انْتَظَرَتْ زُهَاء ثمانية قرون لتصبح عاصمةً للبلاد

الرِّبَاط.. ياقوتة الحواضر المغربية

محمد العساوي


بمحاذاة المحيط الأطلنتي وعند مصب نهر أبي رقراق، أسس المُوَحِّدون خلال القرن (السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي)، رِبَاطَ الفتح (الرباط حالياً) كمدينة عسكرية وحاضرة وعاصمة. ويرجع سر هذه الوظائف الثلاث إلى عنصرين أساسيين: أولهما موقعها الاستراتيجي المهم، بحيث إنها تتوسط المغرب الأقصى على الطريق الساحلي، أما العنصر الثاني فهو توفر منطقة مصب نهر أبي رقراق على ثروات طبيعية غنية ومتنوعة (وفرة الماء، الغابات، المجال الزراعي الخصب، الثروة السمكية...).



يوحي اسم المدينة بدورها العسكري المطبوع بالطابع الديني، فكلمة رباط تطلق على مكان التقاء وتجمع المجاهدين المتوجهين إلى الأندلس قصد إيقاف المد الإيبيري، وعن دور الحاضرة كانت الغاية منه هي إثبات الذات وإبراز العبقرية الهندسية في تأسيس الحواضر، والتخطيط على غرار الإرث الحضري والحضاري الذي ورثه الموحدون، سواء بالمغرب الأقصى كفاس الإدريسية ومراكش المرابطية، أو بالمدن الأموية كقرطبة وإشبيلية وطليطلة، وسرقسطة بالأندلس.

وفيما يخص العاصمة فقد اتخذ الموحدون عاصمة المرابطين مراكش قاعدة لحكمهم، واتخذوا من إشبيلية عاصمة ثانية لإمبراطوريتهم، ونظراً للتباعد الجغرافي الكبير بين العاصمتين، أوجبت الضرورة اختيار عاصمة ثالثة للربط بينهما، فوقع الاختيار على مصب نهر أبي رقراق، وبناء عليه قرر الخلفاء الموحدون الثلاثة الأوائل، وأولهم عبد المؤمن بن علي الكومي تأسيس رباط الفتح.

وقد زودتنا المصادر التاريخية التي عاصرت تأسيس المدينة بأدق المعلومات حول المدة التي استغرقها بناء مقوماتها الحضرية الرئيسة، وعن مراحل التأسيس المتتالية التي استمرت زهاء نصف قرن (545-593 هجرية / 1150-1196 ميلادية)، مواكبة لفترة حكم كل من عبد المؤمن ويوسف ويعقوب المنصور، فالأول بدأ بإنشاء قصبة على الضفة اليسرى لنهر أبي رقراق لشن حملات عسكرية ضد الإسبان، أطلق عليها اسم "المهدية" نسبة إلى المهدي بن تومرت مؤسس الدول الموحدية، أما الثاني (يوسف) فشرع في بناء أسوار المجال الحضري الجديد، وشيد جسراً يربط بين ضفتي المدينة، ثم تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة لتأسيس مدينة رباط الفتح التي تواكب عصر الخليفة يعقوب المنصور، الذي بناها وحصنها بأسوار متينة وشيد بها عدة بنايات، وبذلك اعْتُبر المؤسس الفعلي للمدينة.

لكن بعد وفاته عرفت هذه الحاضرة تراجعاً حضرياً ملموساً، وتوقفت أهم أوراشها العمومية، خاصة بعد هزيمة الموحدين في معركة العقاب بالأندلس (609 هجرية/ 1212 ميلادية)، وبما أن رباط الفتح ارتبط تأسيسها بحركة الجهاد في الأندلس؛ فإن انتهاء هذه الحركة جعلها تفقد أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للدولة الموحدية، فانعكس ذلك سلباً على المجالات العمرانية والاقتصادية والاجتماعية بالمدينة، وبهذا تكون فكرة مؤسسها بجعلها عاصمة رسمية للدولة قد تبخرت.

وإبان العصر المريني عرفت رباط الفتح خللاً كبيراً في تصميمها العام، بسبب محاولات سلاطين بني مرين إلى طمس معالمها، وخاصة الموجود منها بقصبة المهدية، وبالمجال الحضري الموحدي الجديد الواقع بالضفة الجنوبية، حيث تم التركيز على الضفة الشمالية، وذلك ببناء السلطان أبي الحسن لرباط جديد بمحاذاة الأسوار الموحدية المحيطة بالمجال الحضري الجديد، وسماه "الرباط المبارك" المعروف اليوم بـ"شالة"، وقد ضم هذا الأخير القصر السلطاني، وحماماً وفندقاً ومدرسة ومسجداً، ومرافقَ أخرى دينية ومدنية.

أما في عهد الدولة السعدية فقد عرفت مدينة الرباط استقرار ساكنة جديدة بها، تمثلت في الجاليات الموريسكية، وذلك مع بداية القرن (الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي)، وكان لهذا الحدث وقع كبير على التاريخ العام للمدينة، وعلى تاريخها العمراني بوجه خاص، إذ استطاع الموريسكيون إنقاذها من الخراب التام، وإخراجها من أزمتها التي دامت قرابة أربعة قرون.

وبعد نشوء الدولة العلوية ووصول السلطان المولى الرشيد إلى منطقة مصب أبي رقراق، قام بتشييد قلعة عسكرية بالقرب من قصبة المهدية، تُعرف بحصن المولى الرشيد، ثم شرع في بناء أسوار جديدة متصلة بالزاوية الجنوبية الغربية للقصبة الموحدية (المهدية)، وفي عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله حظيت الرباط بعناية خاصة، حيث اتخذها عاصمة ثالثة بعد مدينتي فاس ومراكش، وبنى بها قصراً لإقامته بالموقع الذي يوجد فيه القصر الملكي العامر حالياً.

لكن مدينة الرباط انتظرت زهاء ثمانية قرون لتحقيق حلم بانيها الأول، في أن تصبح عاصمة رسمية للبلاد، وكان ذلك مع دخول الفرنسيين إلى المغرب، إذ مباشرة بعد توقيع معاهدة الحماية في (30 مارس 1912م)، قررت السلطات الاستعمارية نقل عاصمة الدولة من فاس إلى الرباط وذلك لعدة اعتبارات منها: الابتعاد عن مدينة فاس لما تشكله من مخاطر على أمن سلطات الاحتلال الفرنسي من جهة، ولتفادي عدم تحمل المُعَمرين لصعوبة مناخها الحار، وخاصة في فصل الصيف من جهة أخرى، ثم أهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي للرباط، وحمولتها التاريخية والعمرانية الغنية التي ورثتها منذ قرون، وأخيراً توفرها على مجالات حضرية فارغة محمية بأسوار متينة، وقد استغلت سلطات الحماية هذه المجالات لبناء أحيائها العصرية والمرافق العمومية.

إن مدينة الرباط تعد نموذجاً حياً للعواصم التي تزخر بتراث تاريخي فريد، ومشاهدَ طبيعية نفيسة، ومكانة سياسة متميزة، ونشاط اقتصادي حقيقي ومتنوع، فهذه الحاضرة تنتمي إدارياً إلى جهة الرباط –سلا– القنيطرة، بساكنة تزيد عن 500.000 نسمة، والتي يمثل فيها المسلمون نسبة (98%)، أما اقتصادها فيرتكز بشكل كبير على قطاع الخدمات العمومية باعتبارها عاصمة إدارية للمغرب، إلى جانب مجالات أخرى كالصناعة حيث تتوفر على أربع مناطق صناعية، منها صناعة النسيج، بالإضافة إلى الصناعة التقليدية (الزرابي، الفخار، الخشب، الجلود...)، كما تراهن أيضاً على قطاع التجارة خاصة مع انتشار الأسواق الممتازة والمراكز التجارية الكبرى، ثم قطاع السياحة الذي يستفيد من مآثرها ومكانتها التاريخية فضلاً عن شواطئها.
 

تتوفر الرباط على معالمَ أثرية وعمرانية كثيرة، منها "قصبة الأُوداية" التي كانت في الأصل عبارة عن قلعة محصنة حملت اسم "قلعة تاركة" شيدتها دولة المرابطين، كما تضم أبواباً تاريخية تسرد أمجاد دول تعاقبت على حكم المدينة، ومن تلك الأبواب من نجده صامداً، ومنها من لم يعد له أثر سوى في المصادر، وهذه الأبواب هي: باب لعلو، باب الأحد، باب زعير، باب شالة، باب الملاح، باب الديوانة، باب مراكش، باب المصلى، باب تواركة... وبالإضافة إلى الأبواب تشتهر الرباط بأسوارها التاريخية من أبرزها السور الموحدي الذي يبلغ طوله (2263 متراً)، ويمتد من غرب المدينة إلى جنوبها، ويبلغ عرضه متران ونصف، وارتفاعه عشرة أمتار مدعم بـأربعة وسبعين برجاً، وتتخلله خمسة أبواب ضخمة، كما تزخر بموقع شالة الأثري الذي ظل مهجوراً من القرن الخامس حتى القرن العاشر الميلادي، وقد حظي في العهد المريني باهتمام بالغ حيث أحيط في القرن الرابع عشر الميلادي بسور خماسي الأضلاع مدعم بعشرين برجاً وثلاثة أبواب، أكبرها وأجملها زخرفة وعمارة الباب الرئيس للموقع المقابل للسور الموحدي لرباط الفتح.

وحيث إن المسجد شكل عنصراً أساسياً في تشكيل الهيكل العمراني للمدينة الإسلامية العتيقة، فقد احتضنت الرباط العديد من المساجد من أشهرها مسجد حسان وصومعته التي تُرى من بعيد، إذ يصل علوها إلى أربعة وأربعين متراً وهي مربعة الشكل، كما أنها تعد إحدى الشقيقات الثلاث لصومعة الكتبية بمراكش والخيرالدا بإشبيلية، وقد شيدت هذه المعلمة الأثرية سنة (1197 / 1198 ميلادية) في عهد السلطان يعقوب المنصور وكانت من أكبر المآثر في عهده، ولم يكتمل بناؤها إلا بعد وفاته سنة (1199 ميلادية).
 

ولا تكتمل زيارة هذا الفضاء العمراني والتاريخي دون زيارة "ضريح محمد الخامس" الذي يعد بمثابة معلمة تاريخية كبرى، وقد شرع في بنائه سنة (1962م)، بمشاركة أكثر من أربعمائة حرفي وصانع تقليدي يمثلون كل الأقاليم المغربية، حيث انكبوا على إبراز المجموعة المعمارية الفنية المتناسقة في توازن وترابط تاميْنِ، يجمع بين الوظائف الهندسية والدينية والتاريخية، ويحوي الضريح قبري الملكين الراحلين محمد الخامس وابنه الحسن الثاني.

كما تشكل المدينة العتيقة جزءاً من الفضاءات العمرانية والحضارية والاجتماعية التي تسترعي انتباه زائر مدينة الرباط، وهي تشغل مساحة تقدر بحوالي خمسين هكتاراً، ويتم التنقل داخل فضاءاتها ترجلاً، أما المدينة العصرية المرتبطة بالاحتلال الفرنسي فبدورها تضم معالم متعددة من أهمها متحف التاريخ والحضارات الذي أُنشئ خلال عشرينيات القرن الماضي، ويضم أماكن أثرية مكتشفة في مواقع تنقيب مختلفة بما فيها (وليلي وتاموسيدا...)، مما يمكن الزائر من التعرف على جوانب من تاريخ المغرب منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الإسلامي، حيث يضم المتحف أدوات إنسان ما قبل التاريخ، وبقايا من العصر الحجري الحديث ونقوشاً ليبية - أمازيغية، ومجموعة رائعة من التماثيل الرومانية.

وبهذا يتضح لنا من خلال هذه المساهمة التاريخية والأثرية والاقتصادية لمدينة الرباط، مدى أهمية الأدوار التي لعبتها هذه الحاضرة المتجذرة في التاريخ، والتي برزت بوضوح في مختلف المجالات، جعلها تتبوأ مكانة مرموقة ضمن الحواضر المغربية العريقة.


المراجع المعتمدة:
◂ موقع وزارة الثقافة والاتصال: http://www.minculture.gov.ma
◂ الجمعية المغربية للتأليف والنشر، موسوعة معلمة المغرب، سلا: مطابع سلا، 2001، الجزء 13، مادة "الرباط": محمد السمار.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها