هل يساعدنا الفلاسفة على العيش بشكل أفضل؟

ترجمة: عزيز الصاميدي

التحقيق من إنجاز: آن فلوران

 

ما الذي يدفع الرجال والنساء إلى البحث عن إجابات فلسفية في سعيهم لتحصيل المستحيل: لاكتشاف معنى الحياة والظفر بالسعادة وراحة البال؟ فهل تجلب الفلسفة الخير إلى الوجود؟ التحقيق التالي يقارب هذه القضية ويحاول فهمها.


ما زالت الفلسفة تتمتع بحيوية كبيرة في فرنسا. وذلك بفضل الفلاسفة الأحياء طبعاً، ولكن أيضاً من خلال تقليد عتيد ضاربة جذوره في أعماق التراث الإغريقي اللاتيني للقارة الأوروبية. فمجتمعنا مشبع بهذه القيم المنقولة والمتجددة. وإذا كان البحث عن معنى الحياة يقتصر في بعض الأحيان على السعي إلى تحقيق الرفاه، فإنه يساهم أيضاً بشكل فعال في الأبحاث التي يقوم بها المعاصرون. فالفرنسيون يتحمسون اليوم لإعادة نشر الأعمال المخصصة لأفلاطون وسينيكا وأبيقور، ليعيدوا اكتشاف هؤلاء القدماء العظام. والندوات تلاقي نجاحاً حقيقياً لدى عامة الناس. حتى إننا بتنا نشهد اليوم ظهور بعض العيادات الفلسفية تفتح أبوابها في وجه الجمهور هنا وهناك، وأضحى بعض الناس يصرحون بأنهم من معجبي هيجل كما يصرح آخرون بأنهم من معجبي البيتلز على سبيل المثال. لقد فقدت الأديان العديد من أتباعها، ولكن الحاجة إلى الفهم أو حتى الإيمان لم تختف مع ذلك. وكثيرون ابتعدوا عن الكنائس، ولكنهم أبداً لم يكفوا عن التساؤل. إذ ظلت الرغبة في العيش بشكل أفضل حاضرة كل الحضور، اليوم كما بالأمس.

سر نجاح الفلسفة الآسيوية في الوقت الراهن

إن بحث الإنسان عن الرفاه، أو حتى عن السعادة أمر مفهوم للغاية. والسبل إلى تحقيق ذلك ليست بالمُستَغلَقة وإنما هي طرق تختلف حسب خصوصيات كل فرد. فهذا البحث يتم عبر توجيهات ملموسة ورغبة في الاعتناء بالجسد. إذ تحظى حصص التدليك ودروس الرياضة، والتخصصات الجديدة للطب الطبيعي بنجاح كبير يخضع في الغالب لمنطق الموضة. ويميل المجتمع الفردي المعاصر أيضاً إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى، ولا سيما الثقافات الآسيوية. وسواء تعلق الأمر بتدليك الايورفيدا، أو التأمل أو اليوغا، فإن هناك اليوم العديد من هواة وممارسي هذا النوع من فلسفات العيش المستوحاة في أغلبها من الديانة ­البوذية. ويؤكد ممارسو التأمل أنه يساعدهم فعلياً، ويحسن عيشهم ويمنحهم القدرة على مجابهة عالم ملؤه الضغوطات والمصاعب. ويعد هذا الانجذاب إلى العالم الآسيوي جديداً نسبياً، ويمكن القول إنه يأتي كنتيجة مباشرة لسهولة التنقل والسفر التي مكنت من مقاربة الثقافات الأجنبية بشكل مغاير، ثم لوسائل الإعلام التي مكنت من تسليط الضوء على الدول البعيدة، ومعتقداتها، مثل التبت أو بوتان، دون أن ننسى المكانة الرمزية التي يحظى بها الدالاي لاما.

انبعاث الإغريق

على الرغم من أن الفلاسفة اليونانيين يوصفون بالقدماء، إلا أن فكرهم يظل بالغ الراهنية. ومن المنطقي جداً أن يكرمهم فرنسيو القرن الحادي والعشرين في بحثهم الحثيث عن العيش بشكل أفضل. فإبيكتيتوس وأبيقور وسينيكا وضعوا هذا الموضوع في صلب اهتماماتهم الفكرية. بطبيعة الحال التركيز على بعض المقولات أو الحكمة يمكن أن يكون أمراً مغرياً، ولكن من الضروري أن نستطيع التمكن من فكر الفيلسوف لكي نعيد النظر فيه ونطبقه على حياتنا، والتساؤلات التي تؤرقنا بشكل شخصي. فإذا كانت الفلسفة القديمة قادرة على إغوائنا، فذلك لأنها تبدو أكثر واقعية وإفادة وكذلك أقرب إلى الفهم. إنها تعنى بالاشتغال على الإنسان أولاً من أجل تغيير العالم.

سقراط والتبصر

كان سقراط يدرب تلاميذه بهدف جعلهم أكثر تبصراً بالعالم من حولهم وكذلك بأنفسهم. ويمكن القول إن الفلسفة التي يطمح إليها أكبر عدد من الناس قريبة مما كان يهدف إليه سقراط. فهواة الفلسفة الجدد لم تعد لهم رغبة في الانخداع بالأوهام، ولم يعد يكفيهم الاغتناء المادي للحصول على السعادة. فالغرض من وراء الاستجواب السقراطي هو جعلنا قادرين على السمو فوق الصراعات حتى لا نستسلم للاندفاع، وهو نهج وجودي لا يزال يحتفظ صالحاً ومتداولاً إلى اليوم.

مارك أوريليوس والإله الداخلي

الإمبراطور ماركوس أوريليوس قام هو الآخر بتلقين هذه الفلسفة القائمة على الحكمة. بالنسبة له، التفلسف يتيح للإنسان أن يراقب إلهه أو شيطانه الداخلي. لقد كان هذا الحاكم أيضاً فيلسوفاً رواقياً، وكان إيبيكتيتوس أحد ملهميه الفكريين. ولا يزال فكره صالحاً لزماننا ورائجاً فيه: فهو يؤكد على أن العيش وفقاً لقانون الطبيعة يكون بالتركيز على الحاضر، وعدم الوقوع في فخ القدرية، بل على العكس من ذلك التمكن من إتقان ممارسة ما، سلوك يتيح الوصول إلى الانسجام الداخلي. ويمكن أيضاً لهذا الفيلسوف، الذي حكم الإمبراطورية الرومانية، أن يلهم بعض رؤساء الدول في جميع أنحاء العالم. فقد كان يؤكد بأن على كل زعيم سياسي أن يتساءل باستمرار عن ما إذا كان طموحه هو الحصول على السلطة، أو هو القدرة على التفكير والعمل على قيادة الوطن نحو مسار حميد. سؤال يمكن أن يطرح نفسه أيضاً على مستويات مختلفة في الحياة المهنية. فكل إنسان هو لا محالة ضئيل تحت أنظار الطبيعة والتاريخ، ولكن كل واحد يشارك من مكانه في الحركة الكبرى والشاملة.

سينيكا

يتناول هذا الفيلسوف تيمة الإنسان. إذ يرى بأن على هذا الأخير أن يوقف اهتمامه بالإله وأن يسعى بنفسه جاهداً من أجل بلوغ الفضيلة الكاملة حتى يتمكن من التغلب على المآسي التي تحل به. وإذا كان من البديهي أن الحكيم الحقيقي نادر الوجود للغاية، فبمقدور الإنسان أن يصبح حكيماً في طور التشكل. هذا الفيلسوف لديه نهج فلسفي عملي، ونادراً ما يهتم بالناحية النظرية فقط، بل أكثر ما يهتم به الأخلاق.
 

هل الفلسفة حكر على نخبة معينة؟

لا يشكل الرفاه الهدف الأسمى للفلاسفة دائماً. فهم يأخذون على عاتقهم أيضاً مهمة تيسير ملكة الفكر وجعلها في متناول الجميع. بيد أن التفكير لا يؤدي بالضرورة إلى السعادة. بل يمكن أن يؤدي إلى مراجعة حقيقية لحياة المرء أو لبعض مبادئها. كما يمكن أن يصبح تفكيراً تجريدياً لا نهاية له قد لا يعثر له على تطبيقات من أجل بلوغ الرفاهية. فالتنظير له مزاياه، ولكن الأهداف التي تتطلع إليها عامة الناس أكثر بساطة وواقعية. ولذلك فمعظم القراء الذين حاولوا أن يقرؤوا بعض الصفحات للفيلسوف سبينوزا وصفوها بـ"النخبوية". فهم يرون بأن التفلسف فعل محمود في حد ذاته، إنما لا يجب أن يتحول إلى حوار عقيم نبحث فيه على الغلبة من أجل متعة الخطاب والبلاغة. سيما وأن الأمر يتطلب بعض المفاتيح للتمكن من فك رموز المصطلحات التي تكون معقدة في بعض الأحيان. ومع ذلك، فإن الندوات التي تعقد حول المواضيع الفلسفية لا يحضرها المثقفون فقط. بل على العكس من ذلك، يحضرها كثير من كبار السن الذين يتوفرون على ما يكفي من الوقت للتفكير في قضايا جديدة تهمهم، وكذلك العاطلون عن العمل للسبب نفسه، بل وحتى بعض المديرين التنفيذيين المنشغلين على الدوام بعد أن يتمكنوا من العثور على مساحة في جداول أعمالهم المزدحمة. عينة صغيرة من السكان إذن، إذ لا بد لنا من الاعتراف بأن من يشتغلون اليوم لا يتوفرون في حقيقة الأمر على وقت يكرسونه للتفكير.

رؤية الصورة في شموليتها

العيش بشكل أفضل عن طريق الفلسفة أمر ممكن، ولكن لا يعني ذلك تناولها مثل قرص أسبرين. كما أن المقصود من ذلك ليس أن تتحول الفلسفة إلى علاج نفسي أو علاج من القلق. فالفيلسوف، المحترف أو الهاوي، ليس إنساناً مرتاح البال. وإذا تحدثنا عن القلق الميتافيزيقي، فلا علاقة لذلك بعلم النفس، بل بأسئلة حيوية، مثل أصل الحياة أو الخوف من الموت. إن هدف الفلاسفة هو أن يصبحوا أفضل، وبالتالي فإن الرفاه يأتي نتيجة لذلك. التساؤل عن المسؤولية والعدالة والإرادة الحرة يتيح للإنسان أن يعمل ذكاءه وبالتالي يكسر الروتين. فنحن حين نمارس الفلسفة لا نسعى إلى راحة تشبه حالة الاسترخاء التي نحصل عليها بعد حصة تدليك. على العكس، فالتفكير وطرح أسئلة جديدة، لا يفضي إلى الهدوء. بل إن هذه الزوبعة الذهنية تخلق عاصفة تحت الجمجمة. زوبعة تعيد للإنسان شبابه وتتيح له رؤية الأمور من زاوية أشمل بما يعود عليه بالنفع في جميع الأحوال.

سر نجاح الفلاسفة المحدثين

حقق الفلاسفة المحدثين نجاحاً ساحقاً: فميشيل أونفري يحطم أرقاماً قياسية على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، مثله في ذلك مثل أندري كونت سبونفيل، ولوك فيري وبرنار هنري ليفي يمتلكان جاذبية خاصة. لم يعد الفلاسفة يجسدون الصورة التقليدية للفيلسوف كرجل عجوز عف عنه الزمن. بل صار لهم معجبون كثر؛ لأنهم لا يحبسون أنفسهم في أبراج عاجية، وإنما على العكس من ذلك يعيشون زمنهم، ولا يتوانون عن التصدي للمشاكل الراهنة.

فهؤلاء الفلاسفة يتيحون للقارئ البسيط التعرف على المفاهيم التي لا يتم التعامل معها بشكل يومي. إذ توفر الإصدارات المبسطة، وكذلك تلك التي توصف بالسهلة، أدوات لفهم العالم من حولنا بشكل أفضل، وكذلك لفهم بعض الظروف الصعبة في الحياة الشخصية. ومع الفلسفة يمكن أيضاً إيجاد معنى للحياة. ثم إن الفرنسيين لا يقبلون على هؤلاء الفلاسفة من فراغ. بل إن البحث عن العيش بشكل أفضل يمثل في الواقع أساس هذا الاهتمام المتجدد. إنهم لا يريدون الخوض في المفهوم الخالص، ولا يحسون لديهم ميولاً إلى المؤلفين النخبويين الذين تتحول قراءة مؤلفاتهم إلى عقوبة لمن لا تتوفر لهم دراية بالدراسات الفلسفية.

اكتساب التفكير النقدي

لا يجب أن نعتقد بأن التفكير النقدي يخلق معنىً بالفطرة. بل على العكس، فهو نادر للغاية؛ لأن الأمر لا يتعلق فقط بالقدرة على كشف التناقضات، وإن كان ذلك ضرورياً في البداية، ولا بالنقد المجاني. بل إن التفكير النقدي يتم بلوغه من خلال القراءات المختلفة والمتنوعة. ولا بد هنا لكل قارئ من اختيار فلاسفته، لا بد أن يتلمس طريقه لوحده حتى وإن اضطره ذلك إلى المحاولة والخطأ. هذا ما يؤكده حتى كبار الفلاسفة ومن بينهم نيتشه الذي يقول: "من يعرف كيف يتنفس هواء عقلياً يعرف أنه هواء المرتفعات، وهواء مقوي.. يجب أن تكون مستعداً لتنفسه، وإلا أصبت بنزلة برد"، الأمر في غاية الوضوح إذن. وعلى من يفضل الحرارة أن يذهب إلى مكان آخر. أما أرسطو فيؤكد على موقف الدهشة الذي يحرك كل مفكر وكل فيلسوف، وكذلك كل متعلم فلسفة: "وهكذا، فإن الفلاسفة الأوائل قد تعاطوا للفلسفة بغرض الإفلات من الجهل، ومن الواضح أنهم كانوا يسعون إلى المعرفة لغرض وحيد هو المعرفة وليس لغرض نفعي".

لا توجد وصفة جاهزة للسعادة

لا أحد ساذج للحد الذي يعتقد بأن جمع بعض المكونات يكفي لصنع الخلطة المناسبة لتحقيق الرفاه. وذلك ما يؤكده الفلاسفة القدماء والمحدثون: لا وجود للمعجزات، يوجد فقط طريق يجب علينا أن نسلكه، وأن نتحرك فيه إلى الأمام، وأحياناً أن نرجع إلى الوراء، المهم أن نستمر. الفلسفة يمكن أن تمنحنا نوعاً من السلوى، لكنها لن تخفي الصعوبات، ولا المعاناة أو القلق. إنها تمكننا من عقلنة هذه الصعوبات، وتترك بيننا وبينها مسافة معينة تجعلنا قادرين على تحملها. بطبيعة الحال، يمكننا أيضاً أن نعيش بدون فلسفة، ولكن إذا بدأنا في جرد الأشياء التي بوسعنا أن نستغني عنها، فمن المرجح أننا سنعود مباشرة إلى عصور ما قبل التاريخ.


 

مصدر الترجمة:  Question de philosophie Magazine N°22©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها