من النقد الأدبي إلى التحليل النفسي

حـوار مع الناقد المغربي د. "حسن المودن"

حاوره: ممدوح عبد الستار


الناقد المغربي والأكاديمي الدكتور "حسن المودن" واحد من النقاد المتفردين في تناولهم للإبداع الروائي والقصصي، ويهتم بمنهج التحليل النفسي للأدب للوصول إلى تأويل، وتناول مغاير للأدب، ويعترف لنا، ويقول: (أصبح ضرورياً اليوم أن يبتعد النقد عن كل محاولة تسعى إلى تشييء النص، وعن كل محاولة تسعى إلى منحه استقلالية ذاتية، وذلك لأنه من الصعب أن نفكّر في النص الأدبي من دون التفكير في الذات: في الذات التي تصنع النص كما في الذات التي تجعله يدلُّ، فهاتان الذاتان، هما معـــًا، تشتركان في تحمل المسؤولية، مسؤولية ميلاد النص وظهوره بوصفه عملاً فنياً.. والفرضية التي يبدو اليوم من الضروري أن ينطلق منها النقد العربي هي أن يتخلّص من ذلك الوهم الذي جاءت به النظريات الشكلانية والبنيوية: علم الأدب، وأن يقتنع بضرورة تورّط الذات القارئة).
 

حصل على جائزة "كتارا" في فرع الدراسات الأدبية- فرع الرواية عام 2016 بكتابه "الرواية العربية.. من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي"، ووصل كتابه: "بلاغة الخطاب الإقناعي" إلى اللائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد عام 2016. ترجم كتاب" التحليل النفسي والأدب" لجان بيلمان، وكتاب" الرواية البوليسية، والتحليل النفسي، من قتل روجيه آكرويد" تأليف بيير بيار. وأصدر العديد من الكتب النقدية منها، (بلاغة الحجاج، الرواية العربية وشعرية اليُتم، الكتابة النسائية العربية، الأدب والتحليل النفسي، القصة القصيرة والتحليل النفسي، الرواية العربية.. من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي، الرواية والتحليل النصي). التقت به المجلة، وكان لنا هذا الحوار:
 

 تُلوّح المناهج البينية بانتهاء المنهج الواحد في النقد الأدبي، هل انتهى زمن المنهج الواحد، وهل الدراسات البينية كفيلة بالوصول إلى النص، ومعرفة جوهره، والمخفي عنّا؟

كثيرون يدعون اليوم إلى التكاملية والبينية، لكن البينية ليست مجرَّدَ جَمعٍ عشوائي أو ميكانيكيّ بين منهجين أو نظريتين أو أكثر. ومن أجل التوضيح، أسرد المثال الآتي: قبل سنوات، نشرت مقالة كان سؤالها المركزي حول العلاقة بين اللسانيات والتحليل النفسي بالنظر إلى أنهما يشتغلان معاً باللغة وبالأدب، لكن أيعني ذلك أن لهما التصور نفسه؟ مسألة العلاقة بين اللغة والتحليل النفسي واللسانيات معقدة ومركبة لأسباب عديدة يطول شرحها. لكن الواضح أن التحليل النفسي عند س. فرويد قد أسّس شبكة من الروابط والعلائق بين اللاوعي واللغة، وأسس ذلك في جهلٍ تامٍّ باللسانيات، مع أن مسألة العلاقة بين التحليل النفسي وظاهرة اللغة قد طرحت منذ الأعمال الأولى لفرويد، لكن مسألة العلاقة بين التحليل النفسي واللسانيات لم تكن ذات مضمون إلا مع جاك لاكان. من دون أن يعني هذا أن جاك لاكان قد عمل على أن يكون التحليل النفسي تابعًا للسانيات؛ لأن السؤال الجوهري الذي يشغله باعتباره محللاً نفسانياً هو: هل هناك من شيءٍ جديدٍ في التحليل النفسي يهمّ اشتغال اللغة؟ ما المعطيات التي يوفّرها التحليل النفسي ومن الضروريّ أن تأخذها اللسانيات بعين الاعتبار؟

وباختصار شديد، لقد حرصت العديد من الدراسات النفسانية على توضيح القاعدة الجوهرية في التحليل النفسي اللاكاني: "اللاشعور مُبَنْيَنٌ كاللغة"، لكنها دراساتٌ تُؤكّد أن هذه القاعدة لا ينبغي لها أن تُفهَم على أنها تعني خضوع التحليل النفسي للسانيات، فلاكان يرفض اعتبار اللاشعور علامة بالمعنى السوسيري؛ أي علامة لها مدلول ثابت، فاللغة بالنسبة إليه ليست نسقًا من العلامات، بل إنها نسقٌ من الدوالّ، وإذا كانت نظرية دوسوسير نظريةً للعلامة؛ فإن نظرية جاك لاكان هي نظرية للدالّ، فلا تمييزَ في لغة اللاشعور بين الدال والمدلول، و"الشبكة اللاشعورية يمكن أن تكون مفتوحة بامتياز على المعاني كلها: مفتوحة على دالٍّ خالص".

وتعود أهمية هذه الأولوية التي أعطاها جاك لاكان للدالِّ في الشبكة التي يلحّ من خلالها المعنى إلى أنها تؤدي إلى استنتاج مهمٍّ: تكشفُ بنيةُ الشبكة الدالة عن الإمكانية التي للإنسان في استخدام هذه الشبكة للدلالة على شيء آخر غير ما يبدو أنها تقوله، لكن هذه الشبكة الدالة تكشف بالمقابل أن للدال، بوصفه شبكة رمزية، قدرة كبيرة وسلطة واسعة واستقلالية كاملة في علاقته بالإنسان، بحيث يمكنها أن تُقَوِّلَ الإنسان ما لا يريد أن يَقوله مثلا. وهنا تصورٌ للغة غير الذي نجده في اللسانيات. وبالمقابل فإن العلاقة بين التحليل النفسي واللسانيات والأدب هي الأخرى ذات طبيعة إشكالية، ولأن المقام لا يسمح بالتفاصيل، فسأكتفي بإشارات أتمنى أن تكون كافية ودالة: الجديد الذي اكتشفناه مع جاك لاكان هو أن التحليل النفسي والأدب لا يَقنَعان بأن يتحوَّلا إلى مجرَّد أمثلةٍ من اللغة المستعملة تَعمل اللسانيات على توضيحها وإضاءتها، بل إنهما، أي الأدب والتحليل النفسي، يكشفان بعدًا في اللغة يصمُد أمام المعرفة اللسانية، ذلك لأن ما يتحقق باللغة في تحليلٍ نفسيٍّ أو في عملٍ أدبيٍّ لا يمكن أن نحيط به من خلال "نماذج نظرية لسانية". والسؤال هو: ما هو هذا البعد في اللغة الذي يصمد أمام المعرفة اللسانية، والذي يَفرض علينا التحليلُ النفسي والأدبُ أن نأخذه بعين الاعتبار؟ وكيف يمكن للصورة التي رسمها دوسوسير للغة أن تسمح باعتبار هذا البعد جوهريا في اللغة، بحيث لا نعتبر زلات اللسان وفلتاته والأحلام والأعمال الأدبية مجرد استعمالات للغة من بين استعمالات أخرى، بل باعتبارها هذا الكلام الذي يعمل من داخل الخطاب على إبراز حقيقة اللغة نفسها؟ وهكذا، فإن البينية ليست عملاً ميكانيكياً سهلاً وبسيطاُ، فجاك لاكان استطاع بالحوار الذي أسّسه بين فرويد ودو سوسير أن يكشف النقاب عن الجديد الذي يمكن أن يضيفه تصور التحليل النفسي للغة والأدب إلى اللسانيات، ولكنه بواسطة اللسانيات استطاع أن يمنح التحليلَ النفسي لغةً واصفة جديدة؛ وبذلك، فهو يضيف شيئًا جديدًا إلى العلمين معًا: التحليل النفسي واللسانيات.. والطريقة التي تُمارَس بها البينية والتكاملية في البلدان العربية بعيدة عن مثل هذا العمل البيني الذي أنجزه المحلل النفسي جاك لاكان.

 استخدمت بكثرة التحليل النفسي في تناولك للأعمال الإبداعية، ما قصور هذا المنهج، وكيف عملت على تطويره وتجديده؟ وما ملامح مشروعك النقدي الأساسية؟

أزعم أنني واصلت العملَ، من بداية التسعينيات إلى اليوم، بالطموح نفسه الذي كان يوجّهني: طموحٌ إلى التجديد أفترضُ أنّ له ما يميّزه: من أجل تجديد التحليل النفسي للأدب، مغربيًّا وعربيًّا، واصلتُ العمل على مستويين: الأول هو الترجمة: فترجمتُ، سنة 2015، كتابًا مهمًّا للناقد الأدبي المحلِّل النفسي المعاصر بيير بيار، وهو بعنوان: الرواية البوليسية والتحليل النفسي (صدرت الترجمة بدار رؤية للنشر بالقاهرة)؛ وتتجلى أهمية هذا الكتاب في أنه دشّنَ مداخل نقدية جديدة: يؤسِّس بيير بيار "نقدًا للرواية البوليسية" جديدًا، من أبرز خصائصه فتح تحقيقٍ مضادٍّ يؤدي في النهاية إلى اكتشاف قاتلٍ آخر غير الذي عيّنه مؤلِّف الرواية البوليسية، والأكثر أهميةً هنا ليس هو تعيين قاتلٍ جديدٍ، بل إنه بروز الدور الذي قد يؤدّيه القارئ في إعادة بناء الرواية البوليسية، وفي اكتشاف حقيقةٍ جديدةٍ غير التي اكتشفها المحقِّق/ المؤلِّف؛ وفي علاقةٍ بهذه الخاصية، تتكشّف خاصيةٌ أخرى: يتحول القارئ/ الناقد إلى مؤلِّفٍ/ كاتبٍ، ويتحول النصُّ النقديُّ إلى شيءٍ وسطٍ بين التخييل والعلوم الإنسانية؛ وبهذه الخاصية الجديدة يؤسِّس بيير بيار لنوع مختلفٍ يسمّيه هو نفسه بـ-: محكيٍّ – نظريٍّ: نوعٌ من النصوص يضخُّ التخييلَ داخل التفكير النقدي والتأمّل النظري. كما أعدتُ، سنة 2017، إصدار ترجمة كتابٍ بدار نشر بالأردن؛ والكتاب للناقد الفرنسي المعاصر جان بيلمان نويل بعنوان: التحليل النفسي والأدب، في طبعةٍ جديدة، مزيدة ومنقّحة، تتوفر على تقديمٍ وملاحق ضرورية، وهو كتابٌ مؤسِّسٌ للنقد النفسيّ الجديد الذي تحرّر من النقد البيوغرافيّ الذي كان يدرس النصوص بحثًا عن علاقتها بلاوعي المؤلِّف: ففي هذا النقد النفسيّ الجديد انفتاحٌ على الدرس البنيوي، وبذلك أصبح هناك اشتغالٌ بلاوعي النصّ نفسه؛ ثم جاء الانفتاح بعد ذلك على الدرس التداولي، فصار هناك انشغالٌ بالعلاقة بين النصّ ولاوعي القارئ.

وكنتُ نشرتُ الطبعة الأولى من هذه الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (المشروع القومي للترجمة) سنة 1997. والمستوى الثاني هو: التأليف: بفضل الانفتاح على مختلف النظريات الجديدة في التحليل النفسي للأدب، وفي ضوء بعض الترجمات التي أنجزتها، واصلتُ تأليفَ مؤلفاتٍ ومقالاتٍ، نظرية وتطبيقية، أفترضُ أنها تدشِّن مباحث جديدة في النقد النفسيّ، المغربيّ والعربيّ؛ ومن أهمّ هذه المباحث: بدايةً، هناك تطبيقُ التحليل النفسي على الأدب: يتجلّى تطبيقُ التحليل النفسي على الأدب في كتابي النقدي الذي فاز بجائزة كتارا للدراسات النقدية سنة 2016، وصدر عن منشورات كتارا بالدوحة/ قطر سنة 2017، وهو بعنوان: الرواية العربية، من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي: واضحٌ من هذا العنوان أن الدراسة تطبِّق مفهومات نفسانية على الرواية العربية: مفهوم "الرواية العائلية" الذي وضعه سيجموند فرويد في نصٍّ قصير نشره سنة 1909 بعنوان: "رواية العصابيين العائلية"؛ وطبّقته الناقدة الفرنسية مارت روبير على الرواية الغربية في كتابها الصادر سنة 1972 بعنوان: رواية الأصول وأصول الرواية؛ والمفهوم الثاني: "محكي الانتساب العائلي": وقد ابتكره الناقد الفرنسي المعاصر دومينيك فيار سنة 1996 في مداخلة شارك بها في ملتقى حول: "حالات الرواية المعاصرة "(6 ــ 13 يوليوز 1996)، ونشرت هذه المداخلة في شكل نصٍّ تحت عنوان: "انتسابات أدبية" في كتاب جماعي صدر سنة 1999 بعنوان: حالات الرواية المعاصرة، كتابات معاصرة 2.. ومحكي الانتساب العائلي شكل أدبي جديد ازدهر في الرواية الفرنسية منذ الثمانينيات، وهو قد أتى ليحلّ محلّ الأشكال الكرونولوجية للأتوبيوغرافيا والتخييل الذاتي، وليتقدم في شكلِ بحثٍ أركيولوجيٍّ في أنساب الذات، من أجل استكشاف الماضي العائلي، ومن أجل بناء معرفة بالذات انطلاقاً من الوجوه العائلية: الآباء والأجداد.

وبالنسبة إلى هذا السؤال: ما أهمية تطبيق هذين المفهومين على الرواية العربية؟ أفترض أن هذين المفهومين يسمحان بقراءة جديدة ومختلفة للرواية العربية عبر تاريخها. ولا بد من أن أسجّلَ أنني واصلتُ تطبيق هذين المفهومين في دراسة بعنوان: "من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي، من رواية: الحي اللاتيني إلى رواية: ساق البامبو". وصدر بالمغرب، بداية هذه السنة، كتابٌ نقديٌّ بعنوان: الرواية النسائية العربية، من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي، وهو عبارة عن دراسة تطبّق هذين المفهومين النفسيين على متن روائيٍّ نسائيٍّ يمتدّ من أواخر القرن التاسع عشر إلى السنوات القليلة الأخيرة من القرن الواحد والعشرين. مع العلم أني نشرتُ في سنواتٍ سابقةٍ مؤلفاتٍ فيها تطبيقُ مفهوماتٍ نفسية أخرى، من أهمّها: الكتابة والتحول (2001)؛ الرواية والتحليل النصي (2009)؛ مغامرات الكتابة القصصية (2013)، مع الإشارة إلى أن اشتغالي، النظري والتطبيقي، بالنقد النفسي الجديد كانت انطلاقته الأولى برسالة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا في موضوع: لاوعي النص في روايات الطيب صالح، التي نوقشت بكلية آداب الرباط سنة 1996، وصدرت في كتاب بالعنوان نفسه سنة 2002.. لكني في السنوات الأخيرة دشّنت طريقًا معاكسًا في التأليف، وتكمن تسمية هذا الطريق الجديد باسم يقلب عناصر المنهج النفسي التقليدي، فهنا نجد: تطبيق الأدب على التحليل النفسي، لا تطبيق التحليل النفسي على الأدب؛ وهذه نظرية جديدة في النقد النفسي، يعود الفضل في تأسيسها إلى الناقد الأدبي المحلِّل النفسي بيير بيار، وخاصّة في كتابه الصادر سنة 2004 بعنوان: هل يمكننا تطبيقُ الأدب على التحليل النفسي؟ يعني أنه إذا كان المألوف هو تطبيق التحليل النفسي على الأدب؛ فإن بيير بيار يدعونا إلى قلب الأدوار، وذلك بأن نجرّب تطبيق الأدب على التحليل النفسي؛ وهناك العديد من الأسباب التي تدعوه إلى مراجعة العلاقة بين الاثنين، ومن أهمها أن النقد الأدبي الذي يطبّـق التحليل النفسي على الأدب قد أصابه الإفلاس، ويعود السبب في ذلك إلى أن تطبيق التحليل النفسي على الأدب يؤكد النظرية التي تمّ الانطلاق منها، ولا يضيء العمل الأدبي؛ وبالعكس، إذا تم الاعتماد على منهج يقلب الأشياء، يكون بإمكان الأدب أن يقول أشياء عديدة للتحليل النفسي، وقد اشتغلتُ بهذه النظرية على مستويين:
1- على المستوى النظري: عرضتُ هذه النظرية في كتابي الصادر سنة 2019 عن منشورات مجلة الدوحة بعنوان: الأدب والتحليل النفسي؛ مع العلم أني قدّمتُ النظرية في وقتٍ سابقٍ، وذلك في كتابي الصادر بلبنان سنة 2009 بعنوان: الرواية والتحليل النصي.
2- على المستوى التطبيقي: في كتابي الصادر بالمغرب سنة 2018 بعنوان: القصة القصيرة والتحليل النفسي، وضّحتُ في المقدمة كيف استمدّ المحلِّل النفسي جاك لاكان نظريته الجديدة من قصة: الرسالة المسروقة لإدغار ألان بو، وهي نظرية، وإن كانت قد استفادت من لسانيات دو سوسير؛ فإنها أرادت أن توضح أن هناك فكرةً مختلفة عن اللغة الإنسانية في التحليل النفسي لا بد أن تنتبه إليها اللسانيات، وهذه الفكرة المختلفة استمدّها المحلّل النفسي من ذلك العمل القصصي الأدبي.. لكن كتابي يضمُّ كذلك دراسات تطبيقية حاولتُ من خلالها أن أبرهن على أن الأدب يمكنه دائماً أن يغني التحليل النفسي بمفهومات جديدة: في الكتاب دراسةٌ في قصص الكاتبة المغربية ربيعة ريحان تكشف أنه من الممكن أن نستخرج من هذه القصص مفهوم الرواية العائلية النسائية، وأن نفترض أن لها ما يميّزها عن الرواية العائلية كما تناولها سيجموند فرويد؛ وفي دراسة أخرى، أستحضر الكاتب الأرجنتيني المعروف بورخيس: من خلال قصصه، نكتشف أنه يؤسس، ربّما، تحليلاً نفسياً مغايرًا للذي أسّسه معاصره الذي لم يقل عنه ولا كلمة واحدة –يا للغرابة!-: سيجموند فرويد. وكنت قدَّمتُ محاضرةً بجامعة مغربية (منشورة بقناتي على اليوتوب) تحت عنوان: "هل يمكن تطبيق القصص الديني على التحليل النفسي، من عقدة أوديب إلى عقدة قابي" (مع العلم أني نشرتُ دراسة تطبّق المحكيَّ الدينيَّ على التحليل النفسي، وكانت بعنوان: "قراءة نفسانية في قصة النبي يوسف، عقدة الأخوة أولى من عقدة أوديب"، منشورة بمجلة تبيّن، العدد 10، سنة 2014): فإذا أخذنا بعين الاعتبار المكانة الكبيرة والخاصة التي تحتلّها أسطورة أوديب الممسرحة في التحليل النفسي، وخاصة في نموذجه الفرويدي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ماذا لو كان هناك نصٌّ آخر يقول عكس ما يقوله محكي أوديب؟ ماذا لو كان محكي النبي يوسف يقول عكس محكي أوديب؟ ألا يستدعي ذلك أن يعيد التحليل النفسي النظر في مفهوماته وتصوراته وقراءاته؟ وإذا استحضرنا قصة يوسف، فإننا سنلاحظ أنها لا تتأسس على هذا الثالوث: طفل/ أمّ / أب، كما في مسرحية: الملك أوديب (الطفل: أوديب/ الأب: لايوس/ الأمّ: جوكاست)، وأنها تقدم صورة معكوسة عن كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة، وأنها تؤسِّس علاقات مغايرة بين هذه العناصر، ما يسمح بالحديث عن ثالوث جديد مختلف عن الثالوث الأوديبي: طفل: يوسف/ أبوان/ إخوة. وبإيجازٍ شديدٍ، ليس اعتباطاً أن تنتهي سورة يوسف في القرآن بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ} [آية، 111]، فالدرس الذي يمكن استخلاصه من محكي يوسف أهمُّ وأخطرُ وأولى من الدرس الذي يمكن استخراجه من محكي أوديب، ذلك لأننا في مسألة الأخوة أمام عقدة أخطر وأهم في تكوين الذات الإنسانية وبنائها النفسي والاجتماعي، ذلك لأن عقدة الأخوة تسمح لنا بأن نتجاوز التصورَ الفرويدي الذي يركِّز على النمو النفسي - الجنسي القائم على دينامية نفسية داخلية إلى تصورٍ نفسيٍّ، يحاول أن يؤسس تحليلاً نفسياً قادراً على وصف هذا الفضاء العلاقيّ التفاعليّ بين الذوات في فضائها العائلي الاجتماعي المشترك.

وأزعم أن إعادة قراءة الآداب الإنسانية، القديمة والحديثة، يمكن أن تساعد على تطوير مفهوماتنا النقدية والنفسانية، بما يغيِّر من تصوراتنا للآداب الإنسانية التي كانت دوماً تولي عناية خاصة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان. وعقدة الأخوة، أو الأفضل: عقدة قابيل، لم تنلْ بعدُ ما تستحق من التحليل النفسي، على الرغم من هذا الحضور الملحاح للصراع بين الإخوة في العديد من المحكيات من مختلف الأجناس والأنواع. وفي التأليف دائمًا، سلكت طريقًا آخر يسيرُ: نحوَ نقدٍ تدخُّليٍّ: والنقد التدخليُّ نوعٌ من النقد مختلفٌ عن أنواع النقد التقليدية السابقة؛ لأنه لا يسعى إلى بناء معنًى عن نصٍّ ما، أو عن عملٍ ما، بل إنه يتدخّل من أجل تصحيح صورةٍ أو معلومةٍ أو حقيقةٍ. ومن النقاد المؤسِّسين لهذا النوع من النقد الناقد الفرنسي المعاصر بيير بيار، ففي محاضراته وحواراته ودراساته التطبيقية تظهر أهمية هذا النوع من النقد: فقد أصدر سلسلة من المؤلفات تؤسِّس لهذا النوع من النقد، وكان آخر مؤلَّف في شهر نوفمبر 2021 بعنوان: أوديب ليس جانياً: أعاد الناقد التحقيق من جديد، ولفتَ الأنظار إلى إهمال معلوماتٍ مهمّةٍ معرفتُها تجعلنا نعيد النظر في الحكم العام الذي كان يحمِّل مسؤولية القتل لأوديب وحده.. فأوديب ليس مجرمًا، بل كان يتحمّل مصيرًا تراجيدياً أبوه نفسه هو المسؤول عنه: فقد اغتصب الأب لايوس طفلا قاصرًا قبل زواجه، وكان حكم الآلهة أن لايوس سيتزوج وسينجب ابنًا هو الذي سيقتله عقابًا له على جرمه وذنبه!

وفي السنوات الأخيرة، نشرتُ مقالتين، الواحدة تأليف والثانية ترجمة، تحاولان تصحيح صورة عن الناقد الفرنسي رولان بارت الذي غالباً ما يعرفه الكثيرون في المغرب والعالم العربي بوصفه شعريًّا بنيويًّا، مع أن الصورة العامة غير ذلك، فقد كانت لرولان بارت في كتاباته علاقة بالماركسية والوجودية والتحليل النفسي؛ وموضوع مقالتيَّ كان حول علاقته بهذا الأخير: عنوان المقالة الأولى هو: "رولان بارت وخطاب التحليل النفسي" (ترجمة)، تأليف إريك مارتي، مجلة البيت (مجلة بيت الشعر بالمغرب عدد 29، شتاء، 2017)؛ وعنوان الثانية هو: "رولان بارت والتحليل النفسي" (تأليف)، مجلة: علامات (عدد 46، 2016). وإذا كانت المقالة الأولى تكشف علاقة كتابات بارت بالتحليل النفسي عند جاك لاكان؛ فإني حاولتُ أن أوضح من خلال المقالة الثانية كيف أحيى بارت في كتابه: عن راسين وجهًا لفرويد طمسته الدراسات النفسية البيوغرافية التي كانت تركز على علاقة الأدب بحياة صاحبه؛ فإلى بارت يعود الفضل في نفض الغبار عن التحليل النفسي الأنتروبولوجي عند سيجموند فرويد. وفي إطار النقد التدخلي، تندرج مقالتي عن مسرحية هاملت لشكسبير، وهي مقالة بعنوان: مسرحية هاملت، أهو قتلُ الأب أمْ قتلُ الأخ؟ (منشورة بالعدد الأول من مجلة نقد المصرية)؛ فبعد أن لاحظت أن كل الدراسات النفسية تتحدث عن جريمة قتل الأب في هذه المسرحية، تدخلتُ لأوضّح أن الجريمة الأولى والأساس في مسرحية هاملت هي أن الأخ كلاوديوس قتل أخاه هاملت ليستولي على ملكه وزوجته، ومن هنا سؤالي: أيتعلق الأمر بقتل الأب أم بقتل الأخ؟ أيتعلق الأمر بعقدة أوديب أم بعقدة الأخوة؟ وفي إطار هذا النقد التدخليّ، صدر بالمغرب بداية هذه السنة كتابٌ بعنوان: الرواية وشعريّة اليُتْم، محكي اليتيم في الرواية المغربية؛ فبعد أن لاحظتُ أن الرواية بالمغرب، منذ تأسيسها، تتلبّس بمواد وعناصر من السيرة الذاتية، ما يجعلها تبدو كأنها غير قادرة على الاستناد إلى التخييل الخالص، وغير قادرة على الخروج من نطاق الحياة الشخصية للروائي، وكأن الأمر يتعلق بروايات فقيرة الخيال والإبداع... كان تدخّلي بأن افترضتُ بأن الكتابة الروائية التي تأسست حديثاً بالمغرب لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في علاقةٍ باليُتم ومحكيِّـه، وأن الإشكال الذي يؤرق النقاد بخصوص عدم وضوح الانتماء الجنسي للعديد من النصوص السردية المغربية لا يجد تفسيره إلا في علاقةٍ بمحكيِّ اليُتـم الذي يحكمه سؤالٌ أساسٌ هو سؤال الانتساب العائليِّ: هل من المصادفة أن تكون النصوص الأولى: الزاوية (1942) للتهامي الوزاني، وفي الطفولة لعبد المجيد بن جلون، محكيات يتامى مسرودة بضمير المتكلم، بحيث يكون اليتيم هو موضوع الكتابة وذاتها في الآن نفسه؟ هل من المصادفة أن تتميز الكتابة بالمغرب بخرقها للحدود بين الأجناس الأدبية ورفضها الانتماء إلى جنس أدبي محدد؟ هل من المصادفة أن تكون بعض النصوص التجريبية الأولى (على سبيل التمثيل: لعبة النسيان (1987) لمحمد برادة، أوراق (1989) عبدالله العروي..) محكيات يتامى يصعب تحديد انتمائها إلى جنسٍ معيَّن؟ هل بإمكان محكياتٍ مسكونة بقلق الأصل إلا أن تكون منفلتة من ذلك الانتساب الواضح إلى جنسٍ من الأجناس الأدبية، السردية بالأخص؟

 أصدرت كتاب: "الكتابة النسائية العربية" هل توافق على مصطلح "الأدب النسوي"، وأيضاً "النقد النسوي"، وعلى هذه التفرقة الأدبية، ولماذا؟

بالنسبة إلى مفهوم: الكتابة النسائية، فقد سال الكثير من المداد، ويتعلق الأمر، كما يعرف القارئ، بمسألة خلافية، إذ يمكن أن نرصد، على الأقل، ثلاثة مواقف، نوضح من خلالها الموقف الذي نميل إليه: هناك، أولاً، مَــن يرفض استعمال كل مصطلح يستند إلى تصنيف جنسي من مثل: "الأدب النسائي"، "الكتابة النسائية"، "النقد النسائي"؛ لأن ذلك يبطن، في نظر أصحاب هذا الموقف، إيديولوجية ذكورية تمييزية لا يصح العمل بها عندما يتعلق الأمر بشيء اسمه الأدب، فهذا الأخير تحدده معايير جمالية وثقافية، ولا علاقة له بجنس المبدع أو المبدعة. وبعبارة أخرى، فإن أصحاب هذا الموقف الأول يرفضون هذا التصنيف (نسائي / رجالي)، لأنه تصنيف قائم على التمييز والهيمنة؛ لكن الواقع هو أنه في مجتمع ذكوري مثل مجتمعنا العربي، لا يمكن أن يكون إلا الرجل من يصنع اللغات والرموز، وبالتالي فالأدب السائد يخضع لعلاقات الهيمنة القائمة بين الرجل والمرأة، ولا يمكنه أن يتعالى عليها، وأن ينفصل عن الإيديولوجية الذكورية المهيمنة. والسؤال الذي يمكن أن نوجهه إلى هؤلاء هو: أيخضع كل تصنيف للتمييز والهيمنة؟ ألا يمكن أن يعني التصنيف الاعتراف بالآخر، أي المرأة، وبحقّها في الاختلاف؟ وهناك، ثانياً، موقفٌ يَـعتبر كلَّ كتابة صادرة عن امرأة، أو كل كتابة تتناول قضية المرأة، كتابةً نسائية.

وما يؤخذ على هذا الموقف أنه واسع وغير دقيق، إذ يكفي السؤال: إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار كل ما تكتبه المرأة كتابة نسائية؟ وهل يكفي المضمون لكي توصف كتابة ما بأنها نسائية؟ ماذا عن الأشكال الأدبية التي لم تكن المرأة هي مَـن وضعها وقنّـنها؟ هل يمكن التعبير عن هوية المرأة وتجربتها من خلال أشكال ولغات متعلقة ببنيات ذهنية واجتماعية ذكورية؟ وفي الواقع، فهذه الأسئلة هي بالضبط أسئلة الموقف الثالث الذي يحول النقاش من الأحادية والإقصائية إلى التعددية والتعادلية، ويفتح آفاقـًا جديدة وخصبة أمام إشكالية الأدب.

ونحن نميل إلى هذا الموقف الثالث، لأنه يستند إلى فلسفة الاختلاف، معتبرًا أن من حقّ المرأة أن تُــعَــبِّــرَ حقيقةً عن ما تريد أن تعنيه، وأن تقول ما يتعلق بهويتها وتجربتها، التي تختلف جسدياً واجتماعياً وثقافياً ونفسياً ولغوياً عن هوية الرجل وتجربته. وبعبارة أخرى، فبهذا الموقف الثالث يكون من حقّ المرأة أن تحكي تجربتها وشعورها، وأن تنسج رؤيتها للعالم في أشكال فنية تتلاءم مع جسدها ونفسيتها وثقافتها ولغتها، وحتى عندما تتكلم من خلال الأجناس الأدبية المعروفة، فإنها تقوم بذلك بشكل مختلف وبمحتوى مغاير. وأن تكتب المرأة (الرواية، أو القصة القصيرة) بشكلٍ مختلف، أمرٌ ليس بالمستحيل، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن اللغة الإنسانية أغنى مما نعتقد، إذ يمكنها أن تقولَ الرجالَ والنساءَ بشكلٍ مختلف، ولتكن البداية بافتراض أن اللغة الأدبية السائدة هي لغة ذكورية يصنعها الرجل ويراقبها، ومن حقّ المرأة أن تقول وأن تكتب خارج مراقبة الرجل، وبعيدًا عن أشكاله الفنية ورؤاه الحياتية. وبالنسبة إلى التحليل النفسي والكتابة النسائية، يبدو لي أنه بَدلَ أن أنحاز إلى التصور الذي وضعه فرويد بخصوص "الرواية العائلية"، مثلاً، أفضِّل أن أبقى وفياً للأدب - أليس منه يستمد فرويد نفسه تصوراته ونظرياته؟- وأن أنطلق من فكرة المحلّلة النفسانية ماريان هيرش في كتابها الصادر سنة 1989 تحت عنوان: "الأم / البنت: التحليل النفسي والنزعة النسائية": إذ يمكن لنماذج الرواية العائلية أن تتنوع، سواء بالنظر إلى أن الأمر يتعلق بكتّاب وكاتبات، أو سواء بالنظر إلى مراحل التاريخ والتقاليد الثقافية المختلفة. وأهمية هذه الفكرة أنها تقود إلى إعادة النظر في كونية النموذج الفرويدي الذي تنطلق منه الناقدة الفرنسية مارت روبير التي نقلت مفهوم "الرواية العائلية" من التحليل النفسي إلى النقد الأدبي: خاصة وأن هذا النموذج الفرويدي يركز على علاقة الابن بالأم، معتبرًا علاقة البنت بأمها مطابقة للعلاقة الأولى، مع بعض التعديلات الضرورية. لكن هل يصحّ أن نعتبر الرواية العائلية القائمة على العلاقة بين البنت والأب مطابقة للرواية العائلية التي تقوم على علاقة الابن بالأم؟ ألم يوضّح فرويد، في نصوص متأخرة، أن مَهمَّة البنت أصعب من مهمة الابن: ففي مرحلة ما قبل أوديبية، موضوع حبّ الابن والبنت هي الأمّ، ولأن الأمر يتعلق بعلاقة محرَّمة ممنوعة، فعلى الابن أن يعوِّض الأمّ بامرأة أخرى، لكن المَهمَّة أصعب بالنسبة إلى البنت، إذ عليها أن تمرّ إلى مرحلة ثانية تقتضي استبدال الأمّ بالأب، ثم بعد ذلك تستبدل الأب برجلٍ آخر؟ فهل يمكن أن نتحدث، من جهة، عن "رواية عائلية رجالية"، ومن جهة أخرى، عن "رواية عائلية نسائية".

 أيّ مستقبلٍ للنقد العربي؟

بالنسبة إلى مستقبل النقد العربي، لا بد من توضيحين: بدايةً، يبدو أن تركيز النقد العربي المعاصر على النص الأدبي، قد كان، أولاً، بغرض الاستغناء عن ذلك المبدع الذي ليس إلا صورةً وفيةً لما يُــسمَّــى بالخالق الأكبر (مسلمة نقدية بطعم ميتافيزيقي)؟ وكان، ثانياً، بغرض الاستجابة لحاجة واقعية: فما أحوجنا في النقد الأدبي إلى دراسة للنصوص في حدّ ذاتها. لكن لا بد من الاعتراف بأن الامتياز الذي منحه النقد للنص الأدبي في حدّ ذاته جعل هذا النوع من النقد يشكو من النواقص والعيوب، وخاصة بعد أن ساهمت نظرياتٌ وتصوراتٌ ومفهوماتٌ بنيويةٌ شكلانيةٌ في دفع العديد من النقاد إلى معالجة النص بوصفه شيئاً صنمياً Objet fétichique. وأصبح ضرورياً اليوم أن يبتعد النقد عن كل محاولة تسعى إلى تشييء النص، وعن كل محاولة تسعى إلى منحه استقلالية ذاتية، وذلك لأنه من الصعب أن نفكّر في النص الأدبي من دون التفكير في الذات: في الذات التي تصنع النص كما في الذات التي تجعله يدلُّ، فهاتان الذاتان، هما معـــًا، تشتركان في تحمل المسؤولية، مسؤولية ميلاد النص وظهوره بوصفه عملاً فنياً.. والفرضية التي يبدو اليوم من الضروري أن ينطلق منها النقد العربي هي أن يتخلّص من ذلك الوهم الذي جاءت به النظريات الشكلانية والبنيوية: علم الأدب، وأن يقتنع بضرورة تورّط الذات القارئة، ذلك لأنّ العملَ الأدبيّ يتقدم كأنه نقطة لقاءٍ بين ذاتيين: ذاتية المؤلِّف، وذاتية المتلقّي: الشيء الأدبيّ لا قيمة له في غياب أحدٍ ما يتأمله ويستمع إليه ويقرأه، فالقارئ هو الذي يبرّر عمل الأديب ووجوده، مع الوعي بأن العملَ الأدبيَّ هو الذي يحقِّق، عمليًّا وبشكلٍ ملموس، ذلك التركيب بين عمليتين ــ التأليف والتلقي ــ تدخلان في حوارٍ متناغم هو الذي يمنح الوجود للعمل الأدبي، وهو الذي يجعله موجودًا بوصفه عملا أدبيّــــًا.

وهكذا، فالناقد هو هذا الذي عندما ينخرط في قراءة نصٍّ أدبيٍّ معيَّــنٍ، فإنه يعمل، من دواخله وأعماقه استنادًا إلى ما يسمّى في التحليل النفسي بالتحويل الذاتي، على أن يصوغَ لقرائه وللآخرين، معطياتٍ قد تكون غير كافية، لكنها توفر بُـعدًا إضافياً في المعنى يكون قادراً على إغناء النص، ويكون قادرًا على تفسير لماذا نصف هذا النص بأنه عملٌ أدبيٌّ. ومن الواضح أن المسألة الأساس ستبقى هي نفسها دائماً: كيف يكون بإمكان هذا القارئ الذي يقرأ قراءتي النقدية أن يَعتبر صالحــًا تأويليَ الذي أقدّمه على أنه نموذجيٌّ، مع العلم أنه تأويلٌ ناتجٌ عن انخراطٍ لذاتي التي مارست تحويلا ذاتياً، والتي لا تستمدُّ السلطة إلا من ذاتها من أجل أن تؤكد بأنني قارئ ناقدٌ مؤهَّــلٌ؟ وبالنسبة إلى التحليل النفسي للأدب الذي أشتغل به، يبقى هذا الافتراض: أن المحلِّــل النفسي هو نفسه لا يملك حقيقةَ كلِّ ما يجري، لكن الشرطَ الجوهريَّ في عمله هو هذه الذاتية الشاملة التي يمكنه بلوغها كلما أحسن لاوعيُــه الإنصاتَ إلى ذلك اللاوعي الآخر، فهو لن يكون محللاً نفسيًّا للنصّ الأدبيّ إلا إذا عرف كيف يكتب هو نفسه ما يشعر به بطريقة تؤدي إلى تحفيز أو انخراط تلك الروح السِّرِّية عند القارئ؛ ومن أجل ذلك، فإنه من المفروض فيه أن ينخرطَ، أثناء القراءة، انخراطــًا كليا، أي بكلِّ ذاتيته، بكلِّ قدراته، بكلِّ طاقاته، بكلِّ لاوعيه، بغرض أن يُـحسنَ الإنصات إلى النص الأدبي، إلى ما فيه من هذا الشيء الذي لا يُــقال le non-dit، ومن هذا الشيء الذي لا يَــقبل الوصف l’indicible.

ومن جهةٍ ثانية؛ وأمام التحولات الكبرى التي يعرفها العالَم الإنساني في الوقت الراهن، وأمام الأوبئة والأزمات التي تهدّد اليوم الإنسان في حياته ووجوده، يكون من الضروري أن نعود إلى إثارة السؤال الكلاسيكي: ما الأدب؟ ما النقد الأدبي؟ ألا يمكن للأدب/ النقد الأدبي أن يساعد الإنسان على إعادة بناء مجتمع إنسانيّ، مُوحَّدٍ ومتضامن، قادرٍ على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل؟ ألا يمكن للأدب/ النقد أن يكون وسيلة ناجعة في ظلّ الوباء الذي يهدّد الوجود الإنساني في الوقت الراهن؟ ألا ينبغي لنا أن ننتقل من تصور مغلقٍ إلى تصورٍ مفتوح للأدب/ النقد الأدبي.

فنحن لسنا في عصر موت الأدب أو موت النقد الأدبي، كما يدّعي البعض، بل نحن أمام تحولٍ أساسٍ: ماتت تلك الفكرة المثالية عن الأدب اللازم غير المتعدّي (اللازم والمتعدّي هنا مصطلحان نستعيرهما من النحاة العرب القدامى) المطلوب في حدّ ذاته، والذي لا يتعدّى عالَمه إلى خارج حدوده؛ ذلك لأن للجمال نفعيته، وللجميل علاقاته ضمن علاقات سياسية وسوسيوثقافية أخرى، وللأديب هويته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وللعمل الأدبي وظيفته التداولية، وللأدب سياسته كما أن للسياسة أدبها.. ومن المفروض اليوم أن يكون هناك تحوّلٌ معرفيٌّ ومنهجيٌّ وأخلاقيٌّ: لا بدّ من التفكير في شعريةٍ تداوليةٍ تؤسِّس لتصورٍ جماليٍّ للأدب/ للنقد يتحرّر من تصوّر الشعريّة التقليدية الشكلانيّ المنغلق.. وأمام التحديات التي يواجهها المجتمع الإنساني اليوم وغداً، من الضروري أن نفكّر لا في الوظيفة الشعرية للأدب/ للنقد فحسب، بل من الضروريِّ أن نفكّر في وظيفته التداولية أيضاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها