صِيّانةُ المَخطُوطات البُرديّة والرّقية

عِلْماً وَعَمَلاً

محمد فؤاد علي


نجح المصريُّ القديم في بدايات معرفته للكتابة في نقش الجدران لتسجيل أحداث حياته الشخصية ومظاهرها. وخير شاهد على ما نقول الكتابات المدونة على جدران المعابد والمقابر، والقصور، والمسارح. وقد تميزت هذه النقوش بالدقة والجمال، وتنوعت أشكالها ما بين نقش بارز ونقش غائر. وقد حفظت لنا الآثار المصرية القديمة الكثير من هذه النقوش التي تدل على تميز المصري القديم وبراعته في الكتابة، ولكنه التفت عن هذه الطريقة بعد اكتشافه لنبات البردي الذي توسع في زراعته على شواطئ نهر النيل، والترع والمستنقعات، ومن سيقانه صنع الورق الذي استخدمه في الكتابة بدلاً من النقش على الجدران لتوفير الجهد والوقت لتميز ورق البردي برقة سمكه، الأمر الذي يسمح بطيه بسلاسة على شكل لفافة، وإعادة فتحها بيسر وسهولة. كما يتصف ورق البردي بالمتانة ومقاومته لعوامل الزمن وتقلبات الجو، وكثرة الاستعمال نتيجة الضغط والشد أو الفك أو الطي، وغيرها من الأمور التي لا تتحملها الأوراق المعروفة بالكاغد.
 

ومن أهم صفات ورق البردي أيضاً بياضه ونصاعته ونعومة سطحه، وبعض هذه الصفات طبيعية، وبعضها مصنوعة، الأمر الذي يدل علي مهارة الصانع المصري القديم. وورق البردي متعدد الأنواع، مختلف الأصناف والأحجام، فمنه الورق الهيراطيقي وهو من أجود الأنواع، وقد استخدمه الكهنة في المعابد، وقد شاع وانتشر بين الإغريق القدماء في احتفالاتهم وكتاباتهم الدينية المقدسة حتى نسبوه بغير سند إلى الإمبراطور أغسطس وإلى زوجته ليفيا، كما توجد من أوراق البردي أنواعاً أخرى أقل جودة من الورق الهيراطيقي، وتعرف هذه الأنواع باسم الورق المسرحي أو الأمفيتياتري.

وقد سُميّ بهذا الاسم لأنه كان يصنع بالقرب من مدرجات المسرح الروماني. أما الورق الصاوي فينسب إلى صان الحجر بمحافظة الشرقية حالياً، والتي كانت عاصمة للإقليم الخامس من أقاليم الوجه البحري في مصر القديمة، أما الورق الطاني فينسب إلى ضاحية من ضواحي مدينة الإسكندرية تسمى طانيا، ويعتقد أنها كانت امتداداً لبحيرة مريوط التي كان ينمو فيها نبات البردي. وقد وصلتنا العديد من البرديات الفرعونية التي تبرز العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكيفية إدارة مرافق الدولة المختلفة، والاختصاصات الوظيفية للمصالح الحكومية والعاملين في مصر القديمة، ومكانة المرأة الفرعونية داخل الأسرة، وبيان حقوقها وواجباتها، فضلاً عن إبراز دورها في تنشئة الأبناء على الأخلاق والفضيلة.

كما عرف المصري القديم أيضاً الرق الذي استخدمه في الكتابة، والرق جلد خام غير مدبوغ ولكنه معالج ومشدود وجاف، يصنع من جلود الحيوانات الصغيرة أو المجهضة خالية الشعر، وهو يمثل مرحلة متوسطة ما بين الورق والجلد، ويتميز بلونه الشاحب الذي يميل إلى السواد بالتقادم الزمني أو بالتناول، وتستخدم الأحبار الكربونية والحديدية، وأحبار الطباعة والسناج في الكتابة على البردي والرق، وينصح باستخدام الأحبار الكربونية في الكتابة لثباتها الكيميائي ولعدم تغيرها بفعل الزمن، ولعدم تأثرها بالضوء، ولكنها تفسد بفساد الوسط التي تحل فيه.

وقد حدد علماء الإسلام ومفكروه وفي مقدمتهم القلقشندي صاحب كتاب "صبح الأعشى" أنواع الأقلام وأسمائها، والتي تستخدم في الكتابة على البردي والرق، وصفاتها مثل الصلابة والاعتدال وقلة العقد، وأشكالها كالسمك والنحافة، وأحجامها من حيث الطول والعرض، ومادتها حيث كانت تصنع من السعف أو الغاب أو القصب، وقد استقى القلقشندي وغيره من علماء المسلمين معلوماتهم عن الأقلام من مصادر أجنبية أبرزها كتابات جالينوس، وأبقراط، وأرسطو. وقد استمر استخدام ورق البردي والرق في الكتابة والتدوين بعد دخول المسلمين إلى مصر حيث وصلتنا مجموعة هائلة من البرديات والمخطوطات الرقية العربية التي تبرز عدالة الحكام والولاة المسلمين، وحسن إدارتهم لمرافق الدولة، وتسيير أحوال الشعب، كما أظهرت الأوراق البردية والرقية تسامح المسلمين مع أهل الذمة، حيث تركوا لهم معابدهم وكنائسهم وأديرتهم وصوامعهم دون أدنى أذى، بل حرصوا على حمايتهم شريطة أن يدفعوا الجزية التي تناسبت مع ظروفهم الاجتماعية وأحوالهم المالية، كما فندت البرديات والمخطوطات الرقية العربية التي وصلتنا أكاذيب المستشرقين الذين زعموا انتشار الإسلام بالسيف والنار، كما يلاحظ الناظر في المخطوطات البردية والرقية العربية تجاوزها هذه الموضوعات إلى موضوعات أخرى، منها عقود إيجار الأراضي الزراعية، والزواج والبيع والشراء، والرهن للممتلكات الثابتة والمنقولة.

كما نلاحظ أيضاً تراجع الدور الذي لعبته البرديات والمخطوطات الرقية في استخدامها لتدوين الأحداث الهامة، بعد نقل العرب صناعة الورق عن الصين، وإقامة العديد من مصانعه في بغداد، ومصر، والشام وتصديره إلى أوروبا عن طريق الأندلس. والسبب في ذلك يرجع إلى سهولة إنتاج الكاغد من أشياء متوفرة وسهلة التناول مثل الكتان والقطن، والقنب، والقماش "الكهنة"، وحبال المراكب، وشباك الصيادين القديمة، وغيرها من المخلفات البسيطة، وذلك على العكس من البردي الذي تتطلب صناعته وفرة جيدة من سيقان نبات البـردي الغضـة الطرية، بالإضافة إلى تفضيل الحكام استخدام الكاغد لوفرته، ولسد احتياجات المصالح الحكومية منه في جميع الأوقات.

وتضم مكتبة فينيا بالنمســا أنواعــاً كثيرةً من البرديات والمخطوطات الرقية التي دونت في مختلف العصور الإسلامية بعضها يرجع إلى الدولتين الأموية والعباسية، وبعضها دونت وكتبت في الدويلات الإسلامية التي أسست بعيداً عنهما كالدولة الإخشيدية، والطولونية، والفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، وعلى الرغم من أهمية المخطوطات البردية والرقية لم تحظ بالرعاية الكافية والاهتمام المناسب مما أدى إلى ضياعها أو تمزيقها، أو إصابتها بالأمراض الخاصة بالورق والرق، فضلاً عن تسرب العديد منها إلى خارج الأمصار العربية والإسلامية في فترات الظلام التي عاشته وكابدته هذه المجتمعات خلال فترات الاستعمار.

ومن الأمراض والتلفيات التي تتعرض لها البرديات والمخطوطات الرقية التلف الكيميائي، باعتبارها مواد مناسبة للتحلل الكيميائي بتأثير درجات الحرارة، ومعدلات الرطوبة غير المناسبة، فضلاً عن سوء التخزين، وعدم التنظيف الدوري لهذه البرديات والمخطوطات، كما تتعرض البرديات والمخطوطات الرقية إلى الإصابة بالتلفيات الفيزيو ميكانيكية، فضلاً عن تعرضها للعديد من الإصابات البيولوجية بفعل الحشرات "الذباب، والنمل خاصة النمل الأبيض"، والفطريات، والبكتريا، والجراثيم.

وصيانة المخطوطات البردية والرقية لا تتم بطريقة عفوية، بل تتم وفقاً لخطط وخطوات معدة مسبقاً بواسطة علماء الترميم، ولا بُدّ من أن تكون هذه الخطط والأساليب متفق عليها ومجربة، وصادرة بالمواثيق الدولية الخاصة بفنون وعلوم الترميم.

وتبدأ عمليات الترميم والعلاج بفحص المخطوطات البردية والرقية للوقوف على مادتها الأولى، وتحديد التلفيات التي لحقت بها وأسبابها، وبيان الترميمات السابقة إن وجدت، وإجراءاتها وطرق تنفيذها، وبيان الأجزاء الصحيحة منها، والإشارة إلى الأجزاء المصابة أو الممزقة وتحديدها، ويستعين المرمم في هذا العمل بالمراجع والسجلات الخاصة بهذه المخطوطات لمعرفة تاريخ أول وآخر ترميم أجري عليها ومواده وطرق تنفيذه، كما يمكنه استخدام المخطوطات البردية والرقية عديمة القيمة التاريخية والفنية في علاج الأجزاء المصابة، أو التالفة بالمخطوطات ذات القيمة التاريخية والجمالية الرفيعة، بدلاً من استخدام قطع بردية أورقية جديدة. والهدف من العلاج والترميم تقليل نمو الحشرات والفطريات، ومنع تكاثرها ولا يتأتى ذلك إلا من خلال التنظيف الدوري للمخطوطات البردية والرقية.

وينقسم التنظيف إلى التنظيف الميكانيكي الجاف الذي لا تستخدم فيه المياه أو المبيدات، بل يتم باستخدام فرش التنظيف مختلفة الأحجام والأصناف، وهذه الطريقة من الطرق الآمنة التي لا تضر بالمخطوطات، أما التنظيف الميكانيكي غير الجاف ففيه تستخدم المياه والسوائل والمبيدات والمذيبات، وهي طريقة غير آمنة في كثير من الأحوال، خاصة في حالة تسرب مواد التنظيف إلى مادة المخطوطات البردية أو الرقية، لذا ينصح بعدم اللجوء إليها إلا في حالات الضرورة القصوى، كما أن الغرض من العلاج والترميم للمخطوطات البردية والرقية هو الحفاظ على أحبارها من التحلل والجفاف، والانفصال عن الورق أو الرق، ولا يتأتى ذلك إلا باستخدام المذيبات الخاصة بهذا الهدف ومن أشهرها مذيب البارالويد المضاف إلى الزيلين والطولوين، وهو من الأنواع المشهورة تجارياً، والمتوفرة بالأسواق في أحجام وأشكال مختلفة بعضها صلب، والأخرى عبارة عن محاليل تستخدم في رش أحبار المخطوطات البردية أو الرقية.

كما تصان المخطوطات البردية والرقية عن طريق التخزين الجيد وعرضها في فاترينات محكمة الغلق، تعوق وصول الأتربة والغازات خاصة ثاني أكسيد الكربون إليها ولو بنسب ضئيلة، كما لا بُدّ من توافر درجات الحرارة المناسبة صيفاً وشتاءً، والتحكم في معدلات الرطوبة، وتوفير الإضاءة المثلى في الحجرات التي تعرض فيها هذه المخطوطات في المتاحف العامة والخاصة حتى لا تتأثر هذه المخطوطات بالعوامل البيئة المحيطة بها.

وصفوة القول؛ أن المخطوطات البردية والرقية تمثل ثروة قومية وتاريخية يجب الحفاظ عليها؛ لأنها جزء من تراثنا الثقافي الذي ورثناه عن أجدادنا العظماء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها