هرمونُ الكلمات!

كيفَ السّبيلُ للتخلص من سطوة الكلام؟

د. نور الدين جويني




أن تشاهد فيلم "الكلمات" الذي تم إنتاجه سنة 2012 في الولايات المتحدة الأمريكية بطولة "برادلي كوبر"، هي جرأة كبيرة لمن يعي سطوة الكلمات، ومدى انعكاسها في تسيير مسار حياتنا. عبارة قالها صاحب الكلمات الذي سُرقت منه من قِبل بطل الفيلم، بقيّت في ذهني لمدة أسبوع تراود كلماتي أيضاً... ما معنى هذا الكلام، قالها وبكل حزن، "أنت أخذت كلماتي، ويجب أن تتحمل الألم الذي تحمله هذه الكلمات"، هل معنى هذا أن اللغة والكلمات ألم في ألم؟ أم يعكس هذا تلك اللحظات التي غمرت هذا الكاتب أثناء لحظة ميلاد هذا العمل الكبير. وهي لحظة لا يمكن أن نصفها إلا بلحظة المخض، مخض بقي لأيام على مدار أسبوعين، لم يعِ هذا الكاتب أن الكتابةَ لا يمكن أن تسلم كلماتها وقت ما يشاء، بل الكتابة تنساب لحظة الألم الذي يجعل من أيامنا صخباً في صخب، ولن نجد وسيلة واحدة إلا اللغة بكلماتها التي تصبح مطيعة في تلك اللحظات.
 

ما عاشه هذا الكاتب الذي سُرقت منه كلماته، وما تمخّض عنها من ألم عاشها السّارق بكل تفاصيل الألم، منتهياً به في زوبعة الندم الذي غير مسار حياته من الشهرة إلى ابتلاع ثمنها، لكن مع ذلك، ومع تحسّر المشاهد في النهاية المأساوية التي انتهى بها الفيلم، لم أعر لهذه النهاية أهمية بقدر ما كنت أتربّصُ تلك السطوة، وتلك المسؤولية التي تمارسها علينا الكلمات، لعهد طويل لطالما ركز مؤسسو ما بعد الحداثة والهرمنيطيقيين على سطوة اللغة وما تفعله الكلمات، فهي في نظر فوكو وسيلة للمؤسسات تتسلط عن طريقها على الأفراد وتسلبهم كل الحريات، وفي نظر هايدغير وجود، وفي انسيابها عند الأدباء عالمٌ يُوّازي العالَم الذي نعيشه، كيف السبيل للتخلص من سطوة ما تنتجه كلماتنا، لماذا لا نتوقف عن هذا حتى لا يحصل لنا مثلما حصل لبطل الفيلم، الذي تجرع ألم كلمات قصة كتبها مارق في هدوء الليل، تحت ألم لم يخلّصه من الحياة ولم يدعه يعيشها بتفاصيلها؟ لا أعلم ولكن ما أعرفه أنني الآن أعيش حالة ذاك الكاتب، وكلماتي تنساب تحت لغة تسيطر على دواخلي، ولا تدع كلماتي، مجالاً لداخلي بالهدوء، هي صخب يراودني عند كل هدوء، فلا تدع هذه الروح تهدأ حتى مع نفسها.
 

أنا الآن أعي جيّداً الألم الذي جعل من صاحب الكتاب الأصلي ينفجر، ويكتب ذاك العمل الفريد من نوعه، يختلط كل ما في جعبتي عندما أشاهد من جديد فيلم 1984، المقتبس من رواية جورج أرويل، عندما تقول المذيعة: "التفكير جريمة"، وعندما يقول البطل: "ستكتمل الثورة عندما تنجز اللغة"، عندما يعتذر متحدث آخر كان يتنصت ويقول: "اعذروني على التطفل؛ أتقول بأننا سنتخلص من آثار كلمات جولد شتاين عندما يتم تنظيف اللغة".
وتزيد لحظات التأزم في ذاكرتي حينما تراودني تلك الأيام التي كنت فيها أنا وزوجتي، وحتى صديقي نتأفف من الحالة المزرية التي نعيشها في بلادنا، وخصوصاً معاناتنا مع المؤسسات الإدارية، في تلك اللحظات كان القاسم المشترك بيناً، أو بعبارة أخرى الكلمات المشتركة بيننا "إذا أردت أن تدفع الثمن باهظاً في هذا البلد، يجب أن تكون مثقفاً"؛ لأنّ المثقف في بلادنا هو مجرم بلغة الفيلم، ويجب أن يعاقب والعقاب هنا يكون بلغة فوكو عند حديثه عن القمع الذي تمارسه المؤسسات، أنت مجنون لأنك تتعارض مع عقل هذه المؤسسات، ولا يوجد حل آخر سوى استعمال العنف بكل أنواعه؛ من أجل إثبات أنك حقيقة مجرم.

التفكير إجرام؛ يالها من كلمات مارست سطوتها على ذهني، تُرى هل سألتقي بفيلم آخر يغير هذا الاعتقاد في ذهني، أننا لن نتخلص من سطوة الكلمات ما دمنا نشارك في إنتاجها، كلماتي هذه هي إجرام في حقي وفي حق قارئها، هي إجرام في حق من يعرف مدى تأثير الكلمات، هي إجرام يسبب الكثير من الجراح، في البدء كانت الكلمات، والنهاية ستكون تحت توقيع كلماتنا، دعوني لأني بدأت أختنق، روحي تتصاعد مثلما تصاعدت روح بطل فيلم الكلمات وهو لحظة استنطاق لغته، قلقي يزداد كقلق بطل رواية 1984، ترى هل كان أوريل باستشرافه على حق؟ هل سنعيش مستقبلاً مأساوياً؟ ظلامياً؟ حقيقته كما قال بطل الرواية كذب؟ ما الذي تسببت به أيتها الكلمات؟ ماذا عن المقاومة؟ هل هي حقيقة تمكننا من بعثرة سلطة كلماتنا؟ أم أننا بهذا الفعل نعيد إنتاج كلمات تعزز سلطة الكلمات التي قاومتها؟ الكلمة الوحيدة التي تبوح بكل ما هو حقيقي، وتجد فيها متنفساً يخفف أعباء الكلمات الأخرى هي الحب، ألم يعترف بطل فيلم 1984 أن الحبّ وحده من له سلطة البقاء؛ لأن لا أحد يستطيع نزعه، مهما تآمرت الكلمات، ومهما حاولت لن تستطيع نزع ذاك الاعتراف الأبدي، وحدها المشاعر من تستطيع الوقوف في سلطة الكلمات.
 

على سبيلِ الجدّ؛ في يوم من الأيام أردت الحديث عن الحب، وكان هدفي معالجة هذه الكلمة في ثقافتنا، ما وصلت إليه هو أننا لا نجيد لغة الحب ولذلك علاقاتنا هشة، نحن لا نستطيع التحدث بكلماته، رغم المشاعر التي تملأ خوالجنا، ثقافتنا تعاني من نقص في هرمون قاهر الكلمات، من سلطة ما نعتقد أنه حرية، أجل الحب هو تلك الطاقة التي لا يستطيع أي شخص، وحتّى الكلمات في ذاتها الانقضاض عليه، ولهذا يكتب آلان باديو في كتابه "في مدح الحب": "أن حقل الفكر ليس محصناً أبداً أمام انقضاضات الحب" [ص: 41]. إذن؛ ما لم نحصن حبنا ستغزونا الكلمات، وسنتجرع ألم بطل فيلم الكلمات.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها