالات المعاني وحقائق هذه المُكعبات. ويتبين لمن يطّلع على الحوار بين الإنسان والروبوت، فإنه يجد أن الآلة قادرة على تحديد الاسم والعبارة الاسمية، والضمائر التي تعود إليها، والفعل والعبارة الفعلية. وهي قادرة بعد ذلك على فهم الجُمل ودلالتها واستخداماتها الاستخدام الصحيح، ضمن سياق الحوار الطبيعي.

مقترحات أخرى لتوظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة اللغة

وضعت خيرية الألمعي مجموعة من المقترحات لتوظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية، وقد تمثلت في: التصحيح الكتابي، الأدب التفاعلي، المرابحة اللغوية، المعجم الرقمي، التمثيل المعرفي، الترجمة التلقائية.

كما تُعدّ روبوتات المُحادثة Chatbots تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي؛ فتُحاكي البشر في طريقة مُحادثتهم باستخدام اللغة الطبيعية، ويُمكن أن تكون هذه الواجهات ذات واجهات مُختلفة مثل تطبيقات المُراسلة، أو بعض مواقع الويب التي تُعرض المساعدة على المتصفح، أو تطبيقات مخصصة على الهواتف الذكية أو اللوحية. وتعتمد الروبوتات على مُعالجة اللغة الطبيعية، وتحليلها، والتعلم المُستمر من الأخطاء، والمداخلات في البيانات الضخمة التي تتشاركها.

وقد أوصى المؤتمر السابع عشر للوزراء المسؤولين عن التعليم العالي، والبحث العلمي في الوطن العربي؛ والذي عُقِدَ في ديسمبر عام 2019م بالقاهرة، والذي جاء تحت عنوان "الذكاء الاصطناعي والتعليم: التحديات والرهانات" بضرورة العمل على وضع سياسات عامة، وخطط تنفيذية لتعزيز توظيف الذكاء الاصطناعي في اللغة والثقافة، وذلك من خلال تعظيم الاستفادة من التقنيات الحديثة في الترجمة، حتى يُتاح للأفراد من مختلف بلدان العالم الاطلاع والمعرفة، وإنتاج برامج ذكية تتعامل مع الجنسيات المختلفة للترجمة الفورية لمختلف اللغات. وتخصيص برمجات خاصة باللغة العربية؛ مع ضرورة عمل البرمجات بواسطة أهل اللغة أنفسهم.

وأكدَّ المؤتمر أنّ الشعر والنثر، والقصة القصيرة والأدبية، وعلم النحو، تخصصات كثيرًا ما يعزف عنها بعض الشباب لصعوبة ألفاظها، إلا أنَّ تلك الصعوبة ستتلاشى تدريجيًا مع الذكاء الاصطناعي؛ وذلك من خلال ما يُسمّى بالبرمجيات الصوتية، والتي تُتيح للطلاب سماع الشعر، والنثر، والقصص الأدبية.

إن توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة والثقافة يُمكن أن يتم من خلال ترجمة النصوص في مختلف اللغات، حتى يسهل للبعض الإطلاع عليها، بالإضافة لترجمة المقالات والنصوص من خلال ما يُسمى "التعلّم الآلي"، وهو أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يُمكن التعرف على النصوص باللغة الأصلية. واختيار التراكيب واللغات المُناسبة كي يستوعبها القارئ بشكل جيد.


المصادر والمراجع: 1. جمال الدهشان، اللغة العربية والذكاء الاصطناعي، كيف يمكن الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في تعزيز اللغة العربية، المجلة التربوية، كلية التربية، جامعة سوهاج، العدد 73، مايو 2020م، ص: 8. | 2. سفيان مطروش، هل استطاع الذكاء الاصطناعي مُحاكاة الشعر العربي، مجلة جامعة الطائف للعلوم الإنسانية، المجلد 7، العدد 28، أغسطس 2021م، ص: 596. | 3. خشان بن صالح الخشان، العروض والذكاء الاصطناعي، مجلة جامعة الطائف للعلوم الإنسانية، المجلد 7، العدد 28، أغسطس 2021م، ص: 863 | 4. منى محمد عبد المعطي، إشكالية المعرفة الصورية بين النظرية والتطبيق، رؤية تحليلية نقدية في فلسفة العقل، ص: 1126. | 5. هشام بن صالح القاضي، استثمار الذكاء الاصطناعي في تعلم وتعليم اللغة العربية لغة ثانية، الآفاق والإمكانات، مجلة الحكمة للدراسات الأدبية واللغوية، عدد 3، 2021م، ص: 84، 88.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها