الصورة الشعرية؟!

بين المرجعية الواقعية والصنعة الفنية

د. أحمد يحيى علي

الحديث عن الصورة في حقل الفن عموماً يتصل بأبعادها التكوينية التي تشير إلى العملية الإدراكية لدى الإنسان؛ حيث الحواس الخمسة؛ بوصفها حلقات وصل بين الذات وعالمها ومناطق القيادة التي تحيل ما حملته هذه الجوارح إلى رؤى وتصورات ومواقف يعاد بثها إلى العالم من جديد.



الصورة والأسطورة

والصورة في جذورها المرتبطة بالأسطورة تعكس وعي الإنسان وحرصه منذ بدايات حياته على الأرض إلى تجاوز حدود المألوف الملموس بالنسبة إليه إلى ما وراءه، وإلى الرغبة في الاقتراب من مناطق الغيبيات حيث الميتافيزيقي الذي من خلاله يمكن أن يقدم تفسيرات وتصورات لما يجري ويقع حوله في عالمه1.
لذا فإن الصورة وثيقة الصلة بالخيال ودوره في إنتاج أشكال التعبير الإنساني المختلفة التي تنتمي إلى ما يسمى بالإبداع، أو الخلق المبتكر على اختلاف أشكاله ومظاهره، هذا الإبداع الذي كان للفن بأنماطه المتعددة نصيب وافر فيه، ولعل البنيان الحضاري الذي شيدته وتشيده الجماعة الإنسانية عبر مسيرها الطويل في الزمن، وعلى اختلاف بيئاتها الجغرافية وأطرها اللغوية والثقافية هو بمثابة تجسيد لهذا السلوك العبقري (الإبداع) الذي يتجاوز حاجز المألوف2.
والصورة في ولوجها حقل الأدب واتصالها بما ينضوي تحته من أنواع، كالشعر على سبيل المثال تعد بمثابة وعاء حامل لرؤية تجاه العالم، تمثل موقفاً أو خبرة أو تجربة وجدت لنفسها مكاناً داخل وعي الأديب وقدرة على توجيه آلته التعبيرية؛ كي يسعى إلى تشكيلها وإلى صياغتها داخل سياق لغوي أكبر يحتويها قبل أن تخرج إلى فضاء يتلقاها ويقيم مع سياقها في بنائه الكلي ومعها في ضوء معالجة استقرائية حواراً يقوم على التحليل والنظر الوصفي الشكلي، وصولا إلى النقب والاستكشاف؛ بغية استخراج ما يكمن وراء هذا السياق بأجزائه المكونة له من قيم دلالية3.

الصورة ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني

وبلا شك فإن لهذه الصورة حضوراً على المستوى التنظيري من خلال من عنوا بدراستها منذ القدم في تراثنا العربي وحرصوا على وضع المفاهيم التي تكشف عن حضورها المتنوع، ووضعها هي على تعدد أنماطها في العلم الذي يلائم دراستها؛ ألا وهو علم البلاغة، ولعل شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني ونظريته في النظم التي جعل لها مكاناً في كتابه الأثير دلائل الإعجاز، تعكس هذا الالتحام والارتباط الوثيق بين الكاتب في علاقته بعالمه وما يتمخض عن هذه العلاقة من قناعات على المستوى الفكري، واللغة في صياغتها التشكيلية التي تعد ناتجاً من نتائج هذه العلاقة؛ إذ هي ببنائها وانتظامها وعناصرها بمثابة انعكاس حتمي لما تقتضيه هذه القناعات من مفردات وتراكيب حال تجليها وظهورها وانتقالها من طور التجرد إلى طور الظهور الملموس4.

الصورة ومفهوم المحاكاة

وفي هذا الانتظام وهذا الترتيب وهذه الصياغة تتجلى فكرة المحاكاة التي تحدث عنها الفيلسوف اليوناني أرسطو في اهتمامه بالعمل الفني بصفة عامة وعلاقته بالعالم، في ضوء مسألة الترابط؛ فإذا كان العالم كلاً مترابطاً مكوناً من أجزاء؛ فإن العمل الفني عموماً بدرجة كبيرة يبدو على هذه الحال أيضاً، ومهمة من يتولى نقده هو أن يكشف في معالجته الاستقرائية له عن هذا الترابط وعن الخصوصية التي تميزه في الوقت ذاته عن غيره من الأعمال الفنية الأخرى5.

الصورة وفن الشعر

ودراسة فن الشعر على سبيل المثال تجعل من الاحتفاء بالصورة أمراً ينسجم –إلى حد كبير– ومقتضيات المعالجة الفنية وما يترتب عليها من تركيز على العناصر المشكلة لمنجز المبدع من الداخل وبيان طبيعتها والعلاقات الجامعة بينها، وأثر ذلك في الجانب المتصل بالمعنى بالتوازي مع هذه الرؤية في التناول النقدي.
وما من شك في أن خصوصية التجربة الشعرية الفردية وصاحبها في العالم الذي يحيا فيه ستترك أثراً يظهر في الجانب الجمالي المتعلق بتجربته الشعرية في هيئتها اللغوية التي تبدو عليها، وإذا نظرنا على سبيل المثال لأحد شعراء الجماعة العربية في عصر ما قبل الإسلام؛ ألا وهو عنترة بن شداد سنجد أن تجربته الحياتية وسط جماعته شأنه شأن غيره كانت سلطة فرضت نفسها على ما غادره من منجزات شعرية تحظى بحضور متواصل في فضاء القراءة، هذه التجربة التي يمكن النظر إليها في ضوء عدد من الحقائق تلخصها الجمل الاسمية الآتية:
- عنترة أحد أفراد المجتمع العربي في جاهليته بكل ما تحمله من قيم اجتماعية وسلوكية.
- عنترة عبد.
- عنترة أسود.
- عنترة يعاني تمييزاً عنصرياً قائماً على أساس الطبقة الاجتماعية واللون.
- لكن عنترة في ظل هذه المحددات التي ترسم ملامح تجربته الشعورية في واقعه كانت بمثابة دافع أو فعل سعى إلى مواجهته بما يمتلكه من أدوات تشكل وسائل للمقاومة، يمكن إدراكها عبر الحقائق التالية:
- عنترة فارس محارب.
- عنترة شاعر.
عنترة محب.

إنه بهذه الوسائل ينتهج سبيل التغيير الإيجابي، ولا يريد الاستسلام لما تفرضه عليه الحالة الواقعية من رسائل سلبية؛ ففي مجتمع جاهلي كان للحرب فيها من أجل الاستحواذ والإقصاء والبقاء مكانها في حياة أهله يصير للفروسية قيمتها وضرورتها القصوى في سبيل ذلك، وفي مجتمع يعرف قدر الكلمة المبدعة الخلاقة وما تحدثه من أثر ومجد لصاحبها وعشيرته يصير لهذا النعت (شاعر) والمتصفين به قدره ومكانته؛ لدرجة تجعلهم ينحرون الذبائح ويقيمون الاحتفالات إذا نبغ فيهم شاعر، وفي مجتمع طبقي زاعق يدهس السيد فيه من يسكنون تلك الطبقة (العبيد) يصير لمسألة الحب بتجليها الرمزي دورٌ تؤديه في محاولة ضمنية لتذويب الفوارق بين طبقاته، وفي محاولة غير مباشرة للاقتراب والالتحام؛ كأن حبه لعبلة بمثابة رسالة غير مباشرة ورغبة تلميحية ذكية من قبل صاحبها في التمرد على هذه الحال الطبقية القبيحة، وتدشين واقع اجتماعي جديد لا يعرف الحب فيه للفواصل التي اصطنعها البشر بين شرائح من أفراده وشرائح أخرى مكاناً6.
كأن عنترة الفارس الشاعر المحب أراد أن يتمرد ويغير الصورة السلبية المتصلة بتجربته الشعورية في شقها الأول؛ أي عنترة العبد الأسود ابن المجتمع الجاهلي بما يحويه من خصال سلبية منفرة؛ لذا يمكن القول: إن عنترة بن شداد المنسوب لأبيه السيد الحر في قبيلته تسمية تتوج رحلة كفاح طويلة مريرة قاسية خاضها عنترة لينتقل من طور مذموم كان فيه (عنترة بن زبيبة) إلى طور التحقق والنجاح أصبح فيه عنترة المعترف به من أبيه ومن جماعته (عنترة بن شداد).

أبعاد الصورة الشعرية

في ضوء هذه النظرة يمكن القول إن الصورة الشعرية لها بعدان في تكوينها:
- بعد مادي واقعي يتصل بسياق العالم الذي تحياه الذات المبدعة وما يجري فيه من أحداث وأحوال تؤثر فيها وتترك مكاناً في وعيها.
- بعد جمالي شعري فني يتصل بالصياغة التعبيرية لها المبنية على المجاز والخيال والرمز.
 

نموذج تطبيقي على الصورة الشعرية: عنترة بن شداد نموذجاً

ولنتوقف أمام هذه العينة الصغيرة جدًا من شعر عنترة للتأمل في الصورة بوجهها الجمالي الرمزي، وما يخبئه من معطيات اجتماعية ثقافية تحيل إلى زمان ومكان ومرحلة في حياة الجماعة العربية:

وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ         مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيـلَ السُيوفِ لأَنَّها               لَمَعَت كَبـارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ7

إننا بصدد صورة كلية تنشطر بالتحليل المتأني إلى صور صغيرة، للتشخيص فيها دوره في الربط بين المعجم الواقعي لعدد من المفردات، كالرماح وبيض الهند والسيوف، والمعجم الفني الذي يعيد قراءتها؛ ومن ثم النظر إليها فيبث فيها روحاً إنسانية تخدم الرؤية الذهنية والوجدانية للأديب التي هي ناتج وثيق الصلة بالطبع بعالمه؛ ففي هذه الصورة الكلية قد نلمح عدداً من الصور الجزئية:
- الاستعارة المكنية في (الرماح نواهل)
- الاستعارة المكنية في ( تقبيل السيوف)
- التشبيه في (لمعت كبارق ثغرك المتبسم)

إن المكونات المقيمة لعماد هذه الصورة الكلية تقوم على عناصر إنسانية وغير إنسانية، تقوم على ما هو جماد، وما هو إنساني يتعلق بثنائية المذكر والمؤنث (عنتر وعبلة)، وقد اعتمد الشاعر في صياغتها أسلوباً أقرب إلى أسلوب الحكاية؛ فنحن بصدد حدث اعتيادي له مكانه في كتاب يوميات الجماعة العربية في عصر ما قبل الإسلام؛ فيما يعرف بـ(أيام العرب)؛ إشارة إلى المعارك التي كانت تنشأ بين عشائرها، وفي هذه الحال تحديداً داخل الوعاء الكلي للصورة تتجلى شخصية الفارس المقاتل في سيرة عنترة، وفي تجليها يظهر بوضوح وظيفة تؤديها الصورة على مستوى الفن، هي وظيفة الجمع والتقريب والربط بين متباعدين في الواقع؛ فعنترة الفارس المحارب مندمج مستغرق ومتلبس بثوب آخر تميز به؛ ألا وهو ثوب المحب العاشق؛ إن كلا الاثنين له مكانه وله سياقه، وله مقامه في الواقع والمعتاد والمتعارف عليه بين الناس، لكن البناء الكلي للصورة يقرب الاثنين ويضعهما معاً في وعاء واحد؛ ألا وهو وعاء الصنعة الشعرية؛ إننا بصدد طرفي ثنائية، أحدهما على النقيض من الآخر؛ فالحرب وسفك الدماء بمثابة وجه قبيح لسلوك الإنسان وحضوره في الأرض، أما الحب فهو بمثابة حالة رحمة ومودة وسلام وجمال تعكس رغبة في الحياة وفي البقاء؛ إن أحد عناصر هذه الصورة الكلية المتمثل في التشبيه "فوددت تقبيل السيوف لأنها ** لمعت كبارق ثغرك المتبسم" تسعى إلى التقريب ومحاولة الربط الوثيق بين متعاكسين في الواقع، هذه الحال الشعرية تكشف عن رؤية ذات صبغة عبقرية تصنع من قلب القبيح صورة مثالية، أو لو شئنا القول تستولد الجميل المثالي من رحم القبيح، في سعي إلى بناء حاسة إدراكية لما في العالم تكسر نمط المألوف الاعتيادي الكائن فيه8، وكلا النعتين لعنترة –أي المحارب والمحب– يحتضنه عبر هذين البيتين وصف واحد جامع بينهما؛ هو الوصف (شاعر)، الذي أراد بهذه الوسيلة الجمالية المعتمدة على اللسان أن يوظفها جنباً إلى جنب مع السيف في مواجهة وعي جمعي ذي صبغة سلبية وتدميره، وتدشين وعي إيجابي مكانه؛ فعلى الرغم مما تنطوي عليه الصورة في هيئتها الكلية من طابع كنائي يشير إلى التعلق الشديد وقوة الاتصال العاطفي والروحي بينه وبين أنثاه؛ لكنها في الوقت ذاته تكشف عما يمكن تسميته (ذكاء اجتماعي) في سيرة ذات أرادت أن تصنع بكلمتها وعياً تتجاوز به وتقاوم به منظومة قيمية ترسخت وأضحت كأنها حرم مقدس (تابوه)، غير مسموح بالاقتراب منه أو المساس به.

نص عنترة الشعري وتمدد الصورة

إن الصورة الكلية هاهنا في هذين البيتين يمكن رؤيتها في ظل بناء مجازي نضعه تحت هذا المفهوم البلاغي العربي الأثير: (المجاز المرسل)، ذو العلاقة الجزئية؛ فتجربة عنترة تعد نموذجاً للقياس والحكم من خلاله على تجارب مشابهة من حيث الحالة، مختلفة من حيث الزمن، كتجربة مارتن لوثر كينج في أمريكا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وتجربة نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا كذلك في النصف الثاني من القرن العشرين؛ إنه أيضاً من منظور الأسبقية الزمنية يعد استعارة تمثيلية لهذين وأمثالهما، ويمكننا أيضاً دراسة عمل روائي ظهر حديثاً في ضوء هذه النظرة المستقاة من فكرة تذويب الفوارق بين الطبقات في سيرة عنترة؛ ألا وهي رواية " رد قلبي" ليوسف السباعي؛ وعلاقة الاتصال العاطفي بين البطل المنتمي للطبقة العاملة الكادحة والبطلة المنتمية إلى طبقة النبلاء، وما تحمله من رسالة رمزية تشير إلى ذلك المسلك ذي الأبعاد السياسية والاجتماعية في تلك الفترة من تاريخ مصر الحديث9.

من هنا يمكن القول: إن الصورة في عناصرها المكونة لها وفي صياغتها تعد نسقاً تعبيرياً قارئاً للسياق الواقعي في ظل ظرف زماني ومكاني محدد، هذا النسق في تشكله على نحو محدد يحمل من القيم الدلالية التي يمكن القول: إنها توثق وتسجل وترصد حالاً جمعياً، وتعكس أسلوباً في الفكر يترتب عليه حزمة من الأفعال والسلوكيات.


هوامش
1. انظر: د. لطفي عبد البديع، التركيب اللغوي للأدب، بحث في فلسفة اللغة والاستطيقا، الطبعة الأولى، 1997م، المصرية العالمية للنشر (لونجمان)، القاهرة، ص: 24، 25، 26.
2. انظر: د. علي البطل، الصورة الفنية في الشعر العربي، الطبعة الثانية، 1981م، 1401هـ، دار الأندلس، القاهرة، ص: 15، 16، 17، 18.
3. انظر: د. شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، عدد مارس 2001م، عالم المعرفة، الكويت، ص: 17، 18، 19.
 4. انظر: الجرجاني (عبد القاهر)، دلائل الإعجاز، طبعة 2000م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، من ص: 34 إلى ص: 56.
5. انظر: د. سامي منير عامر، وظيفة الناقد الأدبي بين القديم والحديث، طبعة دار المعارف، بالقاهرة، دون تاريخ، من ص: 11 إلى ص: 27.
6. انظر: د. أحمد يحيى علي، عنترة نموذج للفرد المعلم، عدد نوفمبر، 2017م، مجلة تراث، دولة الإمارات العربية المتحدة.
7. انظر: الموسوعة الشعرية، ركن الشعراء والدواوين، إصدار 2003م، المجمع الثقافي العربي، دولة الإمارات العربية المتحدة.
8. انظر: د. عبد العزيز حمودة، علم الجمال والنقد الحديث، طبعة 1999م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص: 58، 59، 60، 61.
 9. انظر: د.أحمد يحيى علي، عنترة نموذج للفرد المعلم، عدد نوفمبر 2017م، مجلة تراث، دولة الإمارات العربية المتحدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها