البُعد التَّربوي في فيلم "الموجة" الألماني

غريب الغرباوي

يُعدُّ فيلم المَوجة Die Welle من الأفلام الَّتي تَلعبُ دوراً فَاعلاً في التأثير البليغ في المتلقي، لاسيَّما إذا كان هذا المُتلقي ينتمي إلى فئة المراهقين، فهذا العملُ السينمائي يفي بالغرض الذي بذل المخرج "دينيس غنسل" في تحقيقه، بحيثُ راهنَ على مقولة "توماس إديسون" الشهيرة التي تقول: من يسيطر على السينما يسيطر على أقوى وسيلة للتأثير في الشعب"1، وهذا الكلام بالنظر إلى من يسيطر على السينما يُعدُّ كلاماً صحيحاً إلى أبعد حد؛ لأنه يبثُ روح الدوغمائية البغيضة التي تستميل المشاهد وتدفعُه إلى التشبث بنمط من التفكير يقود في نهاية المطاف إلى الانتحار بشتى صنوفه وأشكاله.
 

ألسنا اليومَ أمام هذه الأشكال كُلِّها من الانتحار سواء تعلق الأمر منها بالانتحار العقدي، الانتماء إلى جماعات متطرفة أو مذاهب مذمومة، والانتحار الثقافي الذي يتمثل في الاستلاب القيمي بالامتثال لقيم أخلاقية لا تركن إلى أسس مرجعية أصيلة. فهل نُبادر إلى توعية وتوجيه ناشئتنا على الخطر الداهم الذي يُهدِّدُ وجوديتنا الحضارية، أم سنظل ننوء بعبء القوى التأثيرية المناوئة والسينما، بطبيعة الحال، أبرزها؟
إنَّ شروط مواجهة تلك الأخطار متوفرة في منظوماتنا التربوية؛ لأنها تأخذ من معين لا ينضب يزخر به تُراثنا الثَّقافي والحضاري.


 



غايةُ التَّربية وتطلعات السِّينما

إنَّ فيلم الموجة يرتكس بالمشاهد إلى ماضٍ مُثخنٍ بجراحات أولئك الذين انقض عليهم الرايخ الألماني، الذي بات عشية بلوغه سدة الحكم غولاً يلتهم في أحشائه كل من لا يؤمن بالعنف والظلم وتسويغ قتل الناس وهضم حقوق الضعفاء، في سبيل إرضاء نوازعه وتحقيق رغائبه. ومن هنا تتجلى الخطورة البالغة التي تضمرها السينما بحيثُ تعيد صياغة الذات والعالم بسلاسة، وتغير الوظيفة التحريرية لدى المتلقي كما يعبر عن ذلك أصحاب نظرية التلقي2.

إنَّ السينما تقدمُ للمشاهد عشرات الرسائل المشفرة وغير المشفرة بحيث تضرم فيه جميع النوازع وتحفزه لاتخاذ مواقفَ بشكلٍ سريعٍ ومذهل، وهذا ما يضطلع به فيلم "الموجة"، الذي تدور جُلُّ أحداثه في فصل دراسي بحيثُ نَجِدُ مدرس الفصل "راينر فينجر"، يقدم لطلابه مادة تعليمية، لكن باستثمار بيداغوجيا تجمع بين التشاركية والَّلعب والتنشيط.
وقد راح هذا المُدرس المتهور يلعبُ دور القائدِ لجماعة تحمل أفكاراً تتراوح بين الرغبة في الاستعلاء على الآخر المخالف ودحره وإخضاعه، بين امتثال الجماعة "الطلاب" لرغبة القائد والإذعان لشروط الطاعة والولاء، التي تجلت في ارتداء زيٍّ موحد وشعار موحد وتحية موحدة، وبعد ممارسة داخل الفصل تشي بالرغبة المحرورة لدى الطلاب لتمثل أفكار القائد مثل الخبط بالأرجل بشكل جماعي والتحفيز على النصر في المسبح وإلصاق شعار الموجة على المحلات، بعد كُلِّ هذا بات الخطر يهدد الجميع حتى المُدرس نفسه الذي تغير سلوكه مع صديقته التي يشاطرها البيت. فهل ما أنجزه المدرس "راينر فينجر" هو ما تنشده التربية؟ قطعاً لا، بل إنه سَاهم في بث القيم التي تُحاربها التربية بكُلِّ نظرياتها وفي كل الحضارات المتوازنة.

الفصل مرجل القيم والأفكار

يتجلى الفصل الدِّراسي في فيلم الموجة مثل مرجل محموم تعتمل فيه أفكار هدَّامةٌ ورجعيةٌ، توجه الطالب إلى التمسك بذهنية التعنت والوثوق المبالغ فيه إزاء ما يتلقاه من مادة تعلمية، ولعل الخطورة لا تتجلى في المادة التعلمية وحسب بل في شخصية المدرس "القائد"، الَّذي استطاع أن يتقمص شخصية القائد الكارزمي، إذ نراه قد استطاع أن يبلور أفكار الدكتاتور بحيث راحَ يتخذ القرارات ويدعو بصرامة إلى تنفيذ الأوامر، واستطاع أن ينجح في ذلك إلى حد كبير، وقد تجلى ذلك في التأثير في الشاب المتعلم "تيم"، الذي استجاب بكل أريحية وحماس لفكرة الهيمنة والسيطرة على كل من يخالف الفكرة، بحيث تشاجر مع صديقه ومضى يهاجم بضراوة كُلَّ من لا يحمل شعار المجموعة "الموجة"، وشارك بانتظام في مواجهة الخصوم واجتهد كثيراً في إلصاق شعار الموجة على المحلات.

إذنْ يمكننا القولُ إنَّ الفصلَ الدراسيَّ في فيلم الموجة تتجلى فيه حقيقته السرمدية وهي تلقي القيم والأفكار وبشكلٍ فعَّال، وذلك لأنَّ الَّذي يقدمها مُدرسٌ يمثل قدوةً للمتعلمين، فإذا تطابقت سلوكاته بما يقدمه وينجزه كان للتعليم وقعاً كبيراً وأثراً بليغاً على نفسية المتعلم وطريقةُ تفكيره، وهذا ما يتجلى بوضوحٍ في شخصية المُدرِّسِ "راينر فينجر"، الَّذي ساعده في ذلك تجربته وحنكته في التدريس وكذلك تطبيقه بشكلٍ صارمٍ للمنهاج، ورشاقة جسده وإيماءات وجهه، ومن هنا نخلص إلى خطورة الفيلم على المتلقي عموماً وعلى المتلقي العربيِّ بشكلٍ خاصٍ.

المُدَرِّسُ نموذج يُحتذى

لقد راهنَ عُلماءُ التَّربية على أهدافٍ إنسانيةٍ ساميةٍ وغايات نبيلة يمكن للتَّربية أن تحققها، بحيثُ نجد ابن خلدون مثلاً يرى إمكانية تحقيق أخلاق التمدن الإنساني بحيث دعا المعلم "المدرس"، إلى التَّمسكِ بالقيم الحقيقية للصنعة، أي الطرق المُثلى لتقديم المادة التعلمية والتَّعامل الرَّاقي مع شخصية المتعلم، كما نجدُ أحد أقطاب الفكر الأوروبيِّ وهو جان جاك روسو من خلال كتابه "إميل"، يُراهِنُ على تكوين مواطن صالح يُساهم بأريحية في تحقيق المصالح المرجوة بفضل القيم والأفكار التي امتثلها المدرس الذي تعلم على يده.
فما يمكن للمشاهد ملاحظته في هذا الفيلم هو أنَّهُ يقدم نموذجاً سلبيّاً للمدرس، إنَّهُ مثالٌ للإخفاق التَّام للعملية التعليمية التَّعلُّمية؛ لأنه يورط المتعلمين، مُستغلاً فورة الحماس التي يمتازون بها في هذه المرحلة العُمرية، في التَّماهي في لعبة الاستعلاء القذرة موهماً إياهم بأنها الأفكار الأصيلة التي يتبناها الإنسان3، إنَّهُ بحق، يمثل أنموذجاً لمدرس يجني على المُتلقي بما في ذلك المتعلم، الذي يُراهن على النموذج الَّذي يسحره بكاريزميته المنشودة. ولما كانَ "تيم" يمثل ذلك المتعلم التَّواق إلى التَّماهي في أفكار الهيمنة، كان طبعاً، هو ذلك المتعلم المندفع الَّذي ظل شغوفاً بالفكرة ومُعجباً بها حتى حانت اللحظة المريرة التي ستسلمه إلى الحقيقة الجافية، وذلك عندما يعلن المدرس انتهاء عدد الحصص المخصصة لشرح فكرة الدكتاتورية وشخصية الدكتاتور، لم يصدق تيم ذلك، بالطبع، فالتحق ببيت مدرسه الذي انتهره ثم طرده.
والغريبُ هو أنَّ "تيم" لم ينصرف بعيداً بل مكثَ أمامَ بيت مدرسه ليحرسه ظاناً أنه يحرس شخصيتة الدكتاتور كي لا يصيبه مكروه، لكنه سيفكر في الانتحار عندما تسفر له الحقيقة عن ذاتها، إنها جناية كبرى اقترفها المدرس ضد شريكه في العملية التعليمية التعلمية وضد المتلقي، لاسيما إذا كان هذا المتلقي من فئة المراهقين.

الشُّعور بالانتماء يهيمن على شعور المتلقي

إنَّ فكرةَ الانتماء إشكالية يُقدمها الفيلم للمشاهد بشكلٍ جليٍّ لكنها متدثرة بأسلوب يشي بالعنف واللاّتوازن المنبوذين في كل الثقافات، فهذا الفيلم لا يُعالجها بل يكاد يكرس أبعادها السلبية في نفسية المتلقي من خلال تطور أحداث الفيلم، ومن خلال سيرورة الحبكة وتطورها، لاسيما مآل الشاب المتعلم "تيم" المأساوي، ويمكن الحديث عن هذه الإشكالية من خلال بُعدين:

البعد الأول: الانتماء إلى الأسرة
بحيثُ يبدو الشاب "تيم" يُعاني من فقدان عاطفة تربطه بوالدين، وانعدام وجود هذه الوشيجة أضرم في وجدانه وأخيلته الرغبة في البحث عن البديل، أي وشائج بديلة لإشباع حاجة الانتماء لديه، وما دفعه -كنتيجة حتمية- إلى الانخراط بسلاسة في جمعية تتبنى أفكاراً مُتطرفةً، والمشاركة بجد وحماس لتحقيق الذَّات.

البعد الثاني : ويتجلى في الفرصة الثمينة والمفاجئة التي قدمها له المدرس، الذي لم يُظهر في الفيلم أنه فقط مالك للمعرفة، بل مالك حتى للفرص الثمينة والأمل المنشود وسد ثغرته العاطفية، إنَّ تلك الفرصة كان" تيم" في حاجة إليها لإبراز مواهبه واستفراغ حماسته واندفاعه لإرضاء المجموعة لاسيما القائد المدرس، وبعد انتهاء الحصص المخصصة لشرح الديكتاتورية بشكل عملي تتبخر الآمال وتتوشح الفرصة بدثار التوجس والقلق، ولم يعد لذلك الشاب الذي أحس أنه مهدد في انتمائه، خيار سوى الانتحار، وبالتالي نكون أمام نتائج وخيمة في الفيلم وهي كالآتي:
- معالجة الانتماء بشكل سيء.
- سلوك غير مسؤول ولا يليق بالمدرس، وقد تجلى ذلك في تماهيه في الفكرة قلباً وقالباً، لاسيما سلوكه الَّذي تغير في بيته بشكل مثير.
- سوء التعامل مع متعلم يعاني من عدم إشباع غريزة الانتماء، بسبب الإحباطات التي يواجهها: طردُه وزجرُه لـ"تيم" عندما جاء إليه.
- بثُّ روح الاندفاع والحماس وتوجيههما إلى سبل تعود بنتائج معكوسة4.
- الدَّعوةُ إلى نبذِ الآخر المخالف ودحره وإرغامه على التخلي عن مبادئه قسراً.
- التشجيع على اقتراف الجريمة والفوضى والشغب.
- إذكاء روح الانهزامية أثناء الوضعيات المشكلة.
- غياب الإجراءات الإدارية والبيداغوجية لمواجهة المشكلة، معالجة مشكلة "تيم" بشكل خاص، تفادي الخصامات داخل الفصل، إغفال الدور الخطير للمدرس الذي يتجلى في الثأثير في المتعلمين بما يؤدي إلى تعلم شيء بشكل سيئ موهماً إياهم أنه سيقدم لهم النظرية بشكل عملي.

وبعد، فهل السينما مجرد تسلية؟

إنَّ مشاهدةَ فيلم سينمائيٍّ مغامرة غير محمودة العواقب، لاسيما إذا تعلق الأمر بناشئتنا، فالسينما لا تقدم فيلماً للتسلية بل تُقدم في كثير من الأعمال السينمائية مختلف أشكال العنف سواء كان لفظياً أو جسديّاً، وكذلك ما يتعلق بالصورة التي عندما تتحرك فإنها تحرك العواطف والنوازع وترغم المشاهد على الانصياع لفلسفتها متوسلة بفتنتها وتقنياتها الهائلة. إنها قطعاً ليست تسلية بل هي مغامرة تشكل تحد كبير أمام مسؤوليتنا جميعاً.


الهوامش
1. نقلاً عن: فؤاد دوارة، السينما والأدب، الهيئة المصرية العامة، ص: 18.
2. راجع الفصل الخامس من كتاب: مناهج النقد المعاصر لصلاح فضل، إفريقيا الشرق، 2002.
3. لقد حاول نيتشه جاهداً، ومن خلال فلسفته بثَّ فكرة الإنسان الممتاز، وذلك في جُلِّ مؤلفاته، وتتجلى في ما سماه "أخلاق السادة وأخلاق العبيد"، راجع كتابه: أصل نشأة الأخلاق.
4. لعل هذا ما عناه ابن خلدون بقوله: "عدم الشدة على المتعلمين"، باعتباره مبدأ من المبادئ الأساسية في العملية التعليمية التي وضعها ابن خلدون، حيث يقول: "وذلك أنَّ إرهاف الحد بالتعليم مضرٌ بالمتعلم سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الممالك أو الخدم، سطا به القهـر وضيق عن النفس في انبساطهـا وذهب بنشاطها، ودعـاه إلى الكسـل وحمـل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبسـاط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة". انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج 1، دار الجيل، بيروت، ص: 597.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها