الجُدران... دفاتر الحالمين

باسمة حامد

تُعتبر الكتابة على الجدران من الظواهر القديمة التي عرفها الإنسان منذ القدم وحتى وقتنا الراهن.. إلّا أن هذه الظاهرة التي تُوصف (بغير الحضارية) ما زالت مستمرة ومنتشرة بكثافة في المجتمعات الإنسانية، رغم التقدم الهائل الذي يعكسه العصر الحالي على المستوى العلمي والتكنولوجي، فما الذي يدفع المرء (للشخبطة) على الجدران والأبواب، والمقاعد والأرصفة بل.. وحتى الأشجار والصخور؟!
 

في الواقع إن أسباب الكتابة والتعبير عن الرأي بهذه الأساليب الغريبة، أو ما يُطلق عليه (دفاتر المجانين) قد تختلف من شخصٍ لآخر، لكن ما يجمع بينها القهر، والاحتقان، والكبت النفسي، والظلم الاجتماعي.. فهناك من يدفعه الشعور بالغضب وعدم الرضا للتعبير بشكل فجّ، وعبارات منفّرة عمّا يعتلج بداخله من مشاعر حزن ويأس وإحباط؛ لأنه يجد نفسه عاجزاً عن التعبير عنها في واقعه، وضمن حياته الخاصة، وبيئته الاجتماعية.

الصور مقدمه من كاتبة المقال


وهناك من يكتب على الجدران كنوع من لفت النظر إليه؛ لأنه يشعر بالتهميش والدونية والعجز، أو ربما لأنه حاقد على مجتمعه ويريد إثبات ذاته عبر سلوك غير حضاري، كالإضرار بالممتلكات العامة وتشويهها عمداً.. وثمة من يفعل ذلك بحماس زائد عن الحد، أو تحت وطأة مشاعر التعصب ليدعم فريقه الرياضي أو نجمه الغنائي المفضّل (ميسي وبس وغيره خس)، وهذا النوع أغلبه من فئة المراهقين؛ لكونهم يخضعون لتغييرات فيزيولوجية تجعلهم انفعاليين، ولا يسيطرون على مشاعرهم بشكل جيد. 

والبعض ممن يفرغون غضبهم على الجدران يلجأون إلى هذا السلوك تعصباً لرأيهم السياسي وتوجهاتهم الفكرية، ويرون في هذه الطريقة تحدياً للطرف الآخر وانتصاراً لوجهة نظرهم، وهذا النموذج رأيناه بكثرة في سورية خلال سنوات الحرب، في مدينة دمشق –مثلاً- وجدنا الكثير من الكتابات التي تعكس آراء سياسية متعارضة، بالإضافة لعبارات أخرى تشرح معاناة أصحابها من الحرب، وسوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وكلها كتابات تلخص واقع الحرب وآثارها من قبيل: (إذا البلد صارت غابة مو ضروري تصير حيوان)، و(كن إنساناً أو مُت وأنت تحاول.. )، و(لن نألفَ الموت وسنبقى نحبُّ الحياة، ونبني موسم عشق بين قذيفتين).. وجاء في عبارة لافتة ذُيلت بتوقيع "أطفال سورية" (نحن خُلقنا لنعيش لا لنموت، أو لنجوع أو لنتوجع)..

لكن؛ بعيداً عن قصص الحرب وآلامها ظلت جدران دمشق ملاذ العشاق ودفاتر ذكرياتهم الخالدة، وما زالت صخرة "الحب" التي تتربع في أعلى منطقة الربوة الوجهة المفضلة لكثير من العشاق، حيث يبوحون هناك بما يتورعون عن البوح به أمام المجمتع، فيكتبون عليها أسماءهم وخيباتهم المؤلمة أحياناً مع الحياة، معبرين عن قصص حبهم الفاشلة، وأحلامهم بعيدة المنال بقصائد شعرية، وأقوال مأثورة، ومفردات مفعمة بالهيام والوجد! 

ولعل أشهر تلك القصص وأقدمها ما حدث في خمسينيات القرن الماضي، حيث خطَّ أحدهم على صخرة شاهقة بمنطقة الربوة في دمشق جاء فيها (اذكريني دائماً)، ويحكي أبناء المنطقة أن الرجل كان عاشقاً لفتاة رفض أهلها زواجه منها، فرمى بنفسه من فوق الصخرة منتحراً بعدما كتب تلك العبارة، ويُحكى أن الحبيبة علمت بانتحاره، فكتبت عبارة (لن أنساك) على الوجه الآخر من الصخرة نفسها، ثم انتحرت!

هي واحدة من آلاف القصص المكتوبة على تلك الصخرة التي ارتبطت منذ ذلك الحين بروايات رومانسية كثيرة، وتحولت مع مرور الزمن إلى (دفتر للعشاق)، وتُعرف اليوم باسم صخرة (اذكريني)، أو صخرة (الانتحار)، أو صخرة (الحب)! 

لكن ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة في سياق هذا الحديث: لماذا ما زالت الظاهرة تتنشر في مجتمعاتنا العربية مع توافر وسائل التواصل الاجتماعي، وتنوع تقنياتها وكلها أدوات متاحة للجميع، وتتميز بسهولة الاستخدام والسرعة في الإنجاز؟! 

في حقيقة الأمر، لا شك أن الظاهرة تحتاج للمزيد من الدراسة والتعمق، والبحث لاحتوائها، والحدّ من آثارها، بوصفها تشكل مظهراً غير حضاري يلوث المشهد البصري العام، ويفسد جمالية البيئة. 

لكن من الممكن القول بأن هذا السلوك –بالمجمل- يعبّر عن شخصيات معقدة، أو غير سوية نفسياً واجتماعياً.. كونها تغرّد خارج السرب الجماعي؛ أي الأعراف والتقاليد السائدة والراسخة في الوعي الجمعي.

فالأشخاص الذين يلجأون للتنفيس عن رغباتهم وهواجسهم وتطلعاتهم بأشكال غير تقليدية كانوا -على الأغلب- قد تعرضوا للتضييق، أو لمواقف جارحة أو غير إنسانية، أو ربما وقعوا تحت تأثير ضغط اجتماعي كبير، فرفضهم المجتمع لوضع اجتماعي معين، أو لأسباب عنصرية أو طائفية قد تكون خارجة عن إرادتهم، كالأشخاص الذين ينبذهم المجتمع على خلفية قضايا حساسة تتعلق بالحسب، والنسب، والدين، والعرق واللون، والطائفة والمذاهب، أو لمسائل تتعلق بهم بشكل مباشر كالتوجه السياسي، أو الثقافي، أو المستوى المعيشي والكفاءة العلمية، وغيرها من الأسباب!

لذلك؛ وبصرف النظر عن القضية المطروحة للنقاش سواء كانت (خاصة أو عامّة، سياسية أو اجتماعية أو رياضية.. إلخ)، ولضبط هذه الحالة قدر المستطاعت لا بدّ من تشديد الرقابة، وتنفيذ العقوبات الرادعة على مرتكبي ذلك السلوك، وتثقيف الشباب، وتحفيزهم على ممارسة السلوكيات الجمالية في البيئة التي ينتمون إليها كالرسم والتشجير، وحملات النظافة الجماعية.. وتوعية الناشئة بضرورة الحفاظ على المخزون الحضاري، وحمايته من التلف والضياع، ليصل إلى الأجيال القادمة كما وصل إلينا، ومن المهم تشجيع الانفتاح على الآخر، وإعلاء لغة الحوار، واحترام حرية الرأي مهما بلغت حدة الخلاف. 

فالإشكالية الحقيقية في هذه الظاهرة الغريبة والمستهجنة، تكمن في أن المجتمع ينبذ ويرفض، ويسخر من كل سلوك فردي يُعبَّر عنه في الخفاء وليس في العلن.. وهذا النوع من الرفض العام يعكس مشكلة أكبر في مجتمعاتنا، تتمثل في انعدام لغة الحوار، وعدم تقبّل رأي الآخر، وربما تعنيفه والاستهزاء به أيضاً!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها