الفَيضُ الشّعري وتخييل العلامات الثقافية

ديوان ''فكرة النهر'' نموذجاً

إبراهيم الكراوي


تستهدف هذه الورقة الحفر في الأنساق الشعرية المرتبطة بتشاكلات الماء والشعر من خلال ديوان ''فكرة النهر''، للشاعر والروائي والباحث المغربي حسن نجمي.
 

من المعلوم أن تيمة الماء شكلت محور مجموعة من الدراسات الموضوعاتية منها والشعرية. فغاستون باشلار تتبع هذه التيمة ومختلف تمثلاتها من زاوية الخيال، وبناء الصورة الشعرية، فضلاً عن علائقها المتباينة مع تيمات أخرى تحضر في القصيدة الشعرية الغربية. أما بالنسبة للشعرية بمختلف اتجاهاتها، فلم تدخر جهداً في البحث في السمات النوعية التي تنسج جماليات الخطاب الشعري، انطلاقاً من تمثل صورة الماء، ومختلف أنساقها وسياقاتها في سياق مجموعة من الدراسات النقدية.
 

ويمكننا أن نكشف عن تمثلات أخرى تحاول في الوقت نفسه، أن تجمع بين تتبع الموضوعة والخصائص الداخلية المولدة للقصيدة الشعرية في الديوان، بعيداً عن الانتقائية والتوفيقية. سنحاول إذن مزج التصورين معاً في بوتقة واحدة؛ لكي يَتَأتى لنا البحث في شكل المعنى المتجلي، من خلال البحث في الشكل ''النهر''، و"المادة'' الماء والأنساق الدالة التي تنتظم صورة الماء وسياقاته التداولية.

ينحت العنوان أفقاً تخييلياً يستمد جوهره من تقاطعات المفارقة المولدة لأنساق المعنى المرتبط بالعلامة "النهر"، والمكون اللفظي ''فكرة''. ففعل التفكير المسند إلى النهر يُمثل جوهر المفارقة المنطقية من جهة، ومبدأ تنظيم الخطاب الشعري من جهة أخرى، فضلاً عن تمظهره بوصفه سيمياء كونية بتعبير لوتمان تؤشر إلى حركية وسؤال يوقظ هاجس المعرفة، وتمطيطاً للرحم النصي للعلامة الثقافية ''النهر'' .

بيد أن تأمل العتبات النصية يفضي بنا إلى ربط الأنساق التي تنتظم العلامة النووية ''النهر'' بالذات. لتنضم العلامة إلى براديغم العلامات المرتبطة بالتأمل والنهر، من حيث كونه تجربة ذاتية، ''تجربة ألم''، و''فيض شعري'' -إذا قمنا بتعديل عنوان كتاب دافيد لوبورطون من التعريف إلى التنكير– تأتي كاشفة للتجسس على أنساق المعنى الناظمة للنصوص الشعرية.

يكشف كلاً من خطابي البداية والنهاية للقصيدة المُشَكِّلة للديوان، حركية تضعنا بين العلامة المتمثلة في صورة النهر كما يتم إدراكها من طرف الذات، وانطلاقاً من فضاء الشرفة المنفتح، وبين النهر الذي يلتبس بالذات الشعرية ويتوغل في الأعماق، كما يتجلى من خلال حضور الصوت /الإيقاع في مجموع التجربة الشعرية (أسمع خرير الماء/ حفرت له أخدوداً داخلي ..). ومن ثم، تنكشف لنا بنية التوتر بين البداية والنهاية، وبين الخارج والداخل..

بالإضافة إلى بنية التوتر بين البداية والنهاية (الخارج: النهر والداخل/ ذات الشاعر) يحضر التماثل بين فعل الكتابة الشعرية، وبين المقومات السياقية للمكون اللفظي ذاته ''النهر'' (الانسياب، الحركة، التدفق، الصوت، الألم)، بوصفه مظهراً تصويرياً يتشكل من خلاله الخطاب كاشفاً شروط نقل الدلالة عبر وسائط العلامات. فبعد أن تنفجر أنساق المعنى في المقطع الشعري الأخير من الديوان، ينكشف البعد المُنتح للنص بوصفه مساءلة لحدود المعنى، وإعادة تأمل في نصوص ذاكرة الماء. فالنص الشعري يرفض أن يستنفد معناه، بل يتجدد كما يتجدد النهر ذاته ويتداخل مع البحر والبحيرة، وبالتالي تسائل القصيدة حدودها اللانهائية كما الأمر بالنسبة للنهر الذي ينفتح على الأكوان بل يتداخل معها:
يحلم بسرير رمل/ بالزبد/ بمداعبات الموج.... [ص: 108].

تهدم القصيدة المعنى الخطي الأفقي لتعيد النظر في محمولات العلامة الشعرية، وبالتالي إعادة بناء المعنى المتجدد بتجدد ماء النهر ذاته، انطلاقاً من ثنائية الحضور والغياب، مما يكشف التوازي بين الرحم النص ''النهر''، وبين فعل تشكل القصيدة.

يمثل الفعل ''نسيت'' آخر كلمة توقع لخطاب النهاية وعلامة من علامات الحضور والغياب. فالنهر بوصفه علامة تدل على الحاضر الذي يستدعي صورة غائبة أو مجموعة صور، تحيل على أكوان متعددة يمكن أن نعثر عليها من خلال تمثل الذاكرة التي تقاوم النسيان.

يستجيب النهر إذن، لصوت داخلي كما يستجيب لأصوات بعيدة في الذاكرة، فننتقل من المقوم الشعري إلى المقوم السردي للنهر، كما نستشف من خلال بينة الأفعال ذاتها واستعادة الذاكرة/الجريحة الغائب، بما فيها النص الغائب الذي يؤشر على التفاعل النصي.

يحفر النهر أخدوداً ويترك أثراً على الذات، كما نستشف من خلال مكون سرد ذاكرة النهر التي تخترقها أنساق يتقاطع فيها السياسي بالتاريخي بالثقافي والفكري والشعري، كما يظهر لنا من خلال اقتباس مقطع سركون بوصفه جزءاً من هذه الذاكرة التي تعبر وتتدفق، كما يتدفق القول الشعر، بداية من المقطع ومروراً عبر تشكيل يحتفي بالبياض [ص: 108] (الذي يفترض منا كمتلقين ملأه بالمدلول)، ونظام السطر الشعري [ص: 152]؛ لتُخلف هذه المنعرجات في الذاكرة جرحاً يتوغل في أعماق الذاكرة كاشفاً تشاكل النهر-ونظرية الفيض الشعري، بحيث يمثل النهر/ الماء العلامة المولدة للعالم، من حيث هو بناء ثقافي يحفز على الحياة.

فحضور النهر يترسخ عبر تراكم مجموعة من الوحدات الحشوية تقود إلى استخلاص تشاكلين: الأول نسميه تشاكل الماء/ الذاكرة (كشهيد فجعنا الموت صرخة، خيط دم، شهداء العائلة، سبائك من رصاص، أشباح الموتى جثامين..). بيد أن فضاء النهر يتحول عبر التمطيط إلى ذاكرة تؤرخ لأنساق مُضْمرة يَحملها النهر بوصفه بناء ثقافياً حاملاً لصورة الحياة مستحضراً الطابع الاثني لضفافه، وطقوس الرحيل .. فتَتشكل الذاكرة من خلال الماء في حركيته وانسابيته، وروافده المتنوعة التي يتقاطع فيها الاجتماعي بالتاريخي بالذاتي والثقافي. (نائماً في تاريخ الماء والليل) [ص: 75]. وأما التشاكل الثاني فيمكن أن نسميه تشاكل الماء/ الشعر (كسطر قصيدة، كسطر حر في القصيدة، كسطر يلمع كقصيدة في نظرة شاعر تمر كسطر، هبة في ليل القصيدة، صورته في رأسي، رائحة قصيدة، نبع الكلمات، انصت لهسيس الفراش / وفي المجاز رسائل تحملها..).

يظهر التماثل الكلاسيكي بين العمق الإنساني والماء/النهر، بوصفهما جرحاً وألماً وجوديين، بيد أن اقتحام ذاكرة الموت لهذه المعادلة يشتغل كتضعيف لدوال الخطاب الشعري، فهو أيضاً فضاء الموت والحياة.

يتحول النص الشعري إلى سيرورة شعرية تستعيد ذاكرة النهر كما تبين لنا من خلال المؤشر اللفظي ''نسيت''، وموقعه المتأخر ضمن السطر الشعري. فالنهر تجربة مثخنة بالألم تخترق كل الحدود وتنسف ميتافيزيقا المكان، يتقاطع فيها الفردي بالجماعي، الداخل بالخارج، ويتحول النص نفسه إلى مساءلة للحدود وللكون. فالنهر بوصفه صورة ومادة للخيال مثله مثل الشعر الذي يتموقع بين الحاضر والماضي، الهدم والبناء، لا يقف سوى عند حدود النسيان ليعيد بناء الذاكرة، وليترك أفقاً مفتوحاً لمعنى وجودي يحمله خبر كان (الجملة الفعلية نسيت).

يؤشر الفعل الماضي الناقص ''كان'' إلى الذاكرة/ النهر بما هي استعادة غير مكتملة، ووقوف القصيدة عند حدود اللانهاية، بما أن الذاكرة لا يمكن أن تقول كل شيء. فينتقل النسيان من تجليه البيولوجي الإنساني إلى تجليه بوصفه بناء ثقافياً يقترن بالصمت، لحظة تأمل وولادة في رحم الماء/النهر. الصمت الرمزي الذي "يمزق حدود الإنسان ويجعله يواجه فكراً مستبقاً للموت؛ إنه يقبض على العزلة ويذكر بالموت"، دافيد لوبور طون تجربة الألم [ص: 33]. فالنهر هنا تجربة ذاتية، وفيض شعري يحمل الذات إلى تأمل في الوجود وأصل الموجودات.

يقولون إنني حي –ولا يعترفون بأوجاعي- قد لا أصل إلى مصب؛ لتوقع القصيدة نسق النهاية التي حللنا أبعادها:
نهر يصب ماء في نهر
لقد حفرت له أخدوداً داخلي
وإن كنت نسيت
[ص: 152]

يمثل العمق أحد الصور السيمية المرتبطة بالنهر، الذاكرة والذاتي والشعري، كما يظهر من خلال الخطاب المضمر متجلياً في الصورة الحضارية للنهر من حيث تشكله الثقافي، وإحالته إلى الحياة التي تتشكل بموازاة تشكل القصيدة. بيد أنه لا يمكن قراءة العمق بدون استحضار السطح، الداخل والخارج كما تكشف بنية التوتر بين الدال والمدلول. وهو "العالم الخارجي الذي يجد الكائن االشعري.. نفسه منغمساً داخله" [يوري لوتمان سيمياء الكون، ص: 40]، يُضاف إلى ذلك الكلمة النووية ''الضفاف''، التي تشتغل بوصفها علامة ثقافية تؤشر إلى طقوس الحب والحياة، كما نستشف من خلال تكرارها داخل الخطاب الشعري.

وإذا كان المكون اللفظي السياقي ''الضفاف'' يستدعي أبنية ثقافية، ترتبط بطقوس وممارسات إنسانية على ضفة النهر وأنساق حضارية [ص: 69/70]؛ فإنه يمثل تضعيفاً للدوال كما يمكن أن نستشف من خلال استدعائه ثنائيات وجودية تكشف صورة الحياة. وهكذا لا نعدم مقومات سياقية تحيل على ثنائية التراب والهواء من جهة، والماء الضوء من جهة أخرى. والفيض الشعري يأتي كاشفاً للنهر من حيث تشكله بوصفه الحياة، كما يتجلى من خلال حضور العناصر الأربعة التي يتشكل منها مانحاً هبة الحياة للكون، وللقصيدة التي تحاكي النهر كما سبقت الإشارة، كما يتجلى من خلال صورة ''الحياة'' بكل مقوماتها السياقية، التي تقود إلى شعرية الذاكرة التي يتمثلها النهر.

لتتكئ على لون التراب [ص: 15].

ثمة ممرات متربة

تنحدر منها أشباح الموتى لتشرب [ص: 40]

وحده يشعر بعزلة الهواء [ص: 115]

 نهر بين المنعرجات

كضوء فضي خفيف [ص: 117]

بيد أن الطاقة الدلالية والجمالية لهذه الثنائيات لا تتركز على صعيد بناء المعنى فقط، بل أيضاً على صعيد تشكيل شكل المعنى وانفلاته من حدود الفضاء. فكل من التراب والهواء يتجليان بوصفهما حاملين لمقومات سياقية ترتبط بالأرض/ الذاكرة انطلاقاً من علاقة هذه النويات لدلالة بنويات لا حقة ومتكررة (الدم، الشهيد، ما لم يقله..)، مما يكشف بالدرجة الأولى ''أثر الواقع'' المرتبط بامتداد النهر داخل حياة ما بعد الموت وتشكله الكوني بوصفه الرحم الوجودي والحضاري للعالم، ومن ثم يلاحظ نمو الفعل الشعري بدءاً من خطاب البداية، وهو النمو الذي ينكشف من خلال فعل تمطيط الرحم النصي ''النهر''، بكل ما تحمله المقومات السياقية من آثار تساهم في تشكلات الخطاب الشعري.

هكذا يتشكل الخطاب الشعري من خلال نظام أنساق العلامات، وتشاكل كل من الذاكرة/ النهر وما أسميناه بـ''الفيض الشعري'' من جهة، ومن خلال التباين كما يكشف عن ذلك الموت والحياة، وبنيات التوتر بين الداخل والخارج، السطح والعمق، وهو ما قادنا إلى استكشاف علامات مضمرة في الخطاب الشعري في الديوان ترتبط بأبنية وأنساق ثقافية وحضارية يجسدها النهر؛ ولذا تحاكي القصيدة إيقاعات النهر بوصفه صورة تنتظم داخلها علامات الكون، وتمثيلاً ''للفيض الشعري'' الكاشف لصورة وأصل الحياة وعلة تشكلها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها