عثمان عبدالله وقيع الله [1925-2007]

حروفية مُتفرِّدة.. رائدة ومُموسَقة

د. عبده عثمان

 

التقارب بين ضروب الإبداع شكّل قلقاً إيجابياً للمبدعين الجادين في فنهم، فتولد بذلك دفقاً غزيراً من الارتقاء بالفن، ومع أن مسيرة ذلك كانت طويلة وشاقة إلا أن بصيرتهم لم تغفل الجوامع المتشابهة التي تشكل لبنة الفن لدى كل منهم. وبغض النظر عن اختلاف لغاتهم التعبيرية؛ فالنسق، والإيقاع، والتنظيم، والجرس والاتزان ليست هي من ضرورات الشعر وحده، بل ضرورية للموسيقى كما للنحت والرسم، وأساسية للباليه والمسرح، ومهمة للعمارة ولكل أشكال الفنون الأخرى. تلك هي الطبيعة المعيارية الواحدة المشتركة بينها، فهي كعناصر لضبط العمل الفني تشكل لُحمة هذا التقارب في عملية الخلق والإبداع. هذا المسعى ومنذ مطلع القرن التاسع عشر وسَم انشغال المبدعين الجادين عن كشف كُنه قواعد هذه الصلات، وتأثيراتها المتبادلة، وهل هناك رابط يجمع بينها.

من الغريب أن التوليفة الذكية التي كشف الستار عنها العالم إسحاق نيوتن بين النغمة المرئية (اللون)، وتلك السمعية (الصوت)، والتي أثارت وقتها الكثير من اللغط، لم ينشغل المبدعون بمراميها البعيدة إلا بعد مرور قرنين من الزمان، حينما صارت التحولات العلمية واقعاً في عالم حديث سِمته الكشف والتطور فلحقت بركبه الحركات الفنية تماماً، كما فعلت الانطباعية عندما استبصرت تمثيل الواقع بإضافة تراكيب وأنساق فنية جديدة، لما كان معروفاً بالثوابت الإنشائية للوحة، فكان أن انفتح باباً رحباً على مصراعيه لعنصر اللون. ومن بين كل الفنون اتجه المبدعون لِسَبر غور العلاقة بين الموسيقى والرسم (أي التلوين)، باحثين عن الوشائج الجامعة لهذا الإبداع، حيث قامت المراكز التي انتظمت فيها بدايات التغيير الهائل القادم، فكان الموسيقيون أول من دعا إلى الانعتاق والتحرر من نظام التناسق النغمي، وتجاوز الأساليب التقليدية في التأليف الموسيقي.

لكن يلاحظ أن من بين الفنون نفسها، حظيت الموسيقى والرسم (أي التلوين) بالقدح المُعلَّى في البحث عن وشائج هذا التقارب وآثاره ونتائجه، وعلى وجه التحديد العلاقة بين الموسيقى واللون. وظهرت دعوة الملحنين للتحرر من نظام التناسق النغمي والتخلي عن أساليب التأليف التقليدية، فكان السبق لهم مع نهاية القرن التاسع عشر في تقديم نزعة التجديد والتجريد في الموسيقى واستقلالها من أي قيود هيكلية، فانعكس صداها على الفنون البصرية الأخرى، ونحا الرسامون ذات المسار مُبتعدين عن نظامِ المنظور والمحاكاة في رسوماتهم. فتولَّد في تلك الفترة مع هذا الجنوح الثائر إنتاج موسيقى من اللوحة.. فنبعت وسيطرت خاطرة أخرى، مداها أن لا بد من تأليف عناصر التلوين في (اللوحة) بطريقة مشابهة ومنتظمة كما في الموسيقى. فظهرت في فضاء اللوحة نتيجة لذلك لغة تصويرية تنظيمية لونية جديدة.

انشغلت الصالات الموسيقية بمؤلفين كبار في مجاراتهم لهذه النزعة الجديدة مثل "بتهوفن وبرامز"، فكانت موسيقاهم تلهم الفنانين بإيحائية اللون النغمية، ونجدهم قد عبروا عنها برسوماتهم. فما كتبه غوغان في 1899 إلى الناقِد أندريه فونتيناس يعبر عن قناعاتهم بهذه الوُجهة الجديدة حيث قال: "فكر أيضاً في دور الموسيقيِ الآن، الذي سيبدأ لعبة اللون في الصورةِ الحديثة.. اللون، الذي إلى حد بعيد عبارة عن موجات تتذبذب كما في الموسيقى، قادر على التعبير الأكثر شمولية، وبالتالي الأكثر غموضاً هناك في الطبيعةِ: قوته الجوهرية ". ولهنري ماتيس مساهماته بمجموعة أعمال في عام 1930 بصياغة تلوين الموسيقى المرسومة كاشفاً عن قوة جوهرية مقارنة إلى النغمات الموسيقية. وقد عبر عنها بقوله "الألوان هي القوة - كما في الموسيقى".
 

منذ أن خرج كل من الموسيقيين وفناني البلاستيك- في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين- من صيغ الكلاسيكية الصارمة في الموسيقى والرسم، ولِما كانت تشكله حفلات بتهوفن وبرامز من تحفيز للفنانين أمثال غوغان لرسم إحساساتهم التي وقعت في نفوسهم، مما سمعوه من ألحان على لوحاتهم، منذ ذاك أصبح هذا التوجه اتجاهاً فنياً جديداً، حيث تواصلت جهود المبدعين بالبحث والعمل في هذه الظاهرة الساحرة التي عُرفت لاحقاً بنظرية البُعد الرابع الخفيِ للفضاء أو بالبُعد الزمني. لكن الفنانين الذين ظهروا عقب فترات الجلوس للاستمتاع بالموسيقى، لم يحتاجوا لهذه الحفلات الموسيقية لتحفزهم ألحانها بمواضيع لرسوماتهم؛ إنما أصبح المسيطر هو الإحساس الذاتي للفنان بالألوان والأشكال في مجمل حضورهما معاً، يتقاسمان المساحات والحجوم باتزان ونسق مدروس، وعلاقات جذابة تتجانس فيها تلك العناصر تارة وتتصارع تارة أخرى، وتتكامل في أخرى في مُحصِلة مترفة بالفرح والراحة، تنطلق من إيقاعات ونغمات مُمَوسقة تطرب العين بأنغام سلسة. فوقتها تسارع نبض فناني "البلاستك" لإيجاد منافذ تخرجهم من فضائيتهم المحدودة، وذلك بتقصي هذا الشكل الجديد، فاتسمت أعمالهم منذ ذاك العهد وحتى يومنا هذا تعزف أنغاماً من الموسيقى المرئية بصيغ (مفاتيح) متنوعة في البحث عن البعد الإيقاعي والزمني المفقود في فنهم؛ أي لوحاتهم ذات البعدين.

على خلفية ما تقدم من مفاهيم وأعمال في إطار نظرية البعد الرابع الخفيِ للفضاء، اتجه الفنان الخلاق عثمان وقيع الله لإبراز الإيحائية الموسيقية لألوانه وخطوطه، بأشكالها وحجومها المتباينة بدلاً عن الرمزية. ويبدو أنه يبحث بتدقيق عالٍ عن الإدراك المحسوس للهارمونية "الانسجامات" خلال معادلاته المرصودة.

فاتسمت جميع أعماله بخلق ترتيبات لصلات تكوينية بين الأشكال والألوان، سواءً كان ذلك للكتابة بالأسلوب التقليدي الكلاسيكي وبأي الأقلام كانت، أو سواءً للتوليفات التصميمية التجريدية الأخرى. فنجد في المقدمة وميضاً تتبادل فيه الألوان الأدوار بين الهادئ منها في مقابل تلك الداكنة، فتبدو الألوان الحمراء والصفراء والسمراء والسوداء بتدرجاتها تتراقص في حجوزاتها المحسوبة، بتناغم يشيع في الفضاء إحساساً بالجمال لمعدلاته البصرية الرشيقة بالحركة الموزونة المتسربة بهدوء لعمق اللوحة، في مسعى ملحوظ لتحرير الحرف من ثنائية أبْعاده ليكون مستقلاً.

عند وقيع الله تباين الألوان ونغماتها المتدرجة دليل على سلاسة جريان القلم والفرشاة بين أنامله، وتكشف عن قدراته العالية في صياغاته التلوينية والتي أبرز القوة الجوهرية فيها، فالحروف المتشابكة أشبه ما تكون بالنغمات الموسيقية، فهو يصيغها وكأنها تشكل رجعاً متخافتاً إلى الوراء في اتجاه عمق اللوحة، كَـرَنَّة صوت "الصدى المرتد"، أو كما نقول عليه في السودان صوت "أبو التَيْتَي"، الذي يعود مرتداً من شاطئ النهر الآخر، أو من بين الجبال في رنته بتقاسيم منضبطة، وبتخافت في تردده إلى أن يتلاشى.

ربما أخذ وقيع الله طبيعة ذلك الصوت فمقاطع رسمه تصطف وكأن أياً منها يعي مكانه من هذه التراتبية، فلا يتقدم ولا يتأخر من المكان الذي أراد له وقيع الله أن يكون فيه. ولكي يتضح المعنى كأني أرى شفرة وقيع الله الذهبية القائمة على التعاقب الترددي، وأقوم نيابة عنه بتبسيطها ­بتحضير مجموعة من ألواح الزجاج الشفاف، فيقوم وقيع الله برسم اللوح الأول بحروف أو جملة ملونة أو سوداء، وفي اللوح الثاني يرسم ذات الأحرف الأولى لكنها شفافة وليست معتمة كالأُولـى، ثم في لوح ثالث يصيغها بمساحات متنامية أكثر عتمة، وربما أكثر شفافية من السابقة لها، ويمكن أن يستمر الفنان بإضافة المزيد من تلك الألواح. والمحصلة النهائية عندما تُرَصُّ هذه الألواح في تراتب خلف بعضها البعض، وبحفظ مسافة صغيرة بين كل لوح وآخر، وعندما ننظر للوح الأول ومن خلفه البقية تبدو الأحرف متناسقة بتراتبها المنظوري من خلال شفافية الزجاج. ونجد وقيع الله بتمكنه وقدرته الفذة في سلطانه على أدواته، كأنه يسحب الزجاج فتستقر الحروف والكلمات في حيوزاتها الفضائية المنضبطة ليرى شفافيتها ببصيرته، حيث لا يحتاج لإبرازها بلوح من زجاج. يشكل وقيع الله بذلك أنغاماً مفعمةً بالحركة والإيقاع، فتطرب العين بصيغ وتوليفات موسيقية تهمس في النفس مراتب الارتقاء بالذات من طينة الأرض إلى إشراقات الفضاءات الروحية.

المدهش أن المتلقي يتلذذ بغرقه في عالم وقيع الله السحري، فكل من لغته اللونية السلسة، وتنظيمه التصويري الملتزم قوة إقناع موحية؛ لأن كل شيء في عمله موضوع بميزان المثقال، ومدروس كما الموسيقى حيث تتعاقب إيقاعات الحروف وانعكاساتها أحياناً في الخلفية، وأحياناً في الوسط، ومرة أُخرى يوجد لها ما يقابلها من أَشكال وحجوم مماثلة لأوزانها أو ألوانها، فيخلق بذلك جواً مبهجاً من التناغم الموسيقي يوازي في تمثيله مبادئ "الكوردات" الموسيقية في التأليف متعدد الأصوات.

لقد كان وقيع الله واعياً في تمثيله للنبض المتدفق بإيقاعاته المتناوبة المفعمة بتناغمات الضوء والظلمة، واحتوائه للأبعاد الفضائية بهيئاتها المتعددة حيث تتناغم الأحرف والكلمات متواقتة ومتجانسة في كلية مظهرها. وهذا يُبَيِّـن فهمه وقدراته العالية في ترتيب واختيار شكل نسيج الحركة في كل لوحاته، الشيء الذي جعل حروفية وقيع الله متفردة، رائدة، مموسقة. وتلك سمة تميز بها في استدعاء الفضاء الزمنى الموسيقي في اللوحة والذي سعت خلفه مدارس الموسيقى البصرية منذ نهايات القرن التاسع عشر، لكن من الواضح أيضاً أنه استوعب المرامي العميقة لهذه النزعة، أو هذه المدرسة وتفوق فيها.

فإذا كانت كل محاولات الفنانين السابقين في تمثيل البعد الخفي للموسيقي في أعمالهم كما أسلفنا، ومثال ذلك نموذج فرانز مارك "سوناتينا لكمان وبيانو" الذي مر ذكره؛ فإن موسيقى وقيع الله تختلف في شكلها ومضمونها. فالنموذج الأول "سوناتينا لكمان وبيانو" تقف الأشكال في حزام أفقي تتشابك رؤوسها إلى أعلى، كالنوتات الموسيقية بألوان متعددة بينما الأسْود مُحدد لمساحاتها، وتتجه حركة الأشكال بألوانها بميلان نحو اليمين على خلفية محايدة تعزز من وجود الأشكال المرسومة. اعتمد مارك هنا على الرمزية للنوتات بالأشكال الطولية، وعلى النغمات التي تمثلها تلك الأشكال بصيغة الألوان المتنافرة. تلك هي الموسيقى التي يفترض أن تعكسها لوحته. أما النموذج الثاني لفرانز مارك "الأشكال المرحة"، فهو عبارة عن مساحات لونية ذات أشكال متنوعة، لكن الأشكال الهندسية هي الغالبة في مساحة اللوحة الأفقية. والمرح الذي أراده الفنان ينبع من تجانس وتنوع المساحات بألوانها في حساب نسبها وعلاقاتها مع بعضها البعض.

إن سماع الكمان يصدح أو حدوث البهجة من الأشكال المرحة، هو إحساس ذاتي يخص الفنان لحظة معالجته لعناصر لوحته المتأثرة بثقافته واتجاهاته الفكرية، لكن المتلقي قد لا يتحصل على هذا الإحساس لأن ذاته الفكرية والثقافية تختلف، لذلك يتطلب السماع لموسيقى هذه النزعة الجديدة معرفة واسعة بلغة ورموز التشكيل، وخبرة غير منقطعة من داخل صالات العرض وأجوائها.

أما في حالة الفنان وقيع الله فالأمر يختلف، فموسيقاه يفهمها ويطرب لها كل من نظر إليها، فعناصر لوحته مألوفة للمتلقي (الحرف والكلمة)، بينما البون ليس بواسع في مشتركات الثقافة والروابط الروحية، فالحرف المشحون بدلالات روحانية عميقة، علاوة على قدرته في تحريك الشجون الشفيفة هو نفسه الباعث للطرب المشترك بينهما.. فيض من الألحان في رحاب وعي مُتبصِّر وشوق شفيف، يسمو بالإنسان فيلتحم بنواظم الكون الأزلية.

سورة يس

لوحة سورة يس بشكلها المنسدل إلى الأسفل يتجلَّى عليها ما يُعرف بالسهل الممتنع، وذلك في مجمل توزيع الكتل البصرية المكونة لها. ومع أن خط النسخ هو الشائع في خطوط المصاحف، إلا أن وقيع الله خصها بإخراج بديع، بدءاً من مدخلها الذي توجه بخط الطغراء (يس والقرآن الحكيم). والطغراء غنية عن التعريف في تاريخ الخط العربي بما تضمنته من علاقات رأسية وأفقية ولولبية في غاية التناسق والجمال. ثم أوجد ما يوازنها في الأسفل بآية {فسبحانَ الذي بِيَّدِه مَلكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وإليهِ تُرجَعونَ}، فصاغها في شكل دائرة قطرها يبدأ بكلمة "بيده"، وينتهي في كلمة "كل"، لكن يلاحظ أنه قد حذف مقطعاً من الدائرة في الأعلى ليشكل خطاً مستقيماً دالاً عليه بعلامات التزيين المتراصة أفقياً، فيشكل بذلك قاعدة ارتكاز تستقر عليها من الأعلى كل الآية المنسدلة، بينما يظهر تصميم لجزء الآية "إليه ترجعون" وكأنه هو الآخر يحمل سانداً كلما هو أعلاه. وزاد من جمال وظيفتها الساندة ذلك الذيل اللاتيني والذي يَقِل استخدامه عادة، ولكن خبرة وقيع الله ورؤيته الثاقبة جعلته يختاره ويضعه في مكانه وتوقيته المناسب، وما يبرهن على درايته بذلك إبعاده لآخر الذيل من حدود دائرة خط الثلث الجلي، وليجد به معادلاً بصرياً عن قطاع الدائرة المحذوف في أعلى الدائرة.

شيء مرتب آخر ضمّنه وقيع الله وأظهر فيه ميلاً صوفياً للرقم ثلاثة وتكراره في هذه المنسدلة الرائعة، فقد نظم حساباً دقيقاً لمكونات اللوحة. فجسم الآية بخط الثلث من بدايتها عند (إنك لمن المرسلين) وحتى نهايتها عند (.. أن يقول له كن فيكون)، تعادل ثلاثة أضعاف دائرة خط الثلث الجلي في أسفل السورة تقريباً، وكذلك ثلاثة أضعاف ارتفاع­ الطغراء. أما قياس عرض الآية المنسدلة نفسها يشارك في ثلاثية أخرى بتطابقه مع قياس ارتفاع الطغراء وقطر دائرة خط الثلث الجلي. فهذه العلاقات مثل جوهر مكونات هذه الآية، فقد نظمها وقيع الله وحسب نسبها الفريدة، وتوزيع مستقراتها بالقدر الذي يستحسنه النظر ويرتاح به فتطرب الروح وتبتهل.

لم يفت على وقيع الله تجاوز عرض الطغراء الأفقي لعرض جسم كتلة السورة المنسدلة، ولم يحصرها فيه فهو أدرى بصنعته، وقد يظن من يعمل بحساب الأوزان أن الفنان أخطأ بوضع ما هو ثقيل وزناً في الأعلى، وليس في الأسفل. ولكن ليس الأمر كذلك؛ إذ إن تقديراته الدقيقة جعلت الوزن البصري في حساب ترتيب الفراغات الكبيرة، داخل التصميم واتجاه تقاطعات حركاتها "الديناميكية" تُظهر الطغراء أخف وزناً مما تبدو عليه. خاصة وأن كتلة دائرة الثلث الجلي في الأسفل جعلها بصرياً أثقل من الطغراء برسم كلماتها بسُمك قلم عادي فيما بين الفراغات والحروف، حتى إنه ضيقها أكثر بنثر حليات الخط التزيينية على الفراغ، فبدت مساحته في التراجع للخلف أكثر تشخيصاً للحروف المسيطرة على المشهد ما يُظهر وزن الطغراء في الأعلى أخف وزناً.

أما جزئية {إن هو إلا ذكرٌ وقرآن مبين} فقد خطّها بقلم الثلث الجلي، ليس فقط لتتجانس مع جنسها من الثلث في الدائرة تحتها؛ وإنما أجْلسها هنا كالشامة الجميلة في بحر خط النسخ من حولها، فتجلَّت كالعقد المُوشَّى في مداخل العمارة الإسلامية. فتلك السيطرة العالية لمفردات تكوين هذه المنسدلة لها أن تكون إنجازاً فائق الجمال لولا أن وقيع الله رتب وحسب، وقسم وصاغ خيوطها ببراعة وسحر آسر، فنسج منها وبها هذا الألق الرفيع والفن البديع.

لوحة الآية (إلا في كتاب مبين)

هذه الآية أخذت شكلاً مميزاً في حيز استقرارها فلم تجلس على قاعدة عريضة، كما هو متبع، إنما على سِنة مُدببة من الحرف "ب"، فانتصبت رأسياً باتزان حاد ساعدت عليه الحركة المتجاذبة في اتجاهين بين الأحرف المتسابقة لركني اللوحة في الأعلى. فنشهد أن كتلة الآية السوداء ذات الفراغات القليلة قد سيطرت بسوادها.. لكن صداها من الخلف مُعززاً بألوان هادئة ذات نورانية محببة تتناغم وكأنها ظل شفيف للسواد أمامها. يدرك الفنان وقيع الله أن الثلث الجلي تُحلِّي مظهره علامات التزيين، ويعلم أنها لا تتناسب مع خياره الكوفي في هذه اللوحة، لكنه ابتدع أسلوباً فريداً للتزيين بتوظيف آيات من السورة كسلاسل العقود، وأحاط بها حدود الكتلة بتناغمات من الثلث والنسخ بأحجام متنوعة وأماكن مختارة بعناية.

هذا الأسلوب -غير المسبوق- كان يمكن أن نحرم من مشاهدته لو لا معرفة وقيع الله بالموسيقى وعزفها، حيث إن لها كما خط الثلث علامات للتزيين، لكنه لم يستعن بأي منها بل وظف الكتابة نفسها بأقلام وأحجام، وأماكن مختارة كحليات تزين كتله الرئيسية، فجعلها تتحلق وتحاكي بترددات ناعمة صدى أجسام الحروف السوداء.

تلك هي الموسيقي المرئية التي ظل وقيع الله يعزف ألحانها الرائعة الشجية، وظل ملتزماً بها طوال مسيرته الفنية عزفاً منفرداً، لكننا نستشعر بقية الأوركسترا بتنوع آلاتها من خلفه تعزز المَشاهِد البصرية جمالاً وإبداعاً. فلم يكتف بتجسيد الشعرية فحسب؛ إنما نقل سحر وغموض قُدسية الكلمة.. وهنا فقط تقف الحواس في منتهاها، فتتجلى عينه الروحية فيرى الحقيقة ماثلة بين الأسطر التي رسمها، ويرهف أذنه الروحية فلا يسمع إلا ابتهالات حروفه... إنها الصوفية الحقيقية لعثمان وقيع الله. ظلت طوال حياته المهنية نصب عينيه، وبحثه الجاد المتواصل عن الكمال... بحث عن عالم خفي وراء المظاهر الشكلية وحيوية الألوان، أظهره وقيع الله بحرفيته العالية وفلسفته الملتزمة، فأعاده إلينا عالماً مرئياً نشاركه فيه البهجة والحبور.

فالحروف والكلمات وصدى انعكاساتها في الفضاءات الخلفية والألوان، وتبايناتها وتناغماتها شكّلت قاعدة وقيع الله الذهبية في عمله، فالجمالية عنده هي الشعرية البصرية، فهي أشبه بالنغمات في الموسيقى، والتي لها القدرة على إحداث انعكاسات في عقل وروح المتلقي. أما هذه الصياغات الشكلية واللونية لمادته التشكيلية (الحرف، الكلمة، اللون، الفضاء) هي رقشٌ يبحث عن حيزه الزماني.. بل في الكثير من أعماله تتسابق الأحرف والكلمات لتخرج من مربع اللوحة لتقف كما لو أنها قوة مواجهة في الفضاء، متحررة من سطحية القماش "الكانفاس"، مقدمةً نحتاً مجسماً بكل العناصر التي يتضمنها النحت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها