"من أجل زيكو"... معزوفة شجيّة من أجل البسطاء

طارق إبراهيم حسان


نجح المخرج بيتر ميمي في تقديم كوميديا مختلفة وغير مألوفة في واحد من أحدث أفلامه الروائية "من أجل زيكو" 2022، فقد كشف عن مناطق ثرية تمتزج فيها الابتسامة بالشجن، واستعرض حالة البؤس والفقر والعدم لأسرة تعيش على أمل وحلم نبوغ طفلها الصغير. ومن خلال مجاورة ما هو تراجيدي مؤثّر مع ما هو كوميدي مُبهِج؛ تولدت ضحكات حقيقية نتيجة لما تمرّ به الشخصيات من مفارقات درامية، كما تولد الشجن تأثرًا بأحوال البسطاء وما يمرون به من مواقف حياتية من خلال رحلة يقومون بها إلى واحة سيوة الواقعة في الصحراء الغربية، وذلك من أجل طفلهم الصغير بحثاً عن فرحة، وبحثًا عن وجود لذواتهم.

يدور الفيلم حول فتحي (كريم محمود عبد العزيز) الذي يعمل سائقًا على عربة لنقل الموتى، ويعول أسرة مكونة من زوجة، وابن، وأخ، وأب مُسن، يعيشون معًا حياة بائسة، حيث المسكن الصغير وقلة الدخل، لكن فرحة عارمة تسيطر على أفراد الأسرة نتيجة اختيار ابنهم الصغير ضمن أذكى ثلاثة أطفال، ولم يتبق سوى التصفية النهائية للمسابقة لاختيار أذكى طفل في مصر وتعقد المسابقة في واحة سيوة (750 كم من القاهرة).

يسافر الجميع بعربة نقل الموتى، وفي الطريق يواجهون العديد من المصاعب ويتعرضون لعدة أزمات، حيث تقودهم الأحداث إلى كثير من المواقف التي تثير الشجن كما تثير الضحك، إذ يعتمد الفيلم على المفارقات الدرامية التي تدعو إلى الضحك تارة، وإلى الحزن تارة أخرى، فتختلط الابتسامات بالشجن على حال عائلة مصرية يعاني أفرادها الفقر والتشرد وقهر الظروف الاجتماعية.

الرسالة والمحور الرئيس

بعد الوصول إلى سيوة تكتشف الأسرة أن زيكو (يوسف صلاح) ليس هو الطفل المقصود وأن اختياره تم بالخطأ، فهو ليس ضمن العباقرة الثلاثة، ومع ذلك سمحت له اللجنة بالمشاركة لكنه لم يوفّق في المسابقة التي تحتاج إلى عباقرة حقيقيين، وأن ابنهم ليس كالطفلين الآخرين، لكنه يتميز بموهبة الغناء. وحين أخذ الفرصة وفعل ما يحب وهو الغناء؛ نجح وأدهش الجميع وحاز الاهتمام. هذه هي الفكرة الرئيسة التي تتمحور حولها الأحداث، والرسالة التي أراد الفيلم أن يبلّغها، فالطفل ابن القاع الاجتماعي لا يستطيع مجاراة أبناء الطبقة العليا من حيث التربية الراقية، والتعلم الذي يختلف بحسب الطبقة الاجتماعية، وطبيعة عمل الآباء... إلخ. لكن تتوفر لديه موهبة لا تتوفر عند الآخرين كموهبة الغناء التي تجلت في النهاية عند زيكو الذي يتمتع بصوت رخيم وحضور طاغ.

الغريب أن أغنية "الغزالة رايقة" التي غناها زيكو في المسابقة وحازت اهتمام الصحافة والإعلام، وحققت له ذيوعًا كبيرًا وساهمت في نقل الأسرة إلى سطح المجتمع؛ حققت على أرض الواقع ذيوعًا حقيقيًا لصاحبها الأصلي الطفل محمد أسامة الذي لم يكن معروفاً لأحد من قبل، فقد اجتاحت الأغنية التريند في مصر والوطن العربي وحصدت ملايين المشاهدات على اليوتيوب، وانتشرت أخباره على السوشيال ميديا، فهي الأغنية الأكثر شعبية في الشارع المصري والتريند الأول عند عرض الفيلم. وكانت للأغنية في نهاية الأحداث أكثر من دلالة وأكثر من تأثير على المشاهدين.

جاءت المشاهد الأولى معبرة عن الأحداث بشكل جاد، فالفيلم يبدأ بمشهدين متتاليين تركز الأول حول فتحي، من حيث طبيعة العمل والحالة المادية وعلاقته بصاحب السيارة البخيل وجاء تمهيداً وإرهاصاً لما سيحدث لاحقاً، حيث يضطر فتحي لأخذ السيارة والسفر بها. ويكشف المشهد التالي عن مشاجرة خفيفة بين أطفال الحارة الشعبية يكون زيكو أحد طرفيها، وهو مشهد تمهيدي للتركيز حول الطفل الذي ستتمحور حوله الأحداث، فيكشف المشهد عن سذاجة الطفل ويبيّن أنه طفل عادي وليس عبقريًا، حتى إن الحوار الذي دار بين الأب والأم فتحي وصفاء (منة شلبي) يؤكد ذلك، فقد جاء بالديالوج: (ابننا مش عبقري، إحنا عارفين إنه طفل عادي.. زينا كده)، غير أن الأسرة تشبثت بالحلم بحثاً عن فرحة طالما حرمت منها. وبيّن الفيلم حالة الرضا والبساطة التي يقنعون بها، رغم الحياة البائسة التي يعيشونها، فهم يستمتعون بأمور عادية في حياتهم كغذاء جماعي أو بطيخة يلتفون حولها وأغنية رقيقة ترتبط في أذهانهم بذكرى قديمة وحنين إلى الماضي الجميل، كما كشفت الأحداث عن رغبة عارمة وحقيقية في الحياة والتحقق والتشبث بالأمل والحلم حتى وإن كان مستحيلا، لذلك كان إصرار الأب على مواصلة الرحلة رغم المصاعب التي صادفتهم.

صور مسطحة وثنائيات غائبة

كشفت الأحداث أن الفيلم لا يكترث بأزمات وثنائيات الفقر والغِنى، وتميز بعدم طرح أي شكل من أشكال الصراع بين الفقراء وطبقة الأثرياء كما نلحظ في كثير من الأفلام التي تقوم على هذه الثيمة، فهذه ليست القضية، بل عمد الفيلم إلى رصد صورة مسطحة عن علاقة كل فريق بالآخر، إلا أن تناول طبيعة الحياة التي تعيشها أسرة زيكو جاء عميقاً من مختلف الجوانب، فكشفت الأحداث عن بؤس شديد يعيشونه في مقابل حياة رغدة يحياها الآخرون، وجاء على لسان الجد خميس (محمد محمود) رداً على محاولة حرمان دخول زيكو المسابقة (إحنا أسرة بائسة ونفسنا نفرح)، تعبيراً عن حالة الرضا التي يعيشونها والبحث عن فرحة حقيقية تتمثل في مستقبل الطفل في ظل ظروف حياتية صعبة، لذلك فإن الفيلم يتناول أحوال البسطاء وينتصر لهم في النهاية. فقد نجح في أن يعرض صورًا إنسانية عن حياة القاع الاجتماعي، ساعد على إبرازها تجاورها مع صور الثراء الباذخ لكثير من الأثرياء الذين ظهروا في الفيلم، دون صدامات أو صراعات درامية بين أبناء الطبقتين، بل جاءت المواجهات بينهما في إطار كوميدي تهكمي.

جاء مشهد بكاء منة شلبي تعبيرًا عن صدمتها في عدم إمكانية مشاركة طفلها في المسابقة مثاليًا ومقنعاً بدرجة كبيرة، فقد ركزت على تعبيرات الوجه وتصاعدت درجة التقمص في الأداء تدريجياً، حتى وصلت لذروتها عند البكاء، مما يُشعِر المشاهد بصدق الحالة الشعورية والتوحّد مع شخصية صفاء التي أجادت التعبير عنها بعمق في معظم المشاهد، أما محمد محمود فيعتبر أداؤه لشخصية خميس من أهم الأدوار التي قدمها للسينما، فقد استطاع أن يقنع المشاهد بشخصية الرجل المسن المصاب بالزهايمر، الفقير المطحون ابن القاع الاجتماعي، وجاءت تعليقاته والمشاهد الكوميدية التي أدّاها علامة أخرى تضاف له ولتاريخه الفني كأحد الكومديانات الكبيرة في السينما المصرية الحديثة.

أشار الفيلم إلى كثير من الدلالات في حياة البسطاء وعلاقاتهم سواء فيما بينهم أو مع الآخرين، وسعى الفيلم لإبراز حال الأسرة وكمّ الضغوط الواقعة على الأب، الذي يعول أسرته ولديه أخ عاطل (محمود حافظ)، وأب مُسن. وكانت فكرة الحفل التنكري الذي شاركت به الأسرة بالصدفة فكرة جيدة للمساواة وتسطيح الأمور، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين أصحاف الملابس الفاخرة وأصحاب الملابس البالية، ففي حفل التنكر الجميع سواء. ورغم المظهر البائس لأسرة زيكو ظنّ صاحب الحفل (دياب) أنهم أحسنوا التنكر.

فكرة الحفل التنكري

حمل الفيلم عديداً من مشاهد التهكّم على حيوات طبقة الأثرياء والسفه الذي يعيش فيه بعضهم، من أجل التأثير على المشاهد وجعله أكثر تعاطفًا مع أسرة زيكو الفقيرة، ما أدى إلى مزيد من المفارقات الدرامية، فالأسرة تُعاني صعوبة الوصول إلى مكان المسابقة من أجل أمل ورجاء في فرحة قد تكون بعيدة المنال، وهؤلاء يغيبون بعقولهم خلف ثراء فاحش وأفكار على درجة من السطحية، ويعيشون أزمة الخواء الفكري والإنساني، وليس هناك أبلغ من المشهد الذي جمع بين كريم محمود عبد العزيز، ودياب للتدليل على ذلك، وما ذكره دياب صاحب الحفل التنكري بأنه يفكر في عمل مزرعة أرانب يمارس فيها الصيد بمعية أصحابه.

وجاءت ملابس التنكر من قبل المشاركين بالحفل مبالغاً فيها، فهذه تضع في رأسها سكيناً زائفاً، وهؤلاء يخفون رؤوسهم وكأنهم من عالم آخر... عالم سفلي، لا تشعر كائناته بما يشعر به هؤلاء المطحونون من البشر الفقراء، ولا تجد الأسرة من يعينها في هذه الصحراء الجدباء التي تعكس صحراء الفقر والعوز، إلا مجموعة من الشباب الباحثين الذين يخيمون في معسكرهم، دلالة على أهمية العلم والمعرفة وإيمانًا بالشباب ودورهم. فقد رفض الجميع مساعدة عائلة زيكو حتى صاحب سيارة نقل الموتى التي يعمل عليها فتحي، فقد قام بالإبلاغ عن السيارة باعتبارها مسروقة على عكس الحقيقة.
 

"الغزالة رايقة"... الأغنية التريند

نجح مصطفى حمدي مؤلف الفيلم في صياغة سيناريو محكم وكتابة حوار شفهي معبّر عن الشخصيات وآفاق تفكيرها وثقافتها، كما جاء الحوار مكثفًا وبعيدًا عن الثرثرة والملل الذي يسببهما الحوار الطويل غير المجدي، ساعد على بروز هذا التركيز مقاطع الموسيقى التصويرية التي تخللت الفيلم والتي وضعها خالد الكمار، من جهة، والأغنيات الشعبية الإنسانية التي غناها أحمد سعد وعبد الباسط حمودة من جهة أخرى، والتي جاءت معبرة عن الأحداث، فضلًا عن الأغنية الترويجية "الغزالة رايقة" التي جاءت في نهاية الفيلم. واستطاع مدير التصوير حسين عسر أن ينقل بالكاميرا إحساس الشخصيات وتعبيراتها في ظروف مختلفة، خاصة المآزق التي صادفتهم، مستعينًا بمؤثرات الضوء في وصف الأمكنة التي مروا بها وكانت لها خصوصية على مستوى طبيعة المكان أو الزمن، مثل مشهد تعطُّل السيارة في الصحراء، أو مشهد كمين الشرطة، أو في تصوير مخيم مجموعة الباحثين في الليل، كما استطاع أن ينقل بالكاميرا حالة مسكن الأسرة بتفاصيله المختلفة التي وضعها مهندس الديكور أحمد فايز الذي لم يبالغ في مكوناتها الدالة عن البيئة الشعبية الفقيرة ماديًا وثقافيًا، أكدت على ذلك ملابس الشخصيات التي وضعتها مادونا علي وعبرت عن طبيعة الشخصيات.

شارك بالفيلم عديد من الفنانين كضيوف شرف منهم إسعاد يونس التي قامت بدور مديرة المسابقة، وعمرو عبد الجليل الذي قدم دور قاطع الطريق، وسليمان عيد في دور السائق، وكانت أدوارهم مؤثرة ولم يكن وجودهم مجرد ظهور خاص، لاسيما عمرو عبد الجليل الذي أضفى ظهوره حالة خاصة من البهجة.

لم يقتبس مؤلف فيلم "من أجل زيكو" الأحداث من الفيلم الأمريكي Little Miss Sunshine "ملكة جمال الطفولة المشرقة"، سوى فكرة سفر العائلة لمشاركة الابنة الصغيرة في مسابقة ملكة جمال خاصة بالأطفال، حيث جرى تمصير العمل بالكامل وتمت إضافة العديد من الخيوط الدرامية الخاصة بالبيئة المصرية، وبالتالي جرى استبدال كافة الأحداث في الفيلم الأمريكي بأخرى مصرية.

يذكر أن المخرج بيتر ميمي قدم فيلمين قصيرين هما "يوم سعيد جدا"، و"اتجاه واحد" في عامي 2008، و2009 على التوالي، بعدها قدم للسينما الروائية الطويلة 11 فيلمًا، بدأها بـ "سبوبة" 2012، ثم "سعيد كلاكيت" 2014، و"برد الشتا" 2015، إضافة إلى أفلامه الشهيرة "حرب كرموز"، و"كازابلانكا"، و"موسى"، كما أخرج للدراما التلفزيونية العديد من الأعمال مثل "كلبش"، و"الاختيار" في أجزائهما الثلاثة، ومسلسل "الأب الروحي" من بطولة محمود حميدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها