جدلُ النحو والمنطق في التُّراث العربي

مناظرة السيرافي وابن متّى نموذجاً

د. الخامس مفيد

شغلت علاقة النحو والمنطق بالعديد من الفلاسفة والنحاة والمناطقة، وقد تجلى جدل هذه العلاقة من خلال المناظرة الشهيرة بين النحوي السيرافي والمنطقي ابن متى في مجلس الوزير الفضل بن جعفر والتي انتهت بهزيمة متى. وقد تركت هذه المناظرة نتائج متباينة، حيث ذهب السيرافي إلى أن المنطق متعدد بتعدد اللغات، وبهذا فهو يرى أن معرفة الصحيح من الفاسد والشك من اليقين يأتي بالنحو، أما ابن متى فيرى أن تمييز الصالح من الفاسد يأتي بالمنطق ولا دخل للنحو في ذلك؛ لأن النحوي في نظره لا يمكنه أن يتجاوز الألفاظ ولا دخل له في المعاني. وبعد فترة من الزمن والجدل جاء الفارابي من خلال كتابه الحروف، وأجاب عن الأسئلة التي كان يطرحها السيرافي عن ابن متى، معتبراً أن لكل علم من هذه العلوم موضوعه الخاص.

 

النحو والمنطق من خلال مناظرة السيرافي وابن متى

جرت مناظرة السيرافي وبن متى في مجلس الفضل بن جعفر سنة 326ه، وبحضور جماعة من الأدباء والنقاد والشعراء وكبار القوم1، وأجبر السيرافي من بين آخرين على مناظرة ابن متى، فالأول فقيه ونحوي والثاني عالم بالمنطق الأرسطي، والجدل بينهما سيتركز حول علاقة النحو بالمنطق، بمعنى آخر النقاش سيكون حول علاقة الفكر بالنحو، بدليل أن المنطق يمثل الفكر، وفي هذا السياق يقول ابن متى معرفاً المنطق: "لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق2". يستفاد من كلام ابن متى أن السبيل الوحيد إلى المعرفة هو المنطق، أي الفكر، لكن هذا لا يروق فكر السيرافي، فيقول: "معرفة صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف3". يبدو أن السيرافي ينظر إلى أن المعرفة وصحيح الكلام من فاسده يحددها النحو وليس المنطق كما ذهب إلى ذلك ابن متى، فمرافعته كانت مركزة على نقطة أساسية تتعلق بتأكيد المضمون المنطقي للنحو العربي، وبالتالي، إبطال ادعاء المناطقة بأن النحو شيء والمنطق شيء آخر، فالأول يبحث في اللفظ والثاني يبحث في المعنى، ولتأكيد منطقية النحو العربي، يقول السيرافي: "النحو منطق مسلوخ من العربية والمنطق نحو العربية4". معنى كلام السيرافي أن لكل لغة منطقها الخاص بها، ولا يمكن تطبيق المنطق اليوناني على المنطق العربي، بصيغة أخرى، فهو يرى أن الفكر متعدد بتعدد اللغات، فالفكر العربي تمثله اللغة العربية، والفكر اليوناني تمثله اللغة اليونانية، وبهذا يكون السيرافي قد أنكر وحدة الفكر وتعدد اللغات الواردة في الفلسفة اليونانية مع أفلاطون، ويؤكد هذا الكلام ما ورد في المناظرة حيث يقول: "إذا كان المنطق وضعه رجل من اليونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم5"، ويدقق موقفه الرامي إلى الإيمان بتعدد الفكر والعقول، قائلاً: "الناس عقولهم مختلفة6".

ويواصل السيرافي هجومه على ابن متى في معقله، حيث سأله عن بعض الظواهر النحوية التي ينظر إليه بمنظار المناطقة، يتعلق الأمر بحرف "الواو" ومعانيه النحوية، ثم الصيغ التي يجوز فيها استعمال "أفعل" للتفضيل، فمتى لا يرى أي فرق منطقي بين الجملتين التاليتين:
أ. زيد أفضل الإخوة
ب. زيد أفضل إخوته

فمتى يفهم "الإضافة" كمقولة منطقية، أما السيرافي، فيميز بين القولين، فالبنية (أ) فاسدة لأنه يفهم الإضافة فهماً آخر، فمتى فهم المعنى المنطقي لمقولة الإضافة في مفهوم الأخوة، أما السيرافي يفهم منها معنى النسبة، أي نسبة زيد إلى إخوته وجعله واحداً منهم7.

لقد تركت نتائج هذه المناظرة أثراً معرفياً، امتد لفترة زمنية معينة، مفادها عدم إخضاع المنطق اليوناني للنحو العربي، فرغم أن نتيجة المناظرة انتهت لصالح السيرافي بدليل قول ابن متى "لو نثرت أنا أيضاً عليك مسائل من المنطق لكان حالك كحال8"، فإن الحوار يبدو أنه كان عنيفاً ومخلا بآداب الحوار ومدعوماً من الوزير الفضل بن جعفر، فهوى الفضل الإيديولوجي يتماشى وهوى السيرافي بخصوص رفض المنطق اليوناني، والدليل واضح من خلال إشارات التحريض والتنقيص من مكانة المنطقي ابن متى، كما في:
أ. وأنت تجهل حرفا في العربية
ب. إنما بودكم أن تشغلوا جاهلا
ج. خرافات وترهات

ودليل دعم وتحيز الفضل بن جعفر للسيرافي واضح من خلال الأمثلة التالية:
أ. لقد جل علم النحو عندي
ب. سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى
ج. أيها الشيخ أجبه بالبيان

إن غايتنا ليس المناظرة في حد ذاتها، بل النتائج التي ترتبت عن المناظرة، والأكثر من هذا ما يهمنا هو معرفة الكيفية التي تعامل بها النحاة والفلاسفة والمفكرون العرب القدامى مع علاقة النحو بالمنطق، وتبين لنا من خلال المناظرة أن موقف السيرافي واضح من خلال تأكيده على تعدد المنطق بتعدد اللغات، بمعنى تعدد الفكر بتعدد اللغات، وإذا كان هذا هو موقفه من علاقة النحو والمنطق، فكيف فهم الجرجاني هذه العلاقة في إعجازه؟

الفكر تابع لمعاني النحو حسب الجرجاني

يؤكد الجرجاني من خلال إعجازه أن الفكر لا يمكن بيانه إلا إذا تم ربطه بمعاني النحو، بمعنى لا يمكن أن نتصور بأي حال من الأحوال تعلق الفكر بمعاني الكلم في معزل عن معاني النحو، إذ لا يعقل أن يتفكر مفكر في "فعل" من غير ربطه بـــ"اسم" والعكس صحيح. فالفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة، لكن قد يتعلق بها مجردة من معاني النحوي، أي أن الفكر تابع لمعاني النحو ولا يمكن له أن ينجز أي مهمة إلا ما يمليه عليه النحو. ودليله في ذلك أن الشاعر لما يريد أن ينظم في غرض من الأغراض، يكون فَكر في معاني أنفس الكلم، غير أن هذه المعاني الكامنة في النفس لا تتحقق إلا إذا كانت الغاية منها معاني النحو، ويوضح لنا تعلق الفكر بمعاني النحو من خلال بيت بشار التالي:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا .. وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فالجرجاني يعتبر أن بشار بن برد لا يعقل أن يكون قد نظم معاني هذا البيت دون أن يخطر على باله معاني النحو، ففي نظره لا يمكن التفكير في" مُثار النقع، من غير أن تكون لبشار نية إضافة الأولى إلى الثانية، ومن دون أن يكون قد فكر في"فوق رؤوسنا"، أي أن يضيف" فوق" إلى "رؤوسنا"، وهكذا يتصور الجرجاني مسألة النظم.

إن معنى الكلمة حسب نظم الجرجاني، لا يتحقق إلا بتعلقها بمعنى كلمة أخرى، والمقصود بذلك أن تعلم السامع بشيء لا يعرفه، مثل:
"دخل محمد"، ففي نظر الجرجاني لا يمكن أن تخبر السامع بمعنى "دخل" بمعزل عن معنى "محمد"، بل لا بد من تعالقهما لتحقيق النظم النحوي9.

نستنتج من خلال ما سبق، أن الجرجاني انتصر إلى النحو على المنطق، فهو يعتبر الفكر تابع للنحو، ولا يمكن تصور معاني الكلم بمعزل عن معاني النحو، فالفكر لا يمكن أن يظهر إلا من خلال معاني النحو. وبهذا يكون قد نحا منحى السيرافي، فالفكر عندهما متعدد بتعدد اللغات، أي أن المنطق متعدد بتعدد اللغات، فلكل لغة منطقها الخاص بها. وسيستمر جدل النحو والمنطق لعقود طويلة حتى جاء العارف بالمنطق والمبرز في عدد من اللغات، عالم زمانه، الفارابي الذي سيحسم هذه العلاقة من خلال "كتاب الحروف"، الذي وضح فيه أن موضوع النحو يختلف عن المنطق، لكن هذا لا يعني وجود قطيعة بين العِلمين.

الفارابي يحسم جدل السيرافي وابن متى

لقد عمل الفارابي من خلال كتاب الحروف على الإجابة عن الأسئلة التي كان يطرحها السيرافي على ابن متى في المناظرة، حيث دحض ما زعمه بأن المنطقيين لا يصرفون عنايتهم إلى اللغة التي يتحاورون فيها ويدارسون أصحابهم  بمفهوم أهلها، فأجاب بذلك عن السؤال المركزي المرتبط بعلاقة الشكل اللفظي بالمعنى العقلي10.

يعالج الفارابي علاقة النحو بالمنطق، أي علاقة اللغة بالفكر، فالنحو بالنسبة إليه خاص لكونه يرتبط باللغة، واللغات متعددة، وبالتالي فلكل لغة نحوها الخاص بها، أما المنطق فعام لأنه يتعلق بالعقل والعقل واحد لدى جميع البشر، فعلم النحو له قوانين تخص ألفاظ أمة معينة، أما المنطق فقوانينه مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها، بمبرر أن في كل لغة أحوال تتقاسمها مع لغات الأمم الأخرى، مثل: "الفعل، الاسم، الأداة"، وهناك أحوال تخص كلّ لسان بعينه، من قبيل: "رفع الفاعل في اللسان العربي"، فالنحو يهتم بأحوال ألفاظ لغة محددة كالعربية مثلا، أما المنطق فعام يهم ألفاظ سائر اللغات. فالألفاظ حسب الفارابي هي مجال اهتمام المنطق والنحو، وبالتالي فهي عمل مشترك بين السيرافي وابن متى.

يؤكد الفارابي أن اللغة المنطقية الخاصة بالأحوال العامة لألفاظ "لغة ما" لا يمكن أن تؤخذ من اللغة النحوية إذا كانت هذه اللغة قد نشأ المنطق فيها أول الأمر، أما إذا كان المنطق سينتقل إليها من لغة أخرى فلا بد من التعبير عن تلك الأحوال العامة، أي المعاني المنطقية بما يناسبها من ألفاظ اللغة المنقول إليها، وبهذا يكون الفارابي قد حسم قضية استقلال موضوع النحو عن المنطق، وبهذا فهو يخالف السيرافي، ويتفق ضمنياً مع وحدة الفكر الأفلاطونية11.

ونجد ابن سينا في النجاة يؤكد على منفعة المنطق، قائلاً بأنه الصناعة التي نعرف بها الحد الصحيح والقياس الصحيح، وبواسطته تعرف عن أي صورة ومادة يكون الحد الفاسد، وعن أي صورة ومادة يكون القياس الفاسد، فهذه فائدة المنطق. ويواصل كلامه قائلاً بأنه لا شيء من الفطرة الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بإعداد هذه الآلة12.

بهذا الكلام، يبدو أن معرفة الحقيقة والوصول إلى البرهان لا يتأتى في نظر ابن سينا إلى من خلال المنطق (العقل)، فهو الذي نعرف به الصحيح من الفاسد، ويذكرنا هذا الكلام بتعريف ابن متى للمنطق أثناء المناظرة. فابن سينا ينتصر للمنطق، أي العقل شأنه في ذلك شأن الفارابي.
 

خلاصة

جماع القول، لقد أدت علاقة النحو بالمنطق إلى خلق جدل واسع في تراثنا العربي، ولعبت مناظرة السيرافي وابن متى دوراً هاماً في إذكاء هذا الجدل الذي استمر لعقود طويلة من الزمن بين قائل بأفضلية النحو على المنطق، وبين قائل بأهمية المنطق على النحو، وبين قائل بتبعية الفكر إلى معاني النحو.


الهوامش
1. حضر المجلس كل من (قدامة بن جعفر، والزهري، وابن فراس، والمرزباني، وابن كعب والخالدين، وابن الأحشاد وغيرهم. انظر الإمتاع والمؤانسة، للتوحيدي، ص: 65).
2. أبو حيان، التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ص: 65.
3. نفسه، ص: 65.
4. نفسه، ص: 69.
5.  نفسه، ص: 67.
6. نفسه، ص: 69.
7. الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، ص: 52.
8. أبو حيان، التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ص: 70.
9. الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، ص: 281.280.
10. أبو نصر، الفارابي، كتاب الحروف، ص: 39.
11. الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، ص: 428.427.
12. ابن سينا، الحسين، النجاة في المنطق والإلهيات، ص: 10.

لائحة المصادر والمراجع
1. التوحيدي أبو حيان: الإمتاع والمؤانسة، ضبطه: أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، 1944.
2. الجابري محمد عابد: بنية العقل العربي- دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2009.
3. أبو نصر الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق وتعليق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، لبنان، 1986.
4. الجرجاني عبد القاهر: دلائل الإعجاز، دار الغد الجديد، ط1، 2017.
5. ابن سينا الحسين: النجاة في المنطق والإلهيات، تحقيق: عبد الرحمن عمَيَرة، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1992.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها