الترابيون..

حسين القباحي والحفر في ذاكرة المكان

أشرف محمد قاسم

الترابيون هم أبناء الأرض وملح ثراها، هم من يتشبثون بالوطن، ولا يغريهم الرحيل، ولا يبحثون عن شيء سوى تراب هذا الوطن ليواريهم عند رحيلهم، كي لا يموتون غرباء في بلاد غريبة.
هذا الوطن الذي يحتضن رفات الأجداد والآباء هو جزء أصيل من الروح، ربما نغادره أحياناً مرغمين، لكن قلوبنا تظل متعلقة به أينما توجهنا، حتى نعود إليه.
 


حسين القباحي


على هذه الرؤية أسس وأقام حسين القباحي معمار ديوانه الجديد "الترابيون"، الصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذي يحوي بين دفتيه أحد عشر نصاً، يتكئ فيها الشاعر على الموروث الثقافي والتاريخي -تحديداً-، ويحفر عميقاً في ذاكرة المكان بأبعاده وإشاراته ورموزه، وتقاطعاته مع الواقع، وتجلياته المتشعبة في الطرح، واستلهاماته التاريخية التي تعزز جماليات النص الشعري:
يقف الترابيون
خطاً فاصِلاً
بين الذي باحت به الأنهار
أو تركته
من طين الضفاف
وزخرفات الأخضر المدسوس
في رحم الصحارى
وانشغال الماء بالفوضى
وبعثرة الحطام. الديوان
، ص: 11.

من خلال تفجير طاقات هذا الإرث التاريخي برموزه وإشاراته في النص الشعري، يضيء حسين القباحي مناطق معتمة في دهاليز هذا التاريخ، بدلالات جديدة تصنع وعياً جمالياً مغايراً لدى المتلقي، وتفتح كُوى الماضي ليرى من خلالها آفاق المستقبل:
هم بعض قومي
والجنود
هم السماسرة اللصوص
إذ يعرفون طريقهم نحو الجنوب
ويذهبون
إلى المشارق والمغارب والشمال
يبقى الترابيون في وجه الخليفة
وحمة سوداء
يعرفها الأباعد والأقارب
وليس تبصرها البلاد. الديوان، ص: 16.

هذا الاستلهام الواضح لروح التراث، وتوظيف إمكاناته وفيوضاته في النص الشعري، يعمل –لا إراديا- على تجديد الوعي لدى المتلقي بقيمة هذا الإرث الحضاري، الذي تركه الأجداد "الترابيون" ليكمل الأحفاد على نفس الدرب، مما يعكس صورة واضحة لالتصاق وتلاحم الأزمنة والأمكنة في الشعرية العربية:
بندوب قادمة من عمق التاريخ
وأحزان المدن المنسية
والفلوات
يقيم على سغب
يكشف عن نار براءته العمياء
قدماه
على جبلين بعيدين
وعيناه
تظلان بيوت الطين
وتغتسلان بماء النيل
وعربدة قراه. الديوان، ص: 19.

من هنا جاءت لغة الشاعر لغة رصينة أقرب إلى اللغة التراثية بعيدة عن الإغراب والتعتيم، منطلقة عبر فضاءات متعددة الدلالات، منفتحة على التأويل، لغة ذات خصوصية بما تحتوي عليه من مجاز وإيحاء وخيال منطلق، يحمل خطاب الشاعر الشعري دون ترهل أو اكتناز، حاملة همومه، ومعبرة عن الآخر، يوظفها الشاعر توظيفاً رحباً، يوسع دلالتها، مع الحفاظ على بنية اللغة الشعرية والبعد عن المباشرة، والثرثرة المجانية:
هي بنت شقاء
أم بلاد الله
ومذ ولدت
سيدة الأرض
وأخت الطين
ولما سلف من الأوجاع
وما غناه البسطاء الموتى والقدماء
تهيم
العشاقة دوماً والباحثة عن المعنى
كاتبة كتاب الموتى
ومزامير الرسل الأول
وباذرة القمح
أخت شعائرها
وربيبة عشق العشاقين
وباعثة الشهوات
خالفت المعنى حتماً
حين تخلت عن رائحة الطين
وكشفت عورتها للغرباء
يرعاها الله. الديوان، ص: 71.

كما أن هذه اللغة الرومانتيكية التي حملت نصوص الشاعر بما تحتويه من عاطفة وصدق وخيال، هي لغة تحمل تساؤلات مهمة ومعقدة عن حقائق الوجود والتاريخ، راسمة ذات الشاعر القلقة المغتربة المتوترة في صوره الشعرية المتعاقبة في ثنايا نصوصه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها