لُقب بـ"شيخ اللغة العربية"

والدي فجَّر لي زمزمَ العربية القرآنَ الكريم

حاورته: وحيدة المي

 

يسعى إلى جعل ما يكتبه بروائح وطعوم مختلفة، لسانيّ اختار التخصص في لغة القرآن الكريم والعلوم العرفانية. كان له السَّبق في إنشاء أول فهرسة في التاريخ لكتاب "التحرير والتنوير" لرائد الفكر الإسلامي والإصلاحي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.. اشتغل على تيسير الكتاب وتبسيطه منذ سنوات وقريباً يرى النور... هو أيضاً أول من ترجم "رباعيات الخيام" في المغرب العربي.. كتب المسرح والرواية، والبحوث الأكاديمية وترجم الشّعر. يدير بذكاء هذا التعدّد، ويعتبر من المدافعين عن اللغة العربية وإعلاء رايتها في وجه التحدّيات التي تواجهها حتى لقّب بشيخ اللغة العربية.. إنه الدكتور التونسي محفوظ غزال الذي أجرينا معه هذا الحوار الآتي.
 

◆ بدءًا تُلَقَّب بـ"شيخ اللغة العربية" من أين جاءت هذه التسمية؟

أول من لقبني بهذه التسمية الصديق الروائي التونسي عبد القادر اللطيفي، فانتشرت حتى في بعض مناطق المشرق، وهو شرف كبير للأمانة لا بد من المحافظة عليه، وفي عاميتنا البليغة يقال "لي سَمّاك غناك". فعلاً بعض التسميات سبيلٌ للنجاح.

◇ في أي إطار تم تتويجك لمرتين عالمياً ضمن أفضل مائة شخصية في العالم؟

هو تتويج شرفني به مجلس E-TURN بالمملكة الأردنية في إطار المساهمة في نشر اللغة العربية للناطقين بغيرها، من خلال أعمال وظفت فيها العلوم العرفانية، والاشتغال على الذهن لتسهيل تعلّم البلاغة والنحو والإقبال عليها.

◆ قدمت أيضاً محاضرات وورشات ومنتديات في مختلف الولايات في إطار تحسين المكتسبات اللغوية، هل يعود اهتمامك بالحقل اللغوي اليوم إلى التهديدات الكثيرة التي تواجهها اللغة العربية؟

أوضح أن اختصاصي هو اللسانيات، وهذا ما يجعلني أتعامل مع اللغة خارج التعامل التقليدي، فهي في الدراسات الحديثة نمط تفكير وليست أداة تواصل في المقام الأول، ومن هذا المنطلق أحرص على أن تكون لها قدرة على مسايرة الواقع، ولن يكون ذلك بغير إعداد الناشئة وتكوين التلاميذ تكويناً يتجاوز الدرس التلقيني التقليدي. العربية لغة ثرية وقد زيّنها القرآن، فهي مدينة له في بقائها حية وسط هذه التحديات الثقافية والحضارية، وهي أثرى اللغات لاحتوائها إجمالاً على ثلاثة عشر ملايين كلمة، ما تزال منها اليوم ستة ملايين كلمة متداولة، في حين أن اللغتين الفرنسية والإنجليزية لا تبلغان معاً مليون كلمة. إذن فهي أثرى اللغات باعتبار أن نمط التفكير عندها حسب عدد الكلمات سيكون أثرى بكثير.

◇ هناك اليوم دعاة للكتابة بالعامية في الأعمال الأدبية، هل هو الإفلاس اللغوي؟

باعتباري لسانياً من الضروري الإشارة إلى أن اللساني "ايميل بنفنيست"، أتى بنظرية القيمة اللسانية التي تقول إن كل لغة أو لهجة أدت معناها، ومسّت المتلقي من الداخل لها نفس قيمة أي لغة أخرى. وبذلك فإن التفاضل بين الدارجة والفصحى وهم كبير. وهذا في الحقيقة تصالح وفّره الدّرس اللساني. العامية أداة للتعبير والتواصل فلماذا نسحب منها جماليتها؟ هناك أبيات شعرية بالدارجة عندما ننقلها إلى الفصحى تفقد روحها ومعناها، ولعل قوَّتها الحقيقية تكمن في بلاغتها العامية. الخلاصة: اكتب بأية لغة أو لهجة تريدها لكن لا تسقط في الرداءة. وهنا لزام علينا تغذية الجانب المحلي بجمالية العمق الإنساني. لست ضد الكتابة بالعامية، لكن أخشى التدني بالمستوى إلى درجة الاستسهال، والابتعاد عن قضايا الإنسان إلى كثير من رداءة المشهد الفكري.

◆ كتبت الشعر والرواية والوثائقيات والمسرح والبحوث الأكاديمية، كيف تدير هذا التعدد؟

الأصل في التعدد أنه يمكّن من ثراء كبير، ومن تنقّل بين مجالات مختلفة أصبحت مطلوبة. وهو ما يسمى بالثقافة البينية multidisciplinary التي تمكّن من تعديد المشارب من باب التنويع للقارئ، حتى يجد في ما تكتبه روائح وطعوماً مختلفة. فمن يكتب يجب أن يتّسم بهذا التعدد في زمن تعدد الاختصاصات كي لا يَمَل أو يُمَل. فالصورة مثلاً نقرؤها بتعدد من حيث الصوت واللون والجودة، فما بالنا بذهن الإنسان عند القراءة.

◇ اشتغلت على اللسانيات في الخطاب الديني، ونبشت في هذا الحقل على خطورته وقداسته، وكان لك السَّبق في إنشاء أول فهرسة في التاريخ لكتاب التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ما الهدف من ذلك؟

نشأت في بيئة قرآنية بامتياز، أنا من منطقة بني خداش من أشهر محافظات الجنوب التونسي في تحفيظ القرآن. فجَّر لي والدي أبقاه الله زمزمَ العربية القرآنَ، ولكنني بممارسة التعليم والدروس والمحاضرات والبرامج التلفزية، اكتشفت أن كثيراً مما كتبه المفسرون لم يصل إلى الناس لتباعد ما بيننا وبين العربية للأسف طبعاً. وما كتبه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في"التحرير والتنوير" من أرقى وأعمق ما يمكن أن تقرأه، لكنه عصيّ على الفهم لأنه يصدر عن عمق تكوين وثقافة متينة، لذلك أشتغل على تيسير الكتاب وتبسيطه منذ 13 سنة، وقريباً يرى النور بحول الله تعالى. والغاية من ذلك تقريب هذا الكتاب من الناس، ثم لأن الخطاب الديني اليوم هو خطاب مكرر هناك ثوابت لا يمكن التجديد فيها لكن ما يحوم حولها نوجد له طريقة؛ كي يكون القرآن واقعاً نعيشه، فالقرآن للأسف وقع اختزاله في التخويف والعقاب والجنة والنار، في حين أن القرآن هو واقع نعيشه، وعالم دنيوي ديني ينتشل الإنسان من حضيض الحيوانية إلى معارج الطهر.

◆ ما الجهات التي يمكن أن تستفيد من هذا المشروع الكبير؟

كتاب التحرير والتنوير جاء في ثلاثين جزءاً بعدد أجزاء القرآن إذ كل جزء حزبان. ولكن "التحرير والتنوير" كتاب نخبة حتى المتخصص في العربية لا يستطيع ولوجه ببساطة؛ لأن الشيخ ابن عاشور هو ثالث ثلاثة في الثقافة العربية الإسلامية جعلوا مداخل التفسير لغوية: الزمخشري في كتابه "الكشّاف"، وأبو حيّان الأندلسي في كتابه "البحر المحيط". ورغم ثراء الكتاب لا يوجد فيه غير فهرسة لشرح الآيات فقط، فوضعتُ فهرسة للأبيات الشعرية، ولأنصاف الأبيات، والحكم والأقوال المأثورة، والأحاديث النبوية وغيرها لتيسير عملية البحث للباحث الأكاديمي. وقد استغرق العمل تسع سنوات، علماً أن الفهرسة يدوية لصعوبة التعامل مع الكتاب، بسبب وجود أخطاء كثيرة في الطبعة الأولى.

◇ ما الفائدة من الكتابة للنخبة؟

شخصياً لا أكتب للنخبة. حتى كتاب "تيسير التحرير والتنوير" الذي سيصدر قريباً أردته لكل الناس. كما نأيت به عن الخلافات الكبرى في تفسير لغة القرآن بين المفسرين، وذهبت في التفسير مباشرة إلى المعنى الأيسر والأكثر تداولاً ونفعاً.

◆ اخترت التخصص في لغة القرآن الكريم والعلوم العرفانية ما المقصود بهذا المصطلح الدقيق؟

نوضح أولاً أن لغة القرآن تختلف عن العلوم العرفانية. وهي ترجمة Cognitive sciences وهي علوم حديثة تشتغل على فهم دماغ الإنسان وذهنه، لا علاقة لها بالعرفان الصوفي، وهي ثمانية علوم تشتغل مع بعضها في مخبر واحد، منها: أربعة علوم صحيحة، وأربعة علوم إنسانية.

◇ دخلت عالم ترجمة الشعر وفي هذا السياق تتنزل ترجمتك لرباعيات الخيام وهي أول ترجمة في المغرب العربي؟

الربعايات من النصوص التي لا تقتلها القراءة الواحدة، وهي من النصوص المعالم التي تضيف إليك جديداً في كل قراءة جديدة. استغرقت ترجمة الرباعيات حوالي أربع سنوات، وهي من الأعمال التي تحتاج نفساً طويلاً. كانت أول إطلالة عليها من الفارسية إلى الإنجليزية مع "إدوارد فيتزجيرالد"، وقد ترجمها لأول مرة عندما أحس المجتمع الأمريكي في القرن 19 بكثير من الضياع والتيه، وجعلها يوماً من الفرح، وبيّن للمجتمع الغربي الجانب الروحي في الإنسان لكنه غيّب كل ما يتصل بالله سبحانه وتعالى، وطلب المغفرة الموجودة في النص الأصلي. وربما يعود تغييبها لأنها لا تتناسب مع جعله الرباعيات يوماً واحداً يعيشه الإنسان. وللتوضيح فإنه لا وجود لدليل يؤكد أن عمر الخيام قال هذه الأبيات، لكن أرجح الآراء أنه قالها رغم الاختلاف في عدد الأبيات. هي من النصوص الملغزة مثل ألف ليلة وليلة، وقد أطل العرب على جمالية رباعيات الخيام بصوت أم كلثوم، ولحن رياض السنباطي، وترجمة أحمد رامي.

أما عن عملي فقد جمعت 92 نصاً من العربية والفرنسية والإنجليزية، وولّدت نصاً جديداً على بحر الرّمل، وقدّمها مؤطري وأستاذي توفيق قريرة بحس نقدي جميل، وبين كيف أن الرباعيات حوسبة في ذهن الإنسان. وعمر الخيام ليس شاعراً فقط بل هو موسوعي يبحث في العلوم كلها، فهو فلكي ورياضي أيضاً. الجديد الذي أتيت به في الرباعيات هو أني قسمتها إلى أربعة أجزاء كبرى الأولى مسألة اللذة والمتعة، والثانية مسألة التردد والشك، والثالثة الحكمة، والرابعة مناجاة الله لتُختم كلّها بدعوة إلى المغفرة.

◆ رغم أنك كتبت في مجالات متعددة طرقت باب المسرح كتابة، ما الذي لم تقله وترغب في إيصاله من خلال هذا الفن؟

لي عشق كبير للمسرح رغم أنني نشأت في مدينة لا مسرح فيها. أنا أكتب على الركح مع الممثلين وبارتجالاتهم وبقدراتهم على ترجمة الكثير من الأفكار. كتبت ستة نصوص كلاسيكية في مسرحية "حقائب"، ثم مسرحية "ريتشارد الثالث"، وكلتاهما مع المسرحي التونسي جعفر القاسمي نالتا جائزتين عربيتين: حقائب في المسرح التجريبي في مصر، 2009، والأخرى نالت جائزة أحسن عمل للهيئة العربية للمسرح في الشارقة.

◇ تعودنا أن يكون المسرح في لغة الجمهور غير أنك تشتغل على المسرح الكلاسيكي النخبوي باللغة الفصحى كيف تقرّب هذا النوع من الجمهور؟

حققت "رتشارد الثالث" و"حقائب" نجاحاً كبيراً لأن النصوص لم تكن موغلة في النخبوية. فاللغة الحقيقية تحتوي على ثلاثة جوانب، الفونولوجي الصوتي، الدلالي، والرمزي الذي يفك المتلقي شفرته ويعيد صياغته بالتفاعل، وهو ما يترجمه رضا الجمهور. ثم إن العربية لغة فاتنة بأتم معنى الكلمة، غير أنها مثل المرأة الفاتنة إذا ألبسناها لبوساً متكلّفاً تكون قبيحة.

المسرح بالنسبة إلي سعيٌ إلى أن أنسج جانباً فنياً جميلاً بعمق دلالي ينفع الحضارة والأمة اليوم؛ لأنه أصبح لدينا نوع من التطبيع مع الرداءة الفنية.

◆ الرداءة اليوم طالت الأدب والفن والمبادئ كيف نحمي أنفسنا من السقوط؟

دعوت في منابر إعلامية كثيرة إلى تأسيس مجلس أعلى وطني للتربية والثقافة والعلوم، يتولى تجويد الجوانب الفنية تكون له سلطة حقيقية لحماية الهوية والثقافة، وأبناء الجيل من السقوط في الرداءة. هذا يمكن أن يحققه المسرح النبيل بالتراجيديا والكوميديا أيضاً. أذكر هنا مسرحية باللغة العامية "قرار هدم" هو نص مضحك لكنه ضحك كالبكاء في ثناياه الكثير من الألم. لذلك أتدخل كثيراً في العمل المسرحي، وأشيد في هذا المجال بالممثل جعفر القاسمي الذي اشتغلت معه في مسرحيتين، وله قدرة رهيبة على أن يسمح لكاتب المسرحية بالتدخل حتى في السينوغرافيا، ويمنحه مساحة من الإبداع خلاقة.

◇ "تمر المجانين" نص مسرحي جديد تطرح فيه مفهوماً مختلفاً للجنون؟

هو النص الذي من خلال الجنون يمكن أن نتبين شيئاً من الرّشد عن هذا العالم. مجموعة من المجانين يتحدثون بما يدفع المتلقي إلى السؤال هل هم فعلاً مجانين أم لا؟ وهو تنبيه إلى أن الجنون الحقيقي ألا تفعل شيئاً وتبقى صامتاً، أن تموت وأنت حي وألا تحاول التغيير. سيكون العمل حاضراً في أيام قرطاج المسرحية المقبلة إن شاء الله.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها