أحلام سِّتار!

انتصار عباس

تحدق إلى البعيد.. تنتظر ذاك القادم من رحم الغيب، نسمة باردة تهز جوانحها، زخاة مطر ترشح على الزجاج تُحدّث نفسها: عاد المطر ليسكب عطره في الأرجاء، ينشر روائح اللوز، وتغلق النوافذ صوت فيروز (يا حبيبي تعا قبل الليل يا عيني لا تنامي)، تحاول أن ترفع ظهرها الحاني، تدندن: (يا حبيبي لا تغيب كتير وتتأخر ليلي، ما بدي هدايا حرير أسوارة عادية، بدي من عشيي تقعد بالسهرية وصوتك يضوي أيامي، يا عيني لا تنامي، تتنهد ياعيني لا تنامي). تتكئ على عكازها، تدخل إلى الغرفة تضع الكركديه الذي تعده كل يوم، على حافة السرير الجالس تحت النافذة، تغطيه بقطعة قماش وتخرج.

تحدث نفسها: كالعادة جاء سراً، يتناول الكركديه الذي أعده كل يوم، ويذهب، تتنهد بحرقة: ليته يعود! كل ركن في البيت يناديه.. ينهمر دمعها بغزارة، تغص الكلمات في حلقها كم أشتاق إليك. يتعالى صوت الرعد قشعريرة تهز أوصالها، تنظر إلى شجرة اللوز بحزن وقد تساقطت أزهارها: مسكينة لن تحتمل، وتدخل ترتجف.. ترمي بثقلها على الكرسي النائم قرب السرير قائلة: لولا هذا الألم الذي يقصم ظهري لجبت الطرقات، البيوت والشوارع أسأل عنه، تتحسس ظهرها آه آهـ لو كان بإمكاني .. تتكئ على يديْها تنتقل من الكُرسي إلى السرير، تراه يعرف كم تغيرت؟! آه لكن قلبي لا يتغير أبداً.

تروح بها الذكريات بعيداً وقد خرج متأخراً وعلى غير عادته يلتفت: تذكري أن تعدي الكركديه المثلج، وأننا مدعوان للغداء.

هي: أعرف... صوت قهقهاته يملأ الفضاء، ويروح. تضرب الريح النافذة تصحو من هلوساتها فزعة، تعكز حيث النافذة تغلقها، تسعل بشدة، صوت أقدام في الغرفة المجاورة، تنصت صدرها يعلو ويهبط بشدة وبفرح غامر: إنه هو... هو يشتد السعال، تحاول التوازن، تستند على الكرسي يهتز الكرسي وتسقط، تشتد ضربات قلبها وتسعل، ظلٌ ما يخطف نظرها تراه قرب النافذة تصيح: كفاك هرباً فقد رأيتك.. كفاك.

يلوح الستار لها وقد فتحت النافذة ذراعيها للريح؛ صوت لهاثها يشعل المكان.. والرياح تقرب الستار وتبعده؛ تخاطب الستار وقد رأته هو: قلت كفاك وترمي بنفسها وبصوت متقطع .. أطلت الغياب، وتضمه، تشتعل أضواء السماء، تضيء الغرفة، تهتز الأرض تحتها، صوت الرعد يدوي عالياً، تضم الستار أكثر فأكثر: دفئني.

وبصوت أكثر رقة وحناناً قالوا: صدمتك سيارة، لكنهم جلبوا شخصاً آخر لا يشبهك، لم أصدق أكاذيبهم، أعرف أنهم كانوا يريدون إبعادك عني وتفريقنا، وأعرف أنك فقدت الذاكرة لكنني بالرغم من كل ذلك عايشت الانتظار يوماً بعد يوم، عاماً بعد عام وها أنت تعود، لا تقل انسل العمر من أصابعنا وراح، فقد كنت أراك وأنت تتناول الكركديه الذي أعده كل يوم وتمضي، (الريح تهز الستار) تتحسسه إلى أين تمضي! اقترب دع أنفاسك تغسل تعبي، تشعر بالبرد تشد الستار إليها تضمه، وتضمه وتضمه، آه.. كم أشتاق إليك، وتشده إليها أهه.. أهه.. أي.. يسقط عمود الستار على رأسها محدثاً جلبة تصرخ: آهٍ منك فأنا لا أحتمل كل هذا الشوق آهـ.. ويطبق الصمت على المكان.

جاء الصباحُ تداعبُ نسائمه غصن اللوز المُتبرعم من جديد، ينشر روائحه يدخل الفرندا موقظاً صوت فيروز ليدور الكاسيت كالعادة، يا حبيبي لا تغيب كتير، أولاد الحارة ينتظرون الكركديه ليرتشف كل واحد منهم بدوره رشفة، إلا أن ذاك الصبي الأسمر كان أجرأهم أخذ يتسلق شجرة اللوز ليصل إلى النافذة ويكرعه مرة واحدة صائحاً: آه الثلج يكسر أسناني لكنه لذيذ، ثم يمسك بالكأس قائلاً: ها هو فارغ، تناهى لسمعه صوت عكاز يقترب، قفز مطلقاً الشارة المتفق عليها للهروب، فرَّ الجميعُ وقد تفرقوا هنا وهناك، تناثر زهر اللوز المتساقط يشارك فيروز النداء.. يا حبيبي لا تغيب كتير يا حبيبي وينشر الروائح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها