مفهوم التثاقف وتجلياته فـي المسرح العربـي

بدر الدحاني

يعد مفهوم التثاقف من المفاهيم الإشكالية التي لقيت اهتمام العديد من الباحثين والنقاد في مجالات ذات الصلة بالبحث الاجتماعي عامة، والأنثروبولوجي خاصة؛ وامتدت عمليات البحث إلى جل السياقات الفكرية والمعرفية المرتبطة بقضايا المفهوم النظرية والـتطبيقية والإجرائية. 
وبناءً عليه، يأتي سياق البحث في مفهوم التثاقف، بالظاهرة التثاقفية التي شهدتها البلاد العربية في الفن المسرحـي، وما عرفه هذا الأخير من تفاعل وانفتاح مع/على الثقافة المسرحية الغربية. والسؤال المطروح في هذا الإطار، هو هل مسألة الانفتاح هاته مرتبطة بسياق التثاقف الحاصل بين الأشكال الإبداعية؟ أم هي جاءت في ظل سياقات اجتماعية وسياسية فرضتها ظروف غير مباشرة؟ ويبقى الطرح الإشكالي قائماً على مبدأ الغائية المتوخاة من هذا المقال البحثي، بحيث يقوم في أساسه على دراسة إشكالية التثاقف المسرحي الحاصل بين الثقافتين العربية والغربية.

 

مفهوم التثاقف


"يبدو أن الاسم "التثاقُف"، بما هو اسم، كان قد ابتدع، منذ عام 1880، من قبل ج. و. بويل (J. W. Powel) عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الذي كان يسمي هذا تحوّلَ أنماط حياة المهاجرين وفكرهم في تماسّهم مع المجتمع الأمريكي. ولا تعني الكلمة مجرد (نزع للثقافة)"1.


ج. و. بويل John Wesley Powell


وفي تعميق المعرفة بمكامن مفهوم "التثاقف"، »أنشأ "مجلس الولايات المتحدة للبحث في العلوم الاجتماعية" سنة 1936 لجنة مكلفة بتنظيم البحث في ظواهر التثاقف (...)2 وتم وضع توضيح دلالي للمفهوم، وهو: إن التثاقف هو مجموع الظواهر الناتجة عن تماس موصول ومباشر بين مجموعة من أفراد ذوي ثقافات مختلفة، تؤدي إلى تغيرات في النماذج الثقافية الأولى الخاصة بإحدى المجموعتين أو كليهما«3.

وتنحصر عمليات التماس الثقافي "التثاقف":
"بحسب أن يكون التماس بين مجموعات بأكملها أو بين شعب بأكمله..
- بحسب أن يكون ودياً أو عدوانياً
- بحسب أن يكون بين مجموعة متماثلة التعقيد في ثقافتها أو لا
- بحسب أن يكون نتيجة الاستعمار أو الهجرة"4.

وأخذ إذن مفهوم "التثاقف" تعبير اصطلاحي مفاده: أنه بمثابة "تماس موصول ومباشر بين مجموعة من الأفراد ذوي ثقافات مختلفة"؛ أي تأثر بثقافة مغايرة غير الثقافة الأصلية. وتصير هنا الثقافة مكتسبة في إطار هذا المفهوم، وإذا نظرنا إلى سياقات حدوثه، وبخاصة "أن يكون نتيجة الاستعمار أو الهجرة"، نجده في الحقيقة متجذر بهذا المعنى في الثقافة العربية، أي أنه يحدث للفرد أو الجماعة جراء عملية "التثاقف"، اكتساب لخصائص ثقافية أخرى، وتغدو مؤثرة في السلوكات الثقافية والاجتماعية، وهذا بالضبط ما حدث للمسرح العربي.

في كيفيات حدوث التثاقف المسرحي

ورد في تعريف لمفهوم "التثاقف" على أنه "مجموع الظواهر الناتجة عن تماس موصول ومباشر بين مجموعة من أفراد ذوي ثقافات مختلفة..."؛ وجراء هذا التماس الحاصل، يطرأ تغيير جوهري في النماذج الثقافية، أي في إحداهما أو كليهما.

ومسألة التثاقف التي شهدتها البلاد العربية، تجلت في سياقين، السياق الأول: يتمثل في ظاهرة الاستعمار التي عرفتها العديد من الدول العربية، والسياق الثاني: يتجلى في الهجرة، والتي أدت إلى جلب الثقافة الغربية إلى البلاد العربية من طرف أفرادها (مفكرين، مثقفين، أدباء، فنانين...)، وغيرهم من الشرائح المجتمعية. أضف إلى ذلك، التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي عرفتها أوروبا في القرن 18 عشر، والتي أثرت بدورها في الثقافة العربية، وبالتالي، مساهمتها في تجسيد معالم التثاقف.

ثم ظاهرة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، وهي ظاهرة الانفتاح الثقافي على الغرب، هذه الظاهرة بدورها ساهمت في التأثير على الثقافة العربية عامة، والثقافة المسرحية خاصة، لكن السؤال المطروح هو: ما هي أسباب حدوث التثاقف المسرحي؟

إن من بين أهم العوامل التي كانت سبباً في حدوث "التثاقف المسرحي"، تجلت في ثلاثة عوامل أساسية:
- أولا: ظاهرة الإستعمار
- ثانياً: ظاهرة الهجرة
- ثالثاً: ظاهرة الانفتاح على الثقافة الغربية

كل هذه العوامل أرست وقعدت لمفهوم "التثاقف" في جل المشارب الثقافية للمجتمع العربي، ومنها المسرح؛ إذ شكلت ظاهرة الاستعمار على بعض دول العالم العربي، حدوث عملية التثاقف المسرحي، وأثَّر ذلك بشكل كبير في المسرح العربي، حيث بدأت بوادر الثقافة المسرحية الغربية تنتشر بجلاء وتتمثل عوالمها في الإبداعات المسرحية العربية، على مستويات (التأليف، الإخراج، المعمار السينوغرافي، وفلسفة الأداء التشخيصي...).

وعليه، »تشكل ظواهر التثاقف "ظاهرة اجتماعية كلية"، وهي تمس كل مستويات الواقع الاجتماعي والثقافي، لذلك لا يمكن أن ينحصر التغير الثقافي، ما قبلياً ولا أفقياً، ضمن المستوى نفسه، ولا عمودياً في ما بين المستويات المختلفة«5. إذن مساءلة قضية التثاقف المسرحي وعوامل حدوثه، ينبغي أن تأخذ بنظر الاعتبار الظاهرة في كليتها، وهنا لا نقصد معالجة إشكالية التثاقف في الواقع الثقافي برمته، فهذا ليس موضوع إشكالنا البحثي، بل المعالجة الإشكالية لهذا الموضوع، ينبغي أن تتم وفق التماس الثقافي الحاصل في الفن المسرحي وجل مكوناته الإبداعية؛ وهنا تكمن مسألة الكلية في المعالجة الإشكالية للموضوع.

ووفق ما تقدم، وفي إطار قضية "التثاقف المسرحي"، وبخاصة من خلال عامل "ظاهرة الانفتاح"، كيف يمكن تفسير الحاجة الملحة للانفتاح على الثقافة المسرحية الغربية؟ وما هي أهم تمثلات التثاقف في المسرح العربي؟

في حاجة إلى الانفتاح على المسرح الغربي

تعد قضية الانفتاح على الثقافة المسرحية الغربية من بين أهم المنطلقات الإشكالية التي تدعو إلى التمحيص والبحث الرصين، إذ تدخل إشكالية الانفتاح الثقافي ضمن اهتمامات البحث الأنثربولوجي الذي يسبر أغوار الأسس العلائقية للطرفين الفعليين لهذا الانفتاح. كما أن لظاهرة الانفتاح هاته، سلبيات وإيجابيات؛ هذه الأخيرة، تكمن في القيمة المعرفية التي تنضاف إلى الثقافة المنفتحة على نظيرتها؛ أما السلبيات، فهي تنجلي أساساً في الانفتاح الأعمى الذي تتجسد معالمه في الانسلاخ من الجذور الثقافية الأصيلة للمجتمع.

وعليه، »فقد تميزت النهضة العربية بالانفتاح على أصناف ثقافية جديدة، لم تكن واسعة الانتشار، وإن كان لها جذور قديمة في تاريخ الحضارة العربية، ولكن العيب في هذا الانفتاح، أنه لم ينتبه إلى الجذور الأصيلة، بل نقل هذه الأصناف التي حملت طابع الحضارة الغربية، بتعديل بسيط، فترجم القصص إلى العربية بتصرف كما فعل المنفلوطي وحور المسرحيات العالمية، وقام بتمثيلها كما فعل مارون عبود واستمد من الموسيقى العالمية..«6.

ومما تقدم، لا يخفى القول إن البلاد العربية، في حاجة ماسة إلى الانفتاح على التجارب المسرحية الغربية الحديثة والمعاصرة، فهذه الأخيرة هي التي ساهمت بشكل أو بآخر في تحقيق النهضة المسرحية العربية، بل وإكساب المسرح العربي نظرة فنية وجمالية أخاذة، تشكَّلت بفعل الاستفادة الفنية والنظرية من تنظيرات رواد الحركة المسرحية الغربية.

وفي خضم هذا الانفتاح، لا يمكن البتة، إخفاء جمالية وأصالة التراث المسرحي العربي، والمتمثل في الفرجات الشعبية الأصيلة، باعتبارها منجزات فنية عظيمة غدت تراثاً عربياً يتسم بالخصوصية المنفردة، كما لا يمكن إخفاء دور المكونات الجمالية المستمدة من الثقافة الغربية، والتي أضفت الطابع الجمالي والذوقي الرفيع على هذه الفرجات المسرحية العربية.

ومما تقدم يتبين لنا قيمة الانفتاح على التجارب الغربية في الفن المسرحي، أو بالأحرى فعل التجريب المسرحي في البلاد العربية. »ولا مندوحة من الاعتراف بأن المسرح هو أكثر الفنون اتساعاً للاحتكاك والمثاقفة واستجابة لدواعي التأثير والتأثر، وذلك لأن تاريخ المسرح كله ليس إلا تاريخاً للتجريب، وتاريخاً لتحدي النجاح بنجاح مختلف. ولم يكتسب مسار هذا الفن الخلود والديمومة إلا بفعل صموده العجيب الناتج عن حيويته وقدرته الفائقة على التجديد«7.

لهذا، فقضية الانفتاح على التجارب المسرحية الغربية، هي بمثابة ديناميكية جديدة للإبداع المسرحي العربي. والتجريب المسرحي، هو نواة هذا الانفتاح. »فلم يلجأ "شكسبير" إلى تعدد المشاهد المسرحية إلا بغية تقويض وحدة الزمان والمكان، ولم يكتب "فيكتور هيغو" مسرحية "هيرناني" إلا لتدشين تجربة درامية يطلق عليها الرومانسية المسرحية، ولم تصطبغ دراما "إبسن" بالواقعية إلا من أجل اكتساب ملامح الفرادة والتجدد. هكذا إلى أن ظهر مسرح العبث والمسرح الملحمي البرشتي والمسرح السياسي الوثائقي، والمسرح الغنائي باعتبارها مسارح تجريبية أحدثت نقلات نوعية في خارطة الإبداع المسرحي«8.

ومن هذا المنطلق المعرفي، تتضح بجلاء قيمة التجريب المسرحي، وحاجة المسرح إلى الانفتاح والتجديد في خلاياه الإبداعية. فالمسرح العربي، هو في حاجة أكثر إلى الانفتاح على التجارب المسرحية الغربية الحديثة والمعاصرة، ناهيك عن حاجته أيضاً إلى الانفتاح على التجارب العربية المعاصرة الجادة والمجددة، بغية ضخ دماء جديدة في خلايا الإبداع المسرحي العربي، مع مراعاة، دائماً وأبداً، الطابع الخصوصي للثقافة العربية.

في نفس السياق، يمكن القول إن المسرح العربي في حاجة إلى الانفتاح على التجارب الغربية الجادة، وهذا لن يفقده خصوصيته الثقافية، بل سيجدد خلاياه الإبداعية، بنظرة عربية أصيلة مستمدة من التراث الشعبي/ العربي. »وعلى هذا الأساس، ينبني اعتقاد الحكيم بأن فرجة التجريب في المسرح العربي ينبغي أن تنطلق من منبع الثقافة العربية الشعبية والأدبية والتاريخية، في أصولها الصافية كما أمدتنا بها الحكايات والقصص الشعبية، والسير والملاحم، وكتب الجاحظ والمقامات والأغاني...«9.

ومما تقدم، ينبغي تبني مسألة التجريب المسرحي بالشكل الذي لا يدعو إلى القطيعة مع التراث العربي، بل أن يصير هذا الأخير، المنطلق الأساس للخلق الإبداعي، اعتماداً على نوعية التجديد في أساليب الفرجة الدرامية.

من منا لا يقـر بإيجابية الانفتاح على التنظيرات المسرحية الغربية الحديثة، كمسرح القسوة عند آرتو، والمسرح الفقير عند غروتوفسكي، والمسرح الملحمي عند بريشت؛ وغيرها من الإتجاهات التنظيرية التي ساهمت عموماً في تحقيق نهضة مسرحية إبداعية خلاَّقة. دون إغفال -بطبيعة الحال- تطوير فنون الأداء المسرحي، مع أمثال ستانسلافسكي، ومايرهولد، وكولدن كريج، وآخرون.. فكلها تنظيرات ساهمت في تطوير الإبداع المسرحي العربي، وخلق دينامية مسرحية متجددة في جل الأنساق المكونة للعرض المسرحي.

فهذا طبعاً، هو الانفتاح المراد تحقيقه، تجريب مسرحي يأخذ بنظر الاعتبار الخصوصية الثقافية في المسرح العربي، بغية بناء إبداعات مسرحية متجددة من صلب التراث العربي الأصيل. فإذا كان التجريب المسرحي قد حقق نجاحات باهرة ذات قيمة فنية عالية، بفعل الانفتاح الذكي على التجارب المسرحية الغربية، فأين إذن تكمن تمثلاتها في الإبداع المسرحي العربي؟
 


مشهد من العرض المسرحي المغربي "دموع بالكحول"


تجليات التثاقف في الإبداع العربي

في هذا المطلب البحثي، سأحاول تسليط الضوء على قضية التثاقف وتجلياته في الإبداعات المسرحية العربية، مع تقديم بعض التصورات النظرية التي تأسست عليها هذه التجارب المسرحية، بتبنيها نظرية التجريب في إنتاجاتها الإبداعية، في ظل حفاظها على روح الخصوصية الثقافية العربية.

واعتباراً لكون المنطلق الإشكالي لهذا المقال، يسعى في أبعاده إلى مُساءلة قضية التثاقف في الإبداعات المسرحية العربية، سأحصر هذه التَّجارِب المسرحية في مدى حفاظها على الخصوصية الثقافية في ظل الانفتاح والتثاقف مع التجارب المسرحية الغربية.

لابد من الإشارة، إلى أن ظاهرة التثاقف في المسرح، تستدعي عملية الانفتاح على ثقافة الغير، أو ثقافة الأنا الذي ليس أنا -بتعبير جون بول سارتر-، أي عملية التجريب المسرحي بالمفهوم المعاصر، فظاهرة التجريب هي ظاهرة كونية، تجلت في المسرح العربي، كما تجلت في المسرح الغربي، وباقي المسارح العالمية. وهنا يمكن الإشارة إلى عملية الانفتاح التي عرفها مسرح التجديد البولندي، وبخاصة رائده "غروتوفسكي"، الذي »استفاد من مدرسة المصلح الروسي المسرحي الكبير "ستانسلافسكي"؛ ومنهجه في فنون الأداء التمثيلي، وصولاً لمنهجه الذاتي في فنون الممثل، وتحقيقه إياه في مسرحه الفقير، تجربته المعملية الكبرى«10.

تبرز هذه التجربة إذن، فعالية التجريب والتثاقف المسرحيين، والتي أبانت بطبيعة الحال، عن الإمكانات التي توفرها لخلق مسرح جديد بتجليات حداثية، تركت أثراً إيجابياً في الإبداع الدرامي الرصين للمسرح الفقير.

وعليه، نورد في ما يلي، أهم تمثلات التثاقف المسرحي في بعض التجارب المسرحية العربية، والتي استلهمت من التراث العربي خصوصيتها المنفردة لبناء إبداعات مسرحية في قالب غربي تجريبي، مع تركيزها على الخصوصية الثقافية العربية.

نستهل هذه الإحاطة، بتجربة اللاَّمعقول في المسرح العربي، من خلال مسرحية "الفرافير" لـ: "يوسف إدريس"؛ »ليس في المسرحية ممثلون وجمهور، بل إن الجميع يشترك في العرض الذي يمكن تشخيصه متصلاً، دون اعتماد التقسيم الشكلي الذي وضعه المؤلف للمسرحية إذ قسمها إلى جزأين، ويصل "فرفور" قبل موعده وسط أصوات موسيقى شعبية وضجة، يرتدي ملابس هي خليط من الأراجوزات والمهرجين (...) ومنذ الوهلة الأولى يظهر أن "فرفور" شخصية قادمة من أعماق التراث الشعبي وأشكال الفرجة التقليدية، لكنها لا تخلو مع ذلك من تأثيرات الكوميديا المرتجلة الأوربية (الكوميديا ديلارتيه)«11.

كما »حقق المؤلف في مسرحيته مفهومه للمأساة ولما أسماه بــ"الفاجعة المصرية"، فبطله جاء ضحية مغلوبة على أمرها، ضحية بريئة لا ذنب لها (...). لا تعود قيمة المسرحية لكونها استخدمت تقنيات المسرح الملحمي البرشتي أو غيره من المسارح الغربية، وإنما جاءت ثمرة غضب خاص، غضب الفنان الذي يعبر عن نفسه وعن خصوصية إجتماعية وتاريخية وحضارية، حتى وإن أتى هذا التعبير في شكل وبوسائل درامية غربية وغير مألوفة لدى المتلقي«12.

استطاع مؤلف هذا العمل المسرحي، أن يؤكد على أن المسرح ظاهرة كونية، لا تعرف منطق الزمان ولا منطق المكان، وأن يُلبِس المأساة/ أو التراجيكوميديا، ثوب الثقافة العربية، باستلهامه لتراثها الشعبي لتأكيد الخصوصية العربية.

يمكن الإشارة إلى أن المسرح المغربي بدوره عرف ظاهرة التثاقف، من خلال عدة أعمال مسرحية، نذكر من بينها، أعمال المسرحي الكبير المرحوم "الطيب الصديقي"، الذي نقل الفرجة الشعبية المغربية بتراثها الأصيل إلى العالمية، من خلال استفادته وانفتاحه على التجارب المسرحية الغربية، وتجسيد معالمها وتقنياتها الدرامية على الفرجة المسرحية المغربية. وبهذا، أكد "الطيب الصديقي" على مبدأ الخصوصية الثقافية العربية، باستلهام مادتها التراثية كموضوع لها، أولاً، ثم كأساليب وطقوس احتفالية مرتبطة بالفرجة الشعبية، تبرز الخاصية المنفردة للثقافة العربية.

وتمثلت بجلاء هذه المظاهر في أعماله المسرحية المقتبسة عن المسرح العالمي، والذي ألبسها ثوب الثقافة المغربية والعربية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- محجوبة عن مدرسة النساء لموليير
- انتظار مبروك، عن انتظار جودو لبيكيت
- مومو بوخريصة عن يونيسكو
- برلمان النساء لأرستوفان
- لعبة الحب والمصادفة، لماريفو

وبهذه الأعمال المسرحية، أبان الطيب الصديقي، عن »تعرفه المعمق والشامل للمسرح الغربي ولمختلف اتجاهاته، هو ما حفزه على الاقتباس منه، كما أنه استوعب طرق الإخراج المسرحي، وكيفية توظيف التقنيات؛ مما أهله ليبتكر لغة مسرحية أصيلة تستمد مقوماتها من صميم المادة التراثية، وتقوم على الإبهار البصري«13.

أما في المسرح المصري، فقد »عرف التجريب غلياناً واسعاً إبان مرحلة الستينات، حيث صادف الجمهور أولى محاولات التجريب مع المخرج "سعد أردش" في مسرحية "لعبة النهاية"، و"محمد عبد العزيز" في إخراج "الكراسي"، و"فاروق الدمرداش" في إخراج "طبول الليل"، و"كمال ياسين" في إخراج "الخراتيت" (...) وتوفيق الحكيم في "يا طالع الشجرة" التي تجمع بين الموروث الشعبي وتيار اللامعقول«14.

مما تقدم، يتبدى جلياً أنَّ الثقافة التراثية العربية، تتوفر على كل الإمكانات الحكائية والفنية للتجريب المسرحي، على ضوء الاتجاهات المسرحية الغربية الحديثة والمعاصرة. وبهذا، يمكن أن نقر بوجود تمثلات التثاقف المسرحي في التجارب الإبداعية المسرحية العربية، من خلال انفتاحها على التنظيرات الفنية والجمالية الغربية، وفق العديد من التيارات المسرحية العالمية المختلفة.

"وهكذا، فقد أضحت المثاقفة والهوية عنصرين متلازمين لبناء فرجة ذات خصوصية محلية جديدة، ولذلك سعت الفرجات العربية الواعدة في معظمها إلى الاستفادة من النظريات التي أفرزها العصر الحديث على ضوء مساءلة المخزون الأركيولوجي للذاكرة، وهو ما ذوب أحياناً الفوراق بين مقومات الذات ومكونات المنجز المسرحي لدى الآخر«15.

ختاماً

يمكن اعتبار ظاهرة التثاقف التي عرفها الإبداع المسرحي العربي، بمثابة نقلة نوعية في جماليات الإبداع المسرحي، إذ تبدت تجلياتها واضحة في الانتاجات المسرحية العربية؛ وبهذا تنجلي بعض من إيجابيات التثاقف في المسرح، بالإضافة إلى توفر الثقافة التراثية العربية على كل الإمكانات الحكائية والفنية للتجريب المسرحي، على ضوء التجارب المسرحية الغربية، نظرياً وتطبيقياً. ويبقى سؤال التثاقف في الإبداع المسرحي العربي إشكالاً منفتحاً على العديد من المقاربات الأدبية والفكرية والفلسفية.


الهوامش
1- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية؛ ترجمة: منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت ـ لبنان، 2007. ص: 92.
2- (...) يشير هذا الرسم إلى حذف جزء من النص الأصلي. 
3- نفسه، ص: 93. 
4 – نفسه، ص: 94_95.
5- نفسه. ص: 101_102.
6- عفيف البهنسي، مدارات الإبداع؛ منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة- دمشق 2010. ص: 163.
7- عبد الفتاح الشادلي، فرجة التجريب في المسرح العربي، بين الهوية والنظرية؛ مجلة دراسات وأبحاث في المسرح وفنون العرض؛ العدد2، كلية الآداب، القنيطرة؛ دجنبر 2011. ص: 80.
8- نفسه. ص: 80.
9- نفسه. ص: 81 
10- أوجست جرورجيتسكي، حركة التجديد في المسرح العالمي، المخرجون البولنديون نموذجاً، ترجمة: هناء عبد الفتاح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى 2010. ص: 21.
11- عبد الواحد ابن ياسر، المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث؛ المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، مراكش 2007. ص: 368.
12 – نفسه، ص: 374.
13- عبد الرحمن بن إبراهيم، النقد المنهجي في المسرح المغربي المعاصر؛ أفريقيا شرق، المغرب، الطبعة الأولى 2017. ص: 138. 
14- عبد الفتاح الشادلي، فرجة التجريب في المسرح العربي، بين الهوية والنظرية؛ مرجع سابق. ص: 80.
15- نفسه، ص: 95.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها