كريستـو فلادميـروف

راهب الفن وصانع الأحلام

ترجمة: شيرين ماهر

صانع الأحلام، نحات البيئة، سيد الرؤى، عاشق الطبيعة.. كلها ألقاب عُرِف بها النحات والمُصوِر والفنان التشكيلي الأميركي من أصل بلغاري "كريستو فلاديميروف خافاشيف Christo Vladimirov Javacheff"، الذي رحل في ظروف طبيعية عن عمر يناهز 84 عاماً في منزله بولاية نيويورك بعد أن أصاب العالم بنوبة حزن عارمة. كان "كريستو" فناناً استثنائياً، نجح في أن يضع بصماته التداخلية على الطبيعة كتوقيع عاشق أبى المغادرة دون تأكيد عشقه لفنه والحياة معاً. أعماله المتفردة تروي أقاصيص عزمه الذي لا يلين وإصراره الفتي. لم يكن ينضب معين أفكاره الإبداعية البراقة التي لم يُدرِكها الذبول، فقد امتلك إيماناً راسخاً بأن الفن الابتكاري يَهب صاحبه عمراً إضافياً بعد الرحيل.


"كريستو".. العجوز الريعاني، صاحب الهالة البيضاء والأفكار النضرة، الذي برع في ابتكار أحد أشكال الفنون غير التقليدية، وهو "فن تغليف المساحات بالأقمشة"، حيث أمكنه تغليف الطبيعة كأحد الهدايا القيمة للبشرية، فقد ربطته علاقة فلسفية مع الوقت، وأراد استغلال كل لحظة في حياته لحياكة المستحيل، مُعتبراً الواقع كـ"الوقت الثمين" الذى يَحسِب زمن وجودنا. فكلما مر الوقت، كلما تلاشت طاقتنا تدريجياً. ومن ثم ليس هناك ما هو قيد الامتلاك المطلق، وإنما ثبات الأثر هو الذي يعرّف سبيله للحرية والجمال، مُتخفِفاً من قيد البقاء المادي.

ولد "كريستو" عام 1935، في بلدة جابروفو، وسط بلغاريا، وقد حظي بنشأة فنية منذ نعومة أظافره. بزغت اهتماماته الفنية في سن مبكرة، إذ تجلى شغفه بالأقمشة في مصنع والده. أما والدته كانت تعمل أمينة عامة لأكاديمية الفنون الجميلة في "صوفيا"، وتعلم منها الرسم والتلوين. فى عام 1956 اضطر لترك "بلغاريا" فراراً من الحقبة الشيوعية، وذهب إلى براغ ثم باريس، ثم استقر في الولايات المتحدة الأمريكية. التقى بزوجته الفرنسية "جان كلود"، وجمعتهما قصة حب مؤججة كان لها دورها في دعم فنه وإكسابه ذلك المذاق الاستثنائي، حيث شكلا معاً ثنائياً بارزاً في أوساط الفن المعاصر بفضل أعمالهما العابرة التي تطلبت سنوات من التصميم والتحضير بتكلفة بلغت ملايين الدولارات على نفقتهما الخاصة.
تأثر "كريستو" بالفنان المسرحي "مارسيل دوشامب"، والنحات الإسباني "خوان ميرو"، والرسام الفرنسى "جان دبفات"، لكنه استطاع تصميم خطة عمل خاصة به تُعبر عن دواخله وشواغله الفنية، حيث امتلك منظوراً فنياً جديداً تعاطى به مع مفردات الواقع المَعيش.. ببساطة، أمكنه إتاحة الفن في الميادين للمارّة والهُواة والبُسطاء، وجعله سلعة مدفوعة الأجر للجميع دون أفضلية.
ابتكر العديد من المشروعات الضخمة، بهدف الوصول إلى أكبر عدد من الناس، خاصة هؤلاء الأشخاص الذين لا يبدون في العادة، اهتماماً كبيراً بالفنون، لذلك قرر ألا تكون أعماله رهينة الجدران داخل المتاحف، لكنه دشنها بين جنبات الطبيعة، في الهواء الطلق، بالقرب من المراكز الحضرية الشهيرة، بدلاً من استخدام صالات العرض. لم يسع إلى جمع ثروة من وراء فنه، بل اعتمد على بيع الدراسات الأولية والرسومات والكولاجات والطباعة الحجرية الأصلية لتمويل مشاريعه، ولم يقبل دعماً من جهات عامة أو خاصة، لضمان استقلاليتها، ويقول عن ذلك: "لا بد أن يمتلك الفنان الحرية الخالية من الخوف والاعتمادية والمصالح والاشتراطات والربحية.. فني ليس للبيع، لا أحد يستطيع الاستيلاء عليه".

رسائل مفتوحة يحدد فحواها المتلقي

حين سُئل "كريستو" عن الرسائل التي تحملها مشاريعه العملاقة للجماهير، أجاب: "لا أمرر رسائل معَلبة من خلال أعمالي للأخرين، رسالتي الفنية حرة طليقة. وحده المتلقي الذي يحدد ماهيتها بالطريقة التي تحاكي استيعابه وحواسه، إذ يجد الكثيرون أعمالي إنسانية بدرجة عميقة، لتشابكها مع العالم الذي نعيش فيه. وعدم تكرارها، يجعلها في نظرى، مغايرة لأنواع الفنون الأخرى".
والواقع أن "كريستو" ظل مخلصاً لنفسه ولأحلامه حتى لحظاته الأخيرة، وسعى لتنفيذها على أرض الواقع مهما استغرق ذلك من وقت أو صعوبات، فعادةً ما كان يبتكر رسومات جذابة للغاية لكل مشروع يطوف بأركان خياله، فتبدو وكأنها من وحي طائر يحلق في السماء. تصاميمه المثيرة للاهتمام تشبه "التقاطات" مصور بارع يمتطي منطاداً هائماً بين السحاب. كان يرمق كل ما حوله بنظرة مغايرة لها تأثيرها الساحر على الأخرين.

أيضاً اختياراته للخامات التي نفذ بها مشروعاته عكست خفة روحه الشغوفة بالحياة. كسوات وأغطية ضخمة من الأقمشة ذات اللون الأزرق والوردي والأصفر تصدرت قلب تصاميمه الأخّاذة. وغالباً ما كان يفضل استخدام خلفيات بالأبيض والأسود، لتبدو كالخط الفاصل بين الواقع وخياله الابتكاري. كل نُصب تاريخي أو جسر أو بحيرة أو ميدان وقع اختياره عليه، كان يكتسي بأغطية روحه ويتشبَع بـ"لمحات" ساحرة من باقة أحلامه الملونة، حتى يصبح الحلم حقيقة مُشبَعة بـ"رذاذ" الحياة.

نجح "كريستو" أيضاً في خلق مزاوجة جمالية جديرة بالإعجاب والدهشة بين السياسة والفن، رغم كل الصعوبات التي كانت تواجهه للحصول على موافقات حكومية أو لوجيستية لتنفيذ مشروعاته. وبالفعل قد تخلى عن العديد من مشروعاته في حال لم تنجح مفاوضاته مع المسؤولين. كان يجد ضرورة في وجود تناغم بينه وبين صُناع القرار حتى تكتمل لديه الغاية مما يصنع. لذلك كان البعد السياسي جلياً في أعماله بحكم الجغرافيا الطبيعية التي انتقاها مقراً لأعماله التي استلزمت تنسيقاً مع البلديات واالحكومات وكافة مقدمي الخدمات اللوجيستية والمنظمات البيئية، حاله في ذلك كمن يبني جسراً أو طريقاً سريعاً، وهو ما جعل مشروعاته رهينة سنوات عديدة من الانتظار والصمود والإصرار؛ لكي تصبح واقعاً ملموساً.

يعد "جدار براميل النفط" في باريس الذي أقامه عام 1962 أول أعماله مع زوجته، حيث تألف الجدار من 89 برميل نفط ووقود، تم بناؤها في شارع سان -جيرمان- دي بري في باريس. حمل المشروع اسم "الستار الحديدي" وجاء كأحد أشكال التعبير عن سقوط جدار برلين، وفي عام 1991 أقام ما يعرف بـ"طريق المظلات" في الولايات المتحدة واليابان، والذي تألف من 3100 مظلة تم نصبها في كل من كاليفورنيا واليابان كـ"منشأة متزامنة"، حيث بلغ ارتفاع المظلات الزرقاء التي نصبت في منطقة إيباراكي في اليابان ما يقرب من ستة أمتار. أما تلك التي نُصبَت في كاليفورنيا كانت باللون الأصفر الذهبي، وقد وصفت مجلة "أرتسي" العمل بأنه "من أضخم المشاريع الفنية على وجه الأرض".



أما مشروع تغليف مبنى البرلمان الألماني "رايخستاج Reichstag" الذى تم تنفيذه عام 1995، فهو بمثابة أحد أهم مشاريع "كريستو" على الإطلاق، حيث استغرق التخطيط له قرابة عقدين وجرى رفضه ثلاث مرات، حتى حصل على موافقة من المسؤولين الألمان عبر تصويت برلماني جاء لصالح المشروع فى عام 1994. تم تغطية المبنى التاريخى العريق بقماش البولي بروبيلين الفضي المتلألئ الذي بلغت مساحته مائة ألف متر مربع. كما استعان "كريستو" بحوالى 90 متسلقاً للقيام بأعمال التغطية وكذلك 120 عاملًا للقيام بأعمال التجميع. زار المبنى المغطى ملايين الأشخاص، وكان أحد أكثر المشاريع إثارة للإعجاب خلال عام 1995. كما جرى إعداد فيلم وثائقي يكشف عن تفاصيل العمل والمغامرة التي استغرقها المشروع، وعرضه في الطابق الثاني من المبنى للزوار، فقد شكل العمل إنجازاً لافتاً لـ"كريستو"، وقال عنه: "مبنى رايخستاج ينبض بالحياة تحت ضوء السماء ومع غروب الشمس منذ ما يقرب من ربع قرن، لكنه الآن في ثوبه الفضي، يبدو لي وقد امتلك قلباً جديداً ينبض بين أركان الحجارة العتيقة".

وفي عام 2016 نفذ "كريستو" أول مشروع له بعد وفاة زوجته ورفيقته الفنية، والذى كان قيد التخطيط الثنائي لهما منذ الستينيات، وهو مشروع "الجسور العائمة" الذي دشنه على بحيرة "أيسيو" الإيطالية قبالة جبال الألب على امتداد 3 كيلومترات. الجسور مؤلفة من 200 ألف متر مكعب مصنوعة من مادة البولييثيلين ذات الكثافة العالية المغطاة بكسوة زعفرانية اللون، حيث سمحت للزوار بالوصول إلى جزيرة "سان باولو" وسط انطباع حقيقي بالسير على المياه أو على ظهر حوت عملاق، وحقق المشروع توافداً سياحياً خرافياً، فيما كان تغليف النُصب التاريخي الشهير "قوس النصر" في باريس آخر مشاريع "كريستو" التي عزم على تنفيذه، وكان مقرر الانتهاء منه هذا العام، لكنه تأجل بسبب ظروف جائجة كورونا، إلا أن فرنسا أعلنت عزمها استكمال المشروع، بعد وفاته، والانتهاء منه في العام القادم خلال الفترة من 18 سبتمبر إلى 3 أكتوبر 2021، تكريماً لمكانة "كرسيتو" الفنية وتحقيقاً لآخر أحلامه.

أعماله تجاوزت مفهوم الديمومة

في أحد اللقاءات التي أجريت مع "كريستو" وعند سؤاله عن الغاية من مشاريعه وأعماله الفنية، التي يتم تفكيكها بعد بضعة أيام، رغم التحضير والجهد المبذولين فيها، لتصبح كأن لم تكن، يقول: "أردت دائماً أن أخفي تعقيدات الأشياء وإظهار نِسَبها الأساسية وقياساتها الضائعة في التفاصيل؛ كأنني أُعِيدها للحظة ميلاد أولى، مثلها في ذلك مثل البشر في مرحلة الطفولة. هذا، في نظري يعطيها مظهراً أكثر تسامياً، كأنني اُعيد نحت وجودها دون المساس بالأصل، فأنا أسعى لخلق مساحة تماس خاصة جداً بين الأبنية ودرجة الانفعال بها، متمثلة في زوايا وقياسات وكادرات هندسية وفنية وبصرية موازية، من شأنها أن تُضفي روحاً جديدة لم تكن موجودة. ولا حاجة لي للإبقاء على ذلك للأبد، فهي روح طوافة تحلق حولنا لفترة من الوقت، ثم تغيب دون أن يفنى أثرها. أحاكي، في ذلك، الواقع في أبسط وأعمق صوره".

الأمر الجلي لكافة المهتمين بتحليل واكتشاف الهوية الفنية لـ"كريستو" وزوجته أن فنهما لم يكن يدعو للديمومة بقدر ما تزدهر على جنباته الأحداث التي لا يمكن تكرارها، فهو ينتصر لمفهوم الحياة بصورتها التجريدية وما تمتلكه من رمزية فلسفية. لم تكن تصاميمهما مجرد رسومات للأفكار أو المسودات أو تعليمات البناء، بل حملت توقيعاً فردياً للغاية يعكس خصوصيتهما الفنية. لقد كانا يهدفان إلى زيادة الوعي بالعمليات الاجتماعية والتاريخية في محاولة لإثارة مشاعر حقيقية لدى العديد من الناس وربطها بالفن في صورة يسيرة وبديهية.

هذا وقد تصادف هذا العام مرور الذكرى السنوية الخامسة والعشرين على مشروع "كريستو" الأكثر خصوصية بالنسبة له، وهو تغطية مبنى البرلمان الألماني "رايخستاج"، حيث أقامت ألمانيا معرضاً خاصاً بمتحفها الفني الشهير Palais Populaire المعروف بـاسم "قصر الشعب" في برلين، احتفاءً بأعمال الزوجين، والذي يتضمن توثيقاً لمشاريعهما التي امتدت خلال الفترة من 1963 وحتى 2020، بما في ذلك التصميمات الأولية، ولوحات الرسم ذات التنسيق الكبير، بالإضافة إلى الإصدارات والمطبوعات، إلا أن المعرض تم تعليقه بسبب ظروف جائحة كورونا. ومع تخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي تم فتح المعرض وإتاحته للجماهير في بدايات شهر مايو تحت ضوابط خاصة تتعلق بأعداد الزائرين المحدد يومياً خلال أيام العرض، ولم يتمكن "كريستو" من السفر إلى برلين لحضور المعرض بسبب ظروف تعليق الطيران آنذاك، إلا أن المعرض الذي انعقد قبيل أسابيع قليلة من وفاته جسد لفتة وفاء استباقية قدمتها دولة ألمانيا الاتحادية لروح هذا الفنان الاستثنائي الذي وافته المنية في 31 مايو من هذا العام.

والمؤكد أن كل الدول التي أقام "كريستو" مشاريعه على أرضها حملت له اعتزازاً خاصاً، إذ إن تدخلاته في العالم الطبيعي والبيئة المبنية غيرت من الشكل المادي والتجربة المرئية للمواقع، مما سمح للمشاهدين بإدراك الأمكنة وفهمها بتقدير جديد لصفاتها الرسمية والحيوية والحجمية، حيث استطاع اجتياز الحدود الضيقة للأعمال الفنية وجذب اهتمام جمهور عريض. فقد سعى إلى كسر كل ما هو مُعتاد خروجاً عن الإيديولوجية المعتادة للأعمال الفنية، ومن ثم بدت أعماله منفصلة تماماً عن كل شيء، وهذا ما جعلها ذات مغزى أعمق بالنسبة له، وأكثر جاذبية بالنسبة للآخرين.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها