صوت الذات مجذاف في بحر آخر

جولة في ديـوان «كمـا لو أنني للتَّو»

سريعة سليم حديد

تمتدُّ السنابل على المساحات البيضاء، فتتناثر حبوبها معلنة ولادة قصائد جديدة بقواف خصبة وملامح زهو وجمال... حينها تقف على الأبواب مشرَّعة الجبين تطقطق بنعالها الذهبية لتدخل القلوب بكل لطف ورقَّة. وها نحن الآن أمام ديوان من الشعر للأديب عبد الله محمد السبب، يحمل في طيَّاته الكثير من العواطف الجياشة، والمعاني اللطيفة، وقد نثر على الصفحات قصائده المميَّزة في ديوانه الذي بعنوان: كما لو أنني للتو..
 


الناشر: وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع. (الطبعة الأولى: 2013م) دولة الإمارات العربية المتحدة
 

يبدأ ديوانه بمقدِّمة هامة، أوضح فيها مسؤولية المجتمع تجاه الشباب الذين أخذتهم (التكنولوجيا) الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، مما أبعدهم عن المطالعة والاهتمام بالثقافة، ومن هنا جاءت المهمَّة الصعبة، وهي إعادة بناء شخصية الشباب وذلك بالعودة إلى العلوم الإنسانية وبالتالي التوجيه الحثيث نحو المطالعة.

أولى القصائد بعنوان الشاعر ص: 9، قيلت بمناسبة اليوبيل الفضي لمسيرة وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في عام 1985م – 2010م، فقد امتلأت بالمشاعر الفياضة والمعاني غير المطروقة التي حاول الشاعر أن يلبسها إياها لتخرج إلى العلن بحلَّة جديدة ومبسم ثر.

الشاعر مارد يتقن التقافز بين الجبال الجليدية والزمن الكئيب، وقد أفرغ ما في داخله من العواطف الجياشة، عندها أعلن أنه أنهى قصيدته، وقد صرَّح بأنه كتبها قبل الولادة، نقتطف:
"مارد يتقافز بين جبال جليدية وزمان كئيب
مارد والفصول تحيط بأمجاده
وهو يذهب في نفسه ويغيب
قال حين أتم قصيدته
قلتُ شيئاً مهماً
ومضى في الينابيع حتى تفجر حبر الصباح
ومضى في الينابيع حتى استراحت وحتى استراح
من هنا ليس تبدأ هذي القصيدة
وهذا كلامي أنا بين قوسين أو تهمتين
إنها بدأت قبل أن أولدا
غير أني أمد اليدا
لأكتبها مرة ثانية
حبيب الصايغ"

أما قصيدة: كما لو أنني للتو، ص: 10 التي احتلَّت عنوان الديوان فقد اتخذ لها الشاعر عبد الله مساراً آخر عبر تدفُّق العواطف، فكان الزمان ليلة زاهية الغبار. هذا الوصف وضع القارئ أمام حشد واسع من الصور الجمالية التي يمكن له أن يتخيلها. ويتابع الشاعر ماذا وجد في تلك الليلة؟ لقد تجلَّت قطرة ماء ملثَّمة، وعلى الرغم من ذلك، فهي تشعُّ ملحاً ودماً وظمأ.. فينتقل إلى ليلة وارفة الظمأ ليصرِّح عما يجول في نفسه، كما لو أنه للتو، نقتطف:
"في فضاء ليلة زاهية الغبار
قطرة ماءٍ ملثمة
تشع ملحاً
ودمعاً
وظمأ
ترتطم بكتلة صمت شاهقة
تتفتح زوبعة سخط بائسة
في فضاء ليلة وارفة الظمأ
دمعة ماء نافقة
(أنا)"

في قصيدة: ضوء، ص: 11 يشكو الشاعر الألم من الفراق لطول المسافة، فهو متعب وقد رماه الوجع فوق بساتين الجمر، وهنا استخدم الشاعر علم المعاني مستفيداً من حالة التضاد، فكيف يكون البستان موطناً للمتعة وفي الوقت ذاته مكاناً للعذاب والألم!
آآآه ..
أخذتُ أرتل حلماً
كان يقودني
نحو بساتين الجمر
نحو سراديب الجحيم
مُتْعَبٌ
أيها البحر .. آآآه

قصيدة: هو البوح بمحاذاة السؤال، ص: 14 يحلِّق الشاعر في الصور تاركاً الخيال يسرح على هواه في عوالم الجمال والمشاعر الفيَّاضة.. فهو مطر أيقظه الوقت. راح يحدِّد ما يريد لنفسه، وما يريد للآخرين فيقول: "هذه الساعة لي، وهذه الليلة لكم.." يسعى إلى التميُّز في تلك الساعة، وهو يمارس الشموخ والذهول والسقوط والحضور الغريب.. وماذا بعد، ولماذا؟ ليشعل ثرثرته ويدخِّن.. فقد نقَّل الشاعر المتلقي بين سماوات عدَّة من المعاني المتقافزة ليصل إلى غايته التي لا يمكن للمتلقي توقعها أو الوصول إليها. وتتوالى الصور وسط المعاناة ليكشف الشاعر عن حالته فيبدو افتراسياً، دموياً، تتارياً، هتلرياً، عنقودياً.. ثم يهدِّئ من روعه، فيبدو حالماً مثل فراشةٍ بلون قوس قزح... ليختم القصيدة في النهاية، نقتطف:
"هو البوح،
بمحاذاة السؤال:
في ذاكرة الوقت
بين دفتي هذا العراء
أبدو أنا...
ص14

نقلِّب صفحات قصيدة: الطواف حول الذاكرة. فتدهشنا المقدِّمة التي تنضح بالألم والجمال لتعبِّر عن الحالة المعاشة بكل بساطة.. نقتطف:
"على مقربة من مضارب الشمس
تترصدني أشباح الفصول
تتصيدني عفاريت السهول
تتناهشني خفافيش القلق"
ص: 18.
وما بعد المعاناة تتشوَّش الرؤية، فماذا يتراءى له، نقتطف:
"يتراءى لي
أن نخّاساً ما
ينوي الاستيلاء على هيكلي"

مما يميِّز القصائد في الديوان أن الشاعر يبدأ كل قصيدة بومضة مكثَّفة خاطفة تحمل على عاتقها ثقل القصيدة، وترسل إشعاعات ملوَّنة إلى ما تحمله الجمل التالية من مفاجآت المعاني، مثل ذلك في قصيدة: شهقتان والثالثة على أُهبة الصهيل، نقتطف:
"ضجيج
في هذا العالم
غجري لا أعرفه
أظنه أنا..."

بعد ذلك يتابع الشاعر قصيدته، وقد قسَّمها على مقاطع مرقَّمة. نقتطف:
 (1)
"ها هو أنا
الذاكرة تأتي لزيارتي
تطرق أبواب العزلة
تحمل قنبلة هذيان
وعلامة استفهام أزلية
مغلفة بالصمت
مبطنة بالاحتضار:
من أنا..؟!"

ويتابع الشاعر قصيدته، وقد أشبعت بالصور العذبة، بما نثره فيها من جمال ومتعة، وقد رسم فيها لوحة من خيال، وهو يحدِّث ذاته وسط ضياع في المرآة، نقتطف:
"ما زلت أبحث عني
أفتش عني بين أنفاس المطر"

في قصيدة انسلاخ، يفتح الشاعر آفاقاً جديدة مبتعداً عن المعاني المطروقة، مثل: الأسود يغمض يديه.. ويرجماني بالنعاس.. فأية أداة تلك التي يُرجم فيها الشاعر. وحين يكون الليل "لص محترف" تتولَّد لدى المتلقي عشرات الصور التي يمكن له أن يتخيَّلها في خضمِّ الأحداث.. وتندفع الومضات، وقد اتكأ الشاعر على التاريخ منادياً، نقتطف:
"(سنمّار) .. لا تنم
لن أسترشي الليل بقبلة
لن أنام..."

تتنوَّع الموضوعات لدى الشاعر فيتنقَّل بين الجوانب الإنسانية المختلفة من حبٍّ وكراهية وسخط ووجهات نظر ممتدَّة نحو البعيد. ففي قصيدة ناطحات سراب. يبتكر الشاعر ربيعاً في المرآة، فيوقظ أنفاس البخور، ويعانق إضمامة من الصحو، وقبلة ضوء.. نقتطف:
"وجهي يورق في المرآة
يوقظ أنفاس البخور
يُعانق ..
باقة صحو
قبلة ضوء"

نتابع فتح الصفحات لنصل إلى قصيدة: وميض الصاعقة عشر... تتشعَّب الرؤى لتنضح القصيدة وجوهاً متنوِّعة، فقد يوجِّه الشاعر سهام قصيدته لنفسه واضعاً إياها في زوايا حادة، فمثلاً: "في لحظة ما، كدتُ أقع ثملاً محنطاً في فم خديعة".

فهذا التعبير يدلُّ على معاناة كبيرة تصبُّ في ذات الشاعر لتفتح آفاق الخيال أمام المتلقي الذي يبدأ البحث عن صور يتوقَّع أنها كانت من أهداف الشاعر. ويتابع:
"أنا الآن
أراقص ذاكرتي

وأشتعل.. "فأي اشتعال هذا الذي يتبع الرقص مع الذاكرة؟! ويتابع:
"في جمجمة، لا أستوعبها أنا.. ثمة خريطة .. تتوهج عتمة"، ويتابع الشاعر بوحه ليقول: "ورائي.. أقف أنا.."

فنلاحظ أنه يحاول جاهداً الإتيان بما هو جديد. فما هذه المحادثة للذات إلا قارب راح يشق طريقه وسط الأمواج العاتية محاولاً الوصول إلى الشاطئ بسلام.. فينهي الشاعر القصيدة بقوله: "هكذا، أتهجى الأشياء" فهذه قراءته التي يريد إيصالها لنفسه أولاً وللمتلقي ثانياً.

في العديد من القصائد يلاحظ المتلقي اعتماد الشاعر في الدرجة الأولى على إثارة الروائح والأصوات، وقد بدا هذا جلياً في عناوين القصائد منها مثلاً: نكهة الدم، وقصيدة دم الرائحة، وقصيدة رائحة الصوت، وقصيدة صوت النار.

في قصيدة: نكهة الدم، ص: 35 نلاحظ قصر الجمل التي تحمل معاني دلالية كبيرة ليعود الشاعر إلى أسلوبه المعتاد في محادثة الذات والكشف عن خفاياها. فماذا بعد الليل والنوم والصمت؟ نقتطف:
"لما كنت أذعن إلى صافرة الشمس
أدخل إلى جمجمتي
فأستل ذاكرتي
وأستل تواريخي المنصرمة
لما كنت أرتكب تلك المغامرة
تتحينني الهزيمة
وتتأهب..."

في السياق ذاته تسير قصيدة دم الرائحة، ص: 36 وكأنها جزء من القصيدة السابقة نثرها الشاعر بحرقة وألم، نقتطف:
"كضحكةٍ أليفةٍ
تسكب في ذاكرتي أفيون الضجيج
يتوزعون
كقافلة مزهوةٍ بحملها
وكـ ......،
وكـ ......
كعاصفةٍ مسيجةٍ بالصواعق
تقتحمني الهزيمة
وتنام ..."

في قصيدة رائحة الصوت، يحاول الشاعر ابتكار صور مختلفة عما هو مألوف، ومتى كان للصوت رائحة؟ بهذا يدخل قصيدته معتمداً على الكثير من التشبيهات المتلاحقة، نقتطف:
"كمن يسلب البحر زرقته
ويحيل الموج إلى كومة سراب
كمن يهدي القمر
شهوة الجاذبية
وأنوثة السماء
أستدعي غرائزي
وأتأهب..."

أما القصيدة التي بعنوان: صوت النار، فقد جاءت بالنفس ذاته الذي جاءت به القصيدتان السابقتان ففيها تكرار لكلمة (ريثما) عدَّة مرَّات، كذلك تكرَّر حرف التتشبيه (الكاف) في قصيدة دم الرائحة، وكلمة (لما) في قصيدة نكهة الدم. وهذا يدلَّ على أن الشاعر يريد تأكيد الحدث والإصرار عليه. نقتطف من قصيدة صوت النار:
"وريثما...
وريثما...
ريثما أظفر بملائكة النعاس
أقلم رغباتي
وأنام..."

ختاماً، الشاعر محمد عبد الله السبب قلم يحمل في مداده لوناً ونبضاً وعواطف جيَّاشة، يفتح لنفسه طريقاً وسط دوحات الشعر الملوَّنة ليترك بصمة في مكتبة الشعر العريقة.


المؤلِّف في سطور: 
عبد الله محمد السبب، من مواليد الرمس في رأس الخيمة، دولة الإمارات العربية المتحدة: 1965م.
حاصل على درجة البكالوريوس في التجارة، إدارة الأعمال، من جامعة بيروت العربية: 2000م.
بدأ الكتابة من على مقاعد الدراسة الإعددادية في سبعينيات القرن العشرين، وبدأ النشر في وسائل الإعلام منذ العام 1983م، في مختلف فنون الكتابة (الشعر والقصة والمقال والدراسات الأدبية والتراثية والتاريخية والرياضية)، وله مشاركاته الأدبية والثقافية في الصحافة العربية والمنتديات الثقافية المحلية والعربية.
من رواد قصيدة النثر في دولة الإمارات العربية المتحدة.
من الرعيل الأول لكُتّاب القصة القصيرة في دولة الإمارات العربية االمتحدة،
رائد القصة القصيرة جداً في دولة الإمارات العربية المتحدة.
له تجربة سينمائية واحدة: كتابة نص فيلم "القرار": فيلم وثائقي إماراتي "أول تجربة سينمائية عن الجزر المحتلة (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى)، للمخرج الإماراتي "ناصر اليعقوبي"، إنتاج (مجموعة انعكاس الفنية 2007م.
وله تجربتان في الكتابة المسرحية:
نص (مذاق الضجيج)، من المسرح الإيمائي: نشر في العددين من مجلة مسرح رأس الخيمة الوطني (الملتقى الأدبي): ديسمبر 1991م/ مارس 1992م.
نص (الكرسي)، من المسرح المدرسي: لحفل تخريج طالبات الصف الثالث الثانوي الأدبي "مدرسة النهضة الثانوية" في الرمس برأس الخيمة: للعام الدراسي 2001م/ 2002م.
وخلال مسيرته الثقافية والأدبية، ساهم في تفعيل المشهد الثقافي المحلي والعربي، وحقق العديد من المنجزات على الصعيد الإبداعي.
من إصداراته في الشعر:
1996م: (الآن): ديوان شعر، إصدار خاص، بواسطة الناشر "دار المسار للدراسات والاستشارات والنشر" الشارقة.
1997م: (عصر): ديوان شعر، إصدار خاص، بواسطة الناشر "دار المسار للدراسات والاستشارات والنشر" الشارقة.
1998م: (مشهد في رئتي)، ديوان شعر "مشترك": "قبعة" هاشم المعلم، "ضجيج" أحمد عيسى العسم، "قميص" عبدالله محمد السبب. "إصدار خاص"، بواسطة الناشر "دار المسار للدراسات والاستشارات والنشر" الشارقة.
2008م: (المرايا تُحدّث أخبارها): ديوان شعر، الناشر: "دائرة الثقافة والإعلام"، حكومة الشارقة.
2008م: (الإمارات في قصائدنا)، مشترك، مع مجموعة من شعراء الإمارات، جمع وإعداد فاطمة المعمري، الناشر: "وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، بمناسبة اليوم الوطني 37 لدولة الإمارات العربية المتحدة.
2013م: (كما لو أنني للتُّو)، مختارات شعرية، نسخة عربية، الناشر: "وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع" أبوظبي.
2014م: (كما لو أنني للتُّو)، مختارات شعرية، نسخة فرنسية، الناشر: "وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع" أبوظبي.
2014م: (لُفافة)، قصائد مختارة، الناشر "وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع" أبوظبي.
2014م: (أطلس، حيث الإمارات العربية المتحدة)، ديوان شعر وطني، الناشر: "اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات" الشارقة، و "وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع" أبوظبي.
2015م: (صلاة)، ديوان شعر، الناشر: "اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات" الشارقة، و "وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع" أبوظبي.
2019م: (شموع ذات ألوان)، 33 قصيدة عربية مع ترجمة إنجليزية: "مشترك"، مع مجموعة من شعراء الوطن العربي، بدعم من مبادرة "1001 عنوان".. تحرير القسم العربي د. عبدالحكيم الزبيدي، تحرير القسم الإنجليزي د. غانم السامرائي، المحرر العام د. شهاب غانم.
وله أيضاً العديد من الإصدارات في القصة والدراسات والمقالات وأدب التراجم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها