الجمالي والسياسي في السينما

د. مريم وحيد


ارتبط الحكم الجمالي بالتنظير السياسي منذ فجر التاريخ.. فقد عني المفكرون السياسيون منذ أقدم العصور بفلسفة الجمال والفن، فتم تناول العلاقة الإشكالية بين الجمال والنظرية الديمقراطية في أعمال أفلاطون وأرسطو وتوماس هوبز، وجان جاك روسو وأدموند بيرك وماري ولستنكرافت، وإمانويل كانط وفريدريك شيللر، وفريدريك نيتشة وفالتر بنجامين، وحنا أرندت وجاك رانسيير وكلود ليفورت، وأرنست كنتوروفتيتز وغي ديبور.
 

كان أفلاطون يبدي عداء شديداً للفنون ويرى أن غاية الإنسان الأساسية هي فهم العالم، فلا بد للإنسان أن يحرر نفسه من سحر الفنون والإغراءات المختلفة ومن هنا عادى أفلاطون الفنون، وطالب بأن يتم حظرها وتقييدها، ولأن الفنون هي تمثيل أو تجسيد خادع للواقع فلا ينبغي على الفرد أن ينجذب لها فعليه إدراك الواقع بعقله والابتعاد عن غريزته وعاطفته، وأن يكون العقل هو المتحكم في الغريزة1. أما أرسطو فلم يتفق مع أفلاطون في رؤيته السلبية لدور الفنون والخيال والصورة فقد لعبت الصورة دوراً أساسياً في فلسفته. كما تطرق المفكر الأيرلندي ادموند بيرك2 في كتابه "تحقيق فلسفي حول أصل أفكارنا عن الجلال والجمال" Philosophical Enquiry into the origin of our ideas of the sublime and beautiful وهو الكتاب الذي أرسى اتجاهات جديدة في النظرية الجمالية وأثر على أفكار كانط3.

تميزت فلسفة كانط بمحاولته لتأسيس علم الجمال في كتابه الشهير "نقد ملكة الحكم" A Critique of Judgment. وقد تناول ماركس الفنون في كتاباته حينما أشار إلى تأثير البنية التحتية المادية على البنية الفوقية التي تتكون من المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدين والفن. وقد رأى ماركس أن الفنون تخدم مصالح الطبقة الحاكمة من خلال نشر أفكار الطبقة الحاكمة، وعرض إنجازاتها وصرف انتباه الطبقات الأخرى عن السياسة من خلال الفن4.

أما نيتشه فقد أثر كثيراً على فكر الأدباء والفنانين وذلك بسبب كونه فناناً وفيلسوفاً في ذات الوقت، ففي الفيلم الألماني "انتصار الإرادة" استخدمت عبارات من أعمال نيتشة مثل "إرادة القوة" على سبيل الدعاية للنازية5.

وقد تناولت مجموعة دراسات عن النظرية السياسية العلاقة بين السياسة والفن وذلك من خلال مفهوم "الخيال"، فقد تركزت أعمال المفكرين السياسيين على نقد الواقع ومحاولة تغييره من خلال طرح بديل خيالي بهدف الوصول لما هو أفضل. فيقوم المفكرون السياسيون بإنتاج صور جديدة بتمثيل أشياء موجودة بالفعل أو غير موجودة، فعلى سبيل المثال تحدث كانط عن الخيال كملكة عقلية متجاوزة والقفز فوق الواقع ومفارقته وتخطي حدود الزمان والمكان، وبذلك يستطيع الفرد تغيير الواقع إذا ما استطاع تجاوزه.

ومن المدارس الفكرية التي اهتمت بدور الخيال كانت مدرسة التحليل النفسي ومن روادها سيجموند فرويد الذي استخدم المصطلح الألماني المرادف للخيال "Einbildungskraft"، وهو ما يعني صنعة أو حرفة التركيب، واستلهم تلك الكلمة الألمانية للخيال باعتباره التركيب وإعادة بناء المفاهيم. وكان البحث عن اليوتوبيا والمجتمع الفاضل حاضراً لدى المفكرين عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة، وذلك لسعيهم لإيجاد مجتمع أفضل ومن أمثلة تلك الكتابات "يوتوبيا" لتوماس مور الذي انتقد الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة في عصره و"البيان الشيوعي" لكارل ماركس، وفريدرك إنجلز الذي انتقد المجتمع الرأسمالي البرجوازي وتم طرح تصور للمجتمع البديل6.

ومن زاوية أخرى تناولت دراسات النظرية السياسية الحديثة أنماط التفكير السياسي في الصور وليس فقط في النصوص المكتوبة7. فالصورة قد تكشف عن خصائص سياسية لا يمكن للنص المكتوب أن يفصح عنها، وقد يعكس الأفكار السياسية لعدد أكبر من الجماهير8.

وفي إطار ذلك جاء الاهتمام بدراسة الفنون البصرية مثل الفن التشكيلي والفيلم. ومن هنا ظهرت أهمية الفيلم في التنظير السياسي9.

والفيلم -تحديداً- كأحد أشكال الفنون يُعد هو المساحة التي يتجلى فيها التنظير السياسي. ويعتقد الكثير من المنظرين أن للفيلم قدرة سحرية لبناء وتغيير الواقع. فمعظم الأفلام لا تسعى لمحاكاة الواقع فقط، فأحياناً يهدف صناع الأفلام إلى خلق واقع جديد بصورة ابتكارية إبداعية. فصناعة الفيلم يعد أسلوباً للمشاركة السياسية وهو أسلوب شديد التأثير على الرأي العام10.

وحول الفيلم تحديداً قام إيان فريزر Ian Fraser أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة لافبورو بالمملكة المتحدة، بتقديم دراسة عن رؤية المنظرين السياسيين لعلاقة الفيلم بالنظرية السياسية. وذلك بعد رصد أعمال بعض المنظرين الراديكاليين الذين حاولوا استكشاف التأثير السياسي للفيلم على الذات الجمالية والتي يمكن أن تؤثر على إمكانية المقاومة السياسية. هؤلاء المنظرون هم تيودور أدورنو Theodor Adorno وفالتر بنجامين Walter Benjamin، وأرنست بلوخ Ernst Bloch وجيل دولوز Gilles Deleuze، وألان بادو Alain Badiou وجاك رانسيير Jacques Rancière وجوليا كريستيفا Julia Kristeva وسلافوج زيزيك Slavoj Žižek. وقد رأى فريزر أن الأفلام وطيدة الصلة بالسياسة والنظرية السياسية11.

وقد شهدت النظرية السياسية تطوراً كبيراً، فبعد أن كانت تركز قديماً على الدساتير والمؤسسات والأحزاب وعلى علاقات القوة داخل الدولة، فظهرت خطابات جديدة تستوجب التحليل والدراسة ومنها الأفلام. وقد اختار فريزر ثمانية أفلام لتحليلها كانت كلها ترى العلاقات في المجتمعات الرأسمالية بأنها علاقات ظالمة، فكان صانعو هذه لأفلام يبحثون عن التحرر فقدموا نظرة نقدية للواقع12.

وقد رأى فريزر أن أ العلاقة بين النظرية السياسية والفيلم قد جذبت اهتمام الدراسات الأكاديمية. وتجلى ذلك في دراسات مايكل شابيرو Michael Shapiro عن الفكر السياسي السينمائي التي بدأها شابيرو عام 1999، وتلاها أعمال لديفيد بناجيا David Panagia وريتشارد رشتون Richard Rushton وجون نلسون John Nelson.

 وكان شابيرو قد مزج الفلسفة بالسياسة في تحليل الأفلام من أجل تشجيع الفكر السياسي القيمي، وذلك بتقديم نقد سياسي مستند على أفكار إيمانويل كانط. كما استند كذلك على فكر دولوز ما بعد الكانطي والذي أعطى أولوية للزمن على المكان في التحليل السينمائي.

 أما باناجيا فقد قدّم طرحاً مختلفاً متأثراً برؤية هيوم Humeanism. يقول بناجيا بأن النظرية السياسية تحتاج إلى الفيلم، فالصور تشجع على التأمل السياسي، وتعتبر داعماً للأساليب الجديدة لمقاومة الواقع. فالفيلم عبارة عن سلسلة متتالية من اللقطات.

وقد تأثر بناجيا بالتفكير السينمائي لديفيد هيوم وأنطولوجيا الفيلم لستانلي كافيل وأفكار رانسيير ودولوز. ثم قدّم بناجيا استناداً إلى أفكار هيوم مصطلح "المظاهر المكسورة" Broken Appearances وهو ما يشير إلى عدم استمرارية سلسلة الصور المتحركة التي يقدمها الفيلم. ويختتم بناجيا أطروحته عن سياسة المقاومة بناءً على مفهوم عدم الاستمرارية13.

أما رشتون فيربط بين النظرية السياسية والفيلم من خلال استكشاف إمكانية ارتباط سياسة السينما بالديمقراطية من خلال تحليل عدد من أفلام هوليود الكلاسيكية، وقد استند رشتون إلى أعمال المنظرين السياسيين الديمقراطيين، مثل أرنستو لاكلو Ernesto Laclau وشانتيل موف Chantal Mouffe وجاك رانسيير Jacques Ranciere14.

ودرس جون نلسون John Nelson النظرية السياسية من خلال السينما الشعبية التي اتخذت أشكالاً مختلفة مثل الملاحم Epics، والأفلام السوداء Noirs والسخرية Satires، وقام باستعراض تجلي التقاليد المثالية والواقعية في الأفلام الجماهيرية15.

وفي إطار دراسته للعلاقة بين الفن والسياسة المعنونة "العمل الفني في عصر النسخ الآلي" Work of Art in the Age of Technological Reproducibility، طرح فالتر بنجامين مفهوم تجميل السياسة "Aestheticization Of politics"، وذلك في إطار دراسته للأنظمة الفاشية. ثم ظهر مفهوم مقابل تعبيراً عن سياسة الاتحاد السوفيتي وهو مفهوم تسييس الجمال ""The politicization of aesthetics16.

وفي كتاب "النقلة الاستطيقية في الفكر السياسي"17 -وهو كتاب محرر من أستاذ الفلسفة الكندي نيكولاس كومبريديس- يقدم كومبريدس عدداً من أفضل دراسات النظرية السياسية من منظور استطيقي. ترسم تلك الدراسات خريطة موضوعات جديدة في النظرية السياسية، ويسعى المنظور الاستطيقي لإعادة إدماج الفكر والممارسة السياسية بالحواس والمشاعر والحدس. وعن علاقة علم السياسة بفن السينما تحديداً تتطرق دراسة ديفيد باناجيا أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس بعنوان "جدوى الفيلم للنظرية السياسية"18. إلى توضيح علاقة الفيلم بالتغيير السياسي بالتركيز على خصائص الفيلم الفنية. كما سرد الباحث مجموعة من أهم مقولات المفكرين مثل رانسيير والتوسير وكافيل الذين ربطوا بين الفيلم والتنظير السياسي.

كما ظهر مفهوم "السينما السياسية" كمصطلح جديد في الكتابات الأكاديمية التي اهتمت بعلاقة الفيلم بالسياسة، وذلك للتعبير عن السينما ذات المدلول أو المعنى السياسي. فالفيلم، أي الوسيط السينمائي السمعي البصري، يمكن أن يتجلى به الفكر السياسي، فالفيلم قد يمثل خطاباً سياسياً فيعتمد على إمكانات تجعله شديد التأثير على الرأي العام وعلى العملية السياسية. وقد تجسدت السينما السياسية بشكل جلي في سينما العالم الثالث في ستينيات القرن العشرين.

لقد استعرضنا في هذا المقال مجموعة من الدراسات في مجال النظرية السياسية التي تعتبر الفيلم مساحة للتنظير السياسي. وهو ما يمثل نقلة نوعية في دراسات النظرية والفكر السياسي التي قلما نظرت إلى الفيلم كخطاب سياسي. وحتى في الدراسات النقدية للسينما كان يتم الإشارة إلى أهمية دراسة الجوانب الجمالية للفيلم إلى أن تم طرح نظريات نقدية مغايرة للسينما، تشير إلى أهمية النظر للفيلم ليس كإبداع جمالي فقط، بل كخطاب اجتماعي وسياسي.

 

 


الهوامش
1. نظلة الحكيم ومحمد مظهر سعيد (1963)، جمهورية أفلاطون، (القاهرة: دار المعارف)
Bryan Magee (2001), The Story of Philosophy, ( London : A Dorling Kindersley Book), pp. 29-30
2 -  ادموند بيرك (1729- 1797) مفكر سياسي أيرلندي من أبرز مؤلفاته "تأملات حول الثورة الفرنسية".
3 -  Ibid., p.119. 
4 -  Ibid.,p. 168. 
5 -  Ibid.,p. 179.
6 - محمد صفار، محاضرات بعنوان "اليوتوبيا والخيال السياسي" في مقرر النظرية السياسية، ألقيت على طلاب الفرقة الثالثة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، العام الجامعي (2014-2015)
7 - Philipp Jeandrée , Making visible: Visual Art and Political Thought in a Global Age ,Available at : http://ecpr.eu/Filestore/PaperProposal/2b7bcc5e-0046-4f76-94c3-ca2c8ca4c2cd.pdf, Access Date : 3-5-2016.
8 - Josh Vandiver, Writing Art / Political Theory , Available at : http://www.joshvandiver.com/2013/08/28/writing-art-political-theory/ , 2013, Access Date : 5-5-2016.
9 -  Iain Mackenzie and Robert Porter,Dramatization as method in political theory, Contemporary Political Theory , vol. (10), 2011. 
10 - Elizabeth Haas, Terry Christensen & Peter J. Hass ( 2015), Projecting Politics : Political Messages in American Films, Second Edition, ( New York & London : Routledge), p.9.
11 - Ian Fraser (2018), Political Theory & Film : From Adorno to Žižek, ( London : Rowman & Littlefield International). 
12 - Ibid., p. 1. 
13 - Ibid., pp.2-6. 
14 - Ibid., pp. 8-9. 
15 - Ibid., p.12. 
16 - Walter Benjamin, Work of Art in the Age of its Technological Reproducibility, Available at :
https://monoskop.org/images/6/6d/Benjamin_Walter_1936_2008_The_Work_of_Art_in_the_Age_of_Its_Technological_Reproducibility_Second_Version.pdf Access Date : 9-1-2018. 
17 - Nikolas Kompridis ( ed. ) ( 2014 ) , The Aesthetic Turn In Political Thought , ( New York And London : Bloomsbury Academic ). 
18 - David Panagia , Why film matters to political theory ?, Contemporary Political Theory, Vol. (12), (2013), pp. 2–25.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها