بيداغوجيا البيان؟!

من خلال كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ

سعيد بكور

تُبنى العملية التعليمية التعلّمية على طرفين: مرسل ومتلقّ، يهدف الأول (المدرِّس) إلى نقل المعرفة العالِمة في قالب يفهمه الثاني (المتعلّم)، وهو ما يجعل أساس العملية قائماً على الإفهام والفهم أو البيان والتبيّن حسب اصطلاح الجاحظ.
تتمحور عملية التعليم حول البيان والتبيّن، وتقصد إلى الإمتاع والمؤانسة، إذ يُشترط في المدرس أن يفقه المعرفة المنقولة، ويوظف لتمريرها طرقاً معينة تقوم على الإفصاح، والإبانة، ومراعاة المقام، وأي تقصير في عملية التبيين قد يفضي إلى خلل في تحقّق التبيّن لدى المتعلم الذي ينبغي أن يفهم ما يتلقاه، ذلك أنّ "مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"1.
يسوقنا هذا البسط المختصر إلى الحديث عن كتاب "البيان والتبيين" الذي يمكن استثمار بعض نصوصه في وضع فرش نظري مؤسس لنجاح العملية التعليمية التعلّمية، خاصة فيما يتعلق بنقل المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية، وفيما يرتبط أيضاً بالشروط السياقية والنفسية والبلاغية المحققة لفعل التعلّم، ويمكن أن نقف على نصوص ذات أهمية في تأسيس ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"بيداغوجيا البيان"، وهي بيداغوجيا لا يستغني عنها مدرس في تمرير المعرفة وَفق شروطها، وتحقيق الظروف المساعدة على التعلم.
 

يحتوي كتاب "البيان والتبيين" على نصوص عامة صالحة لأن تُستنبط منها بيداغوجيا البيان، ويعتمد الجاحظ في بناء تصوراته البلاغية على لغة تقوم على دقة المصطلح والمفهوم.

إنّ أول ما ينبغي أن يمتلكه المتصدي للتدريس تمام آلة البيان (اللسان) التي تساعده على الإبانة والإفهام والتبيين، وشرط ذلك الخلو من عيوب النطق التي تقدح في هيبته وتدخل النقص على إيصال رسالته، ويصير المدرس أكثر المتكلمين حاجة إلى ذلك لنوعية المتلقي الذي يواجهه "وسأل اللهَ عز وجل موسى بن عمران، عليه السلام، حين بعثه إلى فرعون بإبلاغ رسالته، والإبانة عن حُجّته، والإفصاح عن أدلته، فقال حين ذكر العُقدة التي كانت في لسانه، والحُبسة في بيانه "واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي"2. وقد أكثر الجاحظ من التنصيص على ضرورة الخلو من عيوب النطق التي تهزّ صورة الخطيب في أعين السامعين.
يستخدم الجاحظ مصطلحات دقيقة تفيد إلمامه بأهمية اللسان الفصيح الخالي من العيوب (العقدة، الحبسة) في الإفهام والإقناع (الإبانة، الإفصاح)، ولنأخذ مصطلح الفقه (يفقهوا) الذي يقوم على الإبانة من المتكلم والفهم من المتلقي، وهو أعلى درجة في سلم التلقي، والفقه لا يتأتى إلا بالإفهام الصحيح القائم على الإبانة والإفصاح.
ولا بد للمدرس أن يثق في نفسه شأنه شأن من يتصدى للخطبة والكلام " فالثقة تنفي عن قلبه كلّ خاطر يورث اللجلجة والنحنحة، والانقطاع والبُهْرَ والعرق"3، والمتعلم ليس متلقياً يعذر أو يفهم جلال موقف الخطابة ومواجهة الجمهور، بل إنه يعد ذلك فشلاً وضعفاً في الشخصية، ولهذا الأمر تبعات وخيمة على أداء المدرس ونظام الفصل الدراسي.
وعلى المدرس أن يكون ذكياً في تنويع طرق نقل المعرفة، وأن يتجنب الجد التام الذي يدخل الملال والكلال على نفس المتعلم "وقد يُحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني. كما أن النادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من النادرة الحارة جداً"4، ومن شأن ذلك تحقيق التحفيز والتنشيط ودفع الملال، وتحضير المتعلم للإقبال على المحتوى التعليمي.

من أهم أسس عملية التدريس أن يسلك المدرس طريق الإيجاز والدقة، خاصة وأنه يتوجه إلى متلق ذي طبيعة خاصة، فمن شأن التطويل والاستطراد أن يفضي إلى تشتت التركيز ووأد عملية الفهم في بدايتها "وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه"5.
ويعدّ تجنب التفصيل أحد أكثر أوجه بلاغة الإيجاز ضرورة ويعرّف المفضل الإيجاز بقوله: "حذف الفضول، وتقريب البعيد"6، ففي حذف الزوائد يتحقق التركيز لدى المتلقي ويُتجنّب التشتت الذهني، وفي تقريب البعيد تظهر براعة المدرس.
ويحدد الجاحظ شروط عملية التدريس، باعتبارها خطاباً يتوجه إلى متلق، في قوله "جماع البلاغة التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني أو غمض، وبما شرد عليك من اللفظ أو تعذّر"7، والتأكيد هنا على مراعاة المتلقي والمقام والرسالة والقناة.

التدريس مهنة رسالية، لذلك فإن نجاحها قمين بحبها والإخلاص في أدائها، "وقال عامر بن عبد القيس: "الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان"8.

إنّ الشرط الثاني في عملية التدريس يرتبط بالمتلقي الذي ينبغي أن يكون حاضر الذهن متنبّهاً متيقّظاً حتى يتحقق التبيّن والفهم، ويولي الجاحظ أهمية كبيرة للمستمع تأكيداً على مشاركته في تحقق الغاية من التدريس، وأول شروط التيقّظ الرغبةُ في التعلم والحرص عليه: "قيل لبعد الله بن عباس: أنّى لك هذا العلم؟ قال: "قلب عقول، ولسان سؤول"9، فانظر كيف جعل العقل قبل السؤال، ومعناه أنه إذا لم يكن المتعلم ذا نية ورغبة وإلحاح لم يفد أي شيء في تحقق غايتي الفهم والعقل.
المقام ذو أهمية في إنجاح عملية التدريس، وغايته مراعاة قدرة المتعلمين على التحمل، وتؤكد الدراسات التربوية الحديثة أن المتعلم لا يركز أكثر من تسع عشرة دقيقة في الساعة، وفي ظل ما يشهده العالم من تطور تكنولوجي صار المتعلم لا يكاد يركز دقيقة أو بعض دقيقة لافتقاد خلق الصبر الذي انزوى بفعل عصر السرعة والتسرع.

ويشير الجاحظ في هذا السياق إلى مسألتي الطاقة والمنزلة "ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل على أقدار منازلهم"10، فما يصلح لفئة أو جماعة من المتعلمين لا يصلح لأخرى، ويقع كل هذا في صلب البيداغوجيا الفارقية.

ومن الضوابط المهمة في عملية التدريس أن يتجنب المدرس الفضول والزوائد والاستطرادات المملة التي لا داعي لها، فإن ذلك من شأنه أن يصرف المتعلم عن التركيز ويفضي به إلى التيه والملال، ويجعل الجاحظ المستمع ذا دور في تحقق التبين لذلك يشترط عامل النشاط والاهتمام والإقبال "للكلام غاية ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهَذَر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعتَ الحكماء يعيبونه"11.
وفي هذا الصدد ينبغي للمدرس أن يكون يقظاً فطناً للمقام والسياق وحال المستمع، ويزن الأمور بميزان المقام حتى يسلك الطريقة المناسبة في البيان" كان مطرّف بن عبد الله يقول: "لا تُطعم طعامك من لا يشتهيه"12، ومعنى ذلك كما يوضح الجاحظ "لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليه بوجهه"13.

ومن النصوص المهمة المرتبطة بحال المتلقي قول عبد الله بن مسعود: "حدّث الناس ما حدَجوك بأبصارهم، وأذِنوا لك بأسماعهم، ولَحظوك بأبصارهم، وإذا رأيت منهم فترة فأمسك"14، وهي شروط دالة على الاهتمام والرغبة والإقبال، وبها تسهل عملية البيان والإفهام، فلا يتجشم المدرس عناء الإطالة والتكرار والبسط والاستطراد، وقال بعض الحكماء: "من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك"15؛ لأن في ذلك مضيعة للوقت، وكدّاً للذهن، وفي هذه الحالة يكون المدرس كمن يخطّ على ماء أو كمن ينفخ في غير جمر.

إن إعادة الكلام شرحاً وتفسيراً يخضع لميزان محدد يجنّب المدرّس الوقوع في الإسهاب المفضي إلى الملال، ويزداد هذا الشرط أهمية عندما يكون المخاطب متعلماً قليل التركيز وقليل الحرص على التعلم" وجعل ابن السماك يوماً يتكلم، وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال: كيف سمعتِ كلامي؟ قالت: ما أحسنه، لولا أنّك تكثر ترداده. قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لا يفهمه قد ملّه من فهمه"16، وهنا يحتاج المدرس إلى حاسة سادسة تمكنه من سلوك الطريقة المناسبة في الشرح دون أن ترجح كفة على أخرى، وإذا استطاع إلى ذلك سبيلاً كان كمن "يضع الهِناء مواضِع النُّقب"17، وهذا التمثيل يفيد الإصابة والدقة والإيجاز، يتحقق عبر مراعاة إيقاعات التعلم داخل الفصل الواحد.

إنّ تحقق الفهم السليم يقوم على الإفهام الجيد، والإفهام الجيد ينبني على قناة اللغة الصافية التي تنقل عبرها المعاني في حلة بهية، فلا بيان بلا إفصاح وإبانة، وغاية هذا الشرط الارتقاء بالمتعلم في سلم التفكير والذوق، ولا يتأتى ذلك إلا باستخدام لغة نقية صافية بعيدة عن العامية التي يستخدمها المتعلم في حياته اليومية. "ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدنيّ الساقط، يعشّش في القلب ثم يبيض ثم يفرّخ، فإذا ضرب بجرانه ومكّن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكّن الجهل وقرح، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه؛ إن اللفظ الهجين الرديّ، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآلف للسمع، وأشدّ التحاماً بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم"18. وينبني على ذلك أن تكون "الألفاظ معدّلة واللهجة نقية"19.

 ولا ترتبط بيداغوجيا البيان بالإفهام المعزول عن شروطه اللغوية الصحيحة، "قال أبو عثمان: والعتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ، لم يعن أنه كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه، بالكلام الملحون، والمعدول عن جهته، والمصروف عن حقه، أنه محكوم له بالبلاغة كيف كان، بعد أن قد فهمنا معنى كلام النبطي الذي قيل له: لمَ اشتريت هذه الأتان؟ قال: أركبُها وتلد لي". وقد علمنا أن معناه كان صحيحا"20، ولا قوة هنا للرأي الذي أريد له أن يكون سائداً عن سبق سوء نية (المهم أن يصل المعنى)، إذ لا بد من أن تكون اللغة سليمة تحقق الفهم وترتقي بالذوق وتثقّف اللسان، وإلى كل هذا تقصد بيداغوجيا البيان.
ونجد مصداق هذا الاستنتاج في تعليق الجاحظ "وإنما عنى العتّابي إفهامك العربَ حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء"21، وفي هذا النص ما يُقوّض دعاة إقحام العامية بحجة تبسيط المعارف وتذليل الصعاب، وهم إنما يقصدون إلى فساد الذوق وتسطيح الفكر.

تقصد بيداغوجيا البيان إلى إيصال المعرفة وَفق الشروط البيانية والبلاغية الصحيحة، سواء تعلق ذلك بمرسل الخطاب (المدرس) أو بمتلقيه (المتعلم) أو باللغة والمقام، وهي عناصر وشروط يتحقق بها البيان والتبيّن، والإفهام والفهم، وذلك منتهى ما تطمح إليه العلمية التعليمية التعلّمية.


الهوامش
1. البيان والتبيين: 1\76
2. البيان والتبيين: 1\7
3. البيان والتبيين: 1\134
4. نفسه: 1\145
5. البيان والتبيين: ج1\83
6. نفسه: ج1\97
7. نفسه: البيان والتبيين، 1\88
8. نفسه: 1\83-84
9. البيان والتبيين: ج1\84-85
10. البيان والتبيين: 1\93
11. البيان والتبيين: 1\99
12. البيان والتبيين: 1\103
13. البيان والتبيين: 1\104
14. نفسه: 1\104
15. نفسه: 1\105
16. البيان والتبيين: 1\104
17. نفسه: 1\107
18. البيان والتبيين: ج1\85-86
19. نفسه: 1\89
20. البيان والتبيين: 1\161
21. المصدر نفسه: 1\162
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها