الضّوءُ الأخير

حوار مع كورينا روسي

حاورتها: نسرين البخشونجي


في زمن بعيد ولدت واحة أم الدباديب والتي تعد واحدة من أقدم المناطق الأثرية الرومانية بالوادي الجديد. تدور أحداث رواية "الضوء الأخير" حول ميلاد المستوطنة وموتها. تقول الكاتبة: إن فكرة كتابة هذه الرواية نتيجة طبيعية للعدد الكبير من التقارير الأكاديمية التي كتبتها عن المكان. ولدت الكاتبة والأكاديمية الإيطالية كورينا روسي عام 1968، وتعمل حالياً أستاذة مساعدة في علم المصريات بجامعة بوليتكنيك في ميلانو. صدرت الترجمة العربية لروايتها الأولى "الضوء الأخير" هذا العام والتي نشرتها بإيطاليا عام 2019. كما صدر لها عدة كتب مثل "العمارة والرياضيات في مصر القديمة" عام 2003، و"الاستكشافات في الصحراء الغربية بمصر" عام 2018.
 


 

وقد كان لنا معها الحوار الآتي:

 

● البطل الحقيقي للرواية هو المكان وليس البشر، هل تأثرت بتخصصك كعالمة مصريات؟

نعم؛ أعتقد أن الأماكن لها "روح" وفي الواقع اهتم الرومان القدماء بفكرة عبقرية المكان. فالأماكن التي يعيش فيها الناس تظل بها الآثار الملموسة لحياتهم، ربما اختفوا جسديًا، لكن أفكارهم وأفعالهم الجماعية تركت بصمة. علماء المصريات، مثلهم مثل جميع علماء الآثار، يتعاملون مع الأشياء التي لا حياة لها طوال الوقت. من الاكتشافات الصغيرة إلى المباني الكبيرة، تحتوي جميعها على أجزاء من ذاكرة الأشخاص الذين قاموا بإنشائها وبنوها. في هذا الصدد، لا تزال تحتوي على آثار الحياة.

● بداية مستوطنة أم الدباديب ونهايتها هو الموضوع الأساسي للرواية، وهو الموقع الذي شغلت فيه منصب مدير البعثة الأثرية الإيطالية. متى بدأت التفكير في كتابة رواية عن هذا المكان؟

أظن أن كتابة رواية عن أم الدباديب نتيجة طبيعية، حيث تطورت الفكرة أثناء كتابة التقرير العلمي لأول دراسة أجريت على الموقع، والتي قمت بها مع الأستاذة سليمة إكرام منذ حوالي 20 عامًا. لسنوات، قمنا بجمع البيانات ثم عملنا عليها لنشرها كبحث أكاديمي. في تقريرنا العلمي الكبير، قدمت الدكتورة سليمة وأنا الدليل المجرد أولاً، ثم تفسيرًا علميًا يتناسب مع السيناريو التاريخي كما هو متفق عليه حاليًا من قبل العلماء والذي قد يتغير في المستقبل، مع تطور معرفتنا العامة. أثناء كتابة التقرير العلمي، بدأت أفكر فيما نعتقد أنه ربما حدث، واعتقده الناس وشعروا به في ذلك الوقت مثلا. بما أنني لا يمكنني إثبات ذلك بالكامل؛ حيث لا مجال له في تقرير علمي. بعد ذلك، أصبح لدي ابنتاي، وكان عليّ التوقف عن العمل في الحقل لعدة سنوات. منحني البقاء في المنزل، مزيدًا من الوقت للتفكير في كيفية عيش النساء بشكل خاص حياتهن. لذلك استخدمت في هذه الرواية ما لم أجد مكانًا هناك لأنها رؤية شخصية تمامًا.

● "تلاشى الضوء الأخير. ارتعشت الشعلة الصغيرة التي أضاءت قوس النافذة في أعلى البرج، ثم انطفأت". "تلاشى الضوء الأخير، نزل أنستاسيوس السلالم في الظلام، واضعاً قدميه على كل سلمة دون أن يراها، راسماً ببصمات أصابعه على سلسلة الكوات والنوافذ الصغيرة لآخر مرة". تنتهي الرواية من حيث بدأت، حدثينا عن رؤيتك.

لطالما شعرت بعلاقة شخصية كبيرة بهذا المكان. أحببت الصحراء، ومثل الآخرين الذين سبقوني، أشعر هناك وكأني في المنزل. من الصعب دائماً تركها. لذلك بدأت أفكر فيما شعر به السكان القدامى عندما غادروا للمرة الأخيرة. لكن بعد كل رحيل يمكن أن يكون هناك عودة، حتى لو بعد سنوات عديدة. ولهذا تبدأ الرواية وتنتهي برحيل لأنها جزء من دورة الحياة.
 

● هل كانت فكرة ترجمة الرواية للغة العربية فكرتك؟

نعم؛ كتبت الرواية باللغة الإيطالية ثم ترجمتها بنفسي إلى الإنجليزية، وكلفت بترجمتها إلى العربية لأني أردت مشاركتها مع الشعب المصري. إنها قصة تخصنا جميعًا: بالنسبة لي، كإيطالية، كرست حياتها لمصر، ولإنجلترا، حيث درست والتي وفرت لنا اللغة المشتركة التي نتواصل بها جميعًا، ولمصر حيث أحفاد الناس الذين عاشوا هناك ما زالوا يعيشون.

● نشرت العديد من الكتب الأكاديمية عن علم الرياضيات والهندسة المعمارية في مصر القديمة، ما المعلومة التي تودين مشاركتها مع القراء؟

الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في عملي هو عندما تمكنت من إعادة بناء طريقة التفكير القديمة. على سبيل المثال، تمكنت أنا وفريقي مؤخرًا من إعادة بناء النظام الهندسي البسيط والفعّال للغاية الذي استخدمه العمال القدامى لتصميم الأقبية التي كانت تغطي الغرف في أم الدباديب. الرياضيات والهندسة المعمارية متشابكان بشدة: في بعض الأحيان بطريقة معقدة للغاية، وأحيانًا بطرق بسيطة جدًا ومباشرة، يمكن لأي شخص تبنيها واستخدامها.

● بطلة روايتك "الضوء الأخير" كانت تدفن فخارها المكسور في وادي الموتى لأنها لا تريد أن يجدها أحد، لماذا؟

هذا مشهد شخصي جداً! أنا لست متخصصةً في صناعة الخزف، لكنني تعرفت ببطء على الفخار الروماني خلال مواسم العمل الميداني. في البداية، كنت قادرة فقط على التقاط شكل واحد بوضوح، وعاء صغير على شكل زهرة توليب. كنت فخورة بالعثور عليه. كونه جسمًا صغيرًا، فليس من السهل أن أجده سليمًا تقريبًا، بين أكوام وأكوام الأواني المكسورة. هذه الأواني مصدر مهم جداً للمعلومات بالنسبة لنا. وكنت أتساءل دائمًا ما الذي سيفكر فيه القدامى إذا رأونا ندرس نفاياتهم. لذلك تخيلت هذا المشهد الذي يرتبط فيه الماضي بالحاضر بطريقة ما. تم دفن الأواني لسبب غير منطقي على ما يبدو، ولكن لحسن الحظ بالنسبة لنا، الذين يمكننا الآن التقاط المسار.

● "لازمت المنزل بعدها، وبطريقة آلية اعتنيت بأطفالي، دون تفكير ودون توقف. لقد سقط في نوم بلا أحلام، ويقظة بلا ذكريات"، بعد وفاة زوجها، ابتعدت بطلة الرواية عن كل شيء وليس لديها ذكريات سوى اللحظات الأخيرة من مغادرة المستعمرة. حدثينا عن بطلتك.

الصوت الذي يروي القصة نصف شخص ونصف روح. لها حياة محددة تتخللها الأحداث التي تتخلل حياة الناس العاديين. ولهذا السبب، فهي تمثل أيضًا أكثر من شخص، تمثل النساء بشكل خاص، وسكان المستعمرة بشكل عام. عندما كانت بناتي صغيرات جدًا، أتذكر هذا الشعور والاستمتاع بالأشياء الصغيرة البسيطة والمتكررة التي تشكل في الواقع معظم حياتنا. وحاولت أن أنقل هذا الشعور إلى الرواية. لذلك، بالطبع، وضعت في بطلة الرواية شيئًا من نفسي. حتى لقبها في المستعمرة "الفتاة الصغيرة" هو معنى اسمي الذي له أصول يونانية. في الرواية تقوم البطلة بأشياء قمت بها، مثل التحقق من آثار الحيوانات على الرمال، وجمع الحصى من الصحراء، والوقوع في العواصف الرملية، ومراقبة المطر الذي يشكل البحيرة في الغرب، وتصديق المسافرين الصحراويين. كل الأشخاص الذين ظهروا في الكتاب هم أشخاص التقيت بهم أو عملت معهم في واحة الخارجة. جميع أسمائهم الواردة في الكتاب عبارة عن نقلات لأسمائهم الحالية بأشكال لاتينية أو يونانية قديمة. والكتاب مليء بالجمل المأخوذة من الأغاني التي أحبها والتي رافقتني في رحلتي، من تأليف جيمس بلانت وبروس سبرينغستين. مزجت الماضي والحاضر في هذه الرواية.

● على مر السنين، غير أهل المستعمرة دينهم إلى المسيحية بعدما اعتنقها الإمبراطور الروماني. هجروا المعبد وتم بناء الكنيسة. حدثت التغيرات الاجتماعية بالتوازي مع التغيرات في بنية المستعمرة، هل توافقين على ذلك؟

لطالما اعتقدت أننا نولي الكثير من الاهتمام لهذا التغيير، ولكن ربما نتخيله على أنه حدث مفاجئ وقع في لحظة محددة. ومع ذلك، على الأرجح، خاصة في مكان بعيد عن مركز القوة مثل الواحات، حدث هذا التغيير ببطء. وربما استغرق اكتماله أكثر من جيل. لذلك حاولت أن أنقل الشعور بأن المعتقدات كانت مختلطة وأن الناس عاشوها على أي حال لأن لديهم أولويات أخرى للتعامل معها. أعتقد أنه في أم الدباديب وبشكل عام في جميع المستوطنات التي بنيت في أواخر العصر الروماني، اعتمد التغيير الأهم على سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وما تلاه من تحول في السلطة. تم بناء هذه المستوطنات بأمر إمبراطوري وبفضل الاستثمارات الرومانية في بداية القرن الرابع الميلاد، تم بناؤها وسكنها المصريون الذين ربما شجعوا على الانتقال إلى هناك، والذين كانوا جزءًا من نظام واسع النطاق للتجارة والسيطرة على الصحراء الغربية. عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى جزأين في نهاية القرن، أصبحت مصر جزءًا من الإمبراطورية الشرقية، وربما تراجعت شبكة الطرق التجارية عبر الصحراء الغربية. حدث تغيير الدين خلال هذه الفترة الانتقالية، لكنني أعتقد أنه قد يكون للمفارقة نتيجة وليس سببًا.

● "كانت حياتنا جزءًا من مشروع أكبر، تم بناء هذا المكان لمراقبة حدود الإمبراطورية، لكنهم مضطرون إلى المغادرة بسبب المشاكل التي واجهوها" هل هذا ما حدث بالفعل؟

أعتقد أن هذا تفسير معقول إلى حد ما لما حدث. لدينا أدلة أثرية على انخفاض منسوب المياه الجوفية في واحة الخارجة بأكملها في نهاية القرن الرابع. في حد ذاته، حيث لا يمكن تمديد قناة من نوع القنوات الأفقية وهذا يمثل مشكلة كبيرة إذا انخفض منسوب المياه الجوفية. ومع ذلك، كانت المشكلة الحقيقية هي عدم وجود المزيد من الاستثمارات لحل المشكلة. إذا كانت السلطة المركزية لا تزال لديها مصلحة قوية في الحفاظ على تلك المواقع، فسيتم محاولة شيء ما لإنقاذها مثل إطالة أمد القنوات المائية أو حفر آبار جديدة. وبدلاً من ذلك، يبدو أن أم الدباديب قد تم التخلي عنها. لذا في النهاية أعتقد أن النظام برمته توقف عن لعب دور استراتيجي وتكتيكي مهم، ونقص المياه أعطاها الضربة القاضية.


كورينا روسي Corinna Rossi 

● ما مشروعك القادم؟

أتمنى أن أتمكن من مواصلة العمل في أم الدباديب. هدفي بالتأكيد هو توثيقها قدر الإمكان، لكن الأهم من ذلك كله، أني أود المساعدة في الحفاظ عليها. لا يزال الموقع الأثري محفوظًا جيدًا ويقع في منطقة لا تزال سليمة من وجهة نظر طبيعية فواحدة من آخر قطعان الغزلان لا تزال تعيش هناك، وهي أيضًا محطة للطيور المهاجرة وموطنًا للثعالب. كانت هناك شجرة أكاسيا ربما يزيد عمرها عن 1000عام، لكنها احترقت حتى الجذر قبل بضع سنوات، ربما لأن أحدهم أشعل نارًا بالقرب منها. لدى السلطات المصرية فكرة إنشاء محمية طبيعية حول أم الدباديب وآمل أن يحدث هذا. في النهاية يهدف عملي الأثري هناك إلى إعادة ربط الماضي بالحاضر وإعادة بعض الحياة إلى هذا المكان الرائع، الذي ما زلنا لا نعرف اسمه القديم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها