أسئلة العقلانية والأنوار وفق منظور: "كانط، فوكو، ديكارت"

عزيز توما

سنتناولُ مفهومي العقلانية والأنوار في الحقل الفلسفي على اعتبار أنّ المفهومين يتمثلان لحظات حاسمة من انتصار العقل وولادة الإنسان الجديد، هو الإنسانُ الحرُ والعاقلُ. وسنحاولُ تتبع الإنجازات التي تمت في هذا الصدد.
 


 

لقد طرح كانط مسألة أساسية على الفكر الفلسفي ألا وهي مسألةُ الأنوار، أو سؤال الأنوار، وحاول الإجابة عليه عبر نصٍ مُقتضب تحت عنوان: "ما الأنوار"، نُشر عام 1784 في إحدى الجرائد الألمانية، والذي أثار إلى حدٍ كبير اهتمام فوكو. فكيف حدد كانط الأنوار وكيف علّق عليها فوكو؟ الأنوارُ تتسم بأنها الزمن الذي كثف معارف العصور السابقة جميعها، وأعاد إنتاجها بصفة إنسانية من نوع جديد أطلق عليها النزعة الإنسانية، التي أخذت سمة الكونية ليس لفضائلها الخلفية فحسب؛ وإنما لتداخل اعتبارات سياسية وثقافية واقتصادية معينة.

من غيرِ شك أنّ الأنوار هي الانتقالُ من حالة العجز والقصور إلى القدرة والمسؤولية، بسبب ارتباطها بشعور معاصر ومتمَيز، تتمثل في إنتاج الحداثة المظفرة. والحداثةُ كما هو معروف زمنٌ تاريخيٌ أكثر من كونها وعياً جديداً، وإن كان هذا الوعيُ الجديدُ قد تمظهر في فترة تاريخية محددة، مما جعلها لصيقة بعدد من المحددات بدءاً من العقلانية والتنوير وانتهاءً إلى فكرة التقدم، فهي تتجلى إذاً في مجموعة من القيم التي تعبر عن روح الزمن وفعل العصر. ومن المعلوم أن الحداثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر أرست قواعدها الفكرية مع عقلانية ديكارت، الذي يعتبرهُ المفكر الأمريكي ما بعد الحداثي ريتشارد رورتي أب الحداثة ومؤسسها، أما هابرماز فإنه يعيدُ الحداثة إلى عصر الأنوار معتبراً أنها مشروعٌ لم يكتمل بعد.

بيد أنّ كانط يفترض وجود إمكانيتين للخروج من العجز تتمثلان في السياسة والأخلاق. ففي الأخلاق ثمة مسألة الطاعة واستعمال العقل، إلا أن الطاعة تُلزم الإنسان عدم استعمال عقله كما هو الحال في السلطة السياسية، وفي نظره تُصبح البشرية راشدة وبالغة عندما يُطلب منها الطاعة واستعمال العقل في آن. وفي السياسة يتعلق الأمر باستعمال العقل خاصاً وعاماً، بمعنى يكون الاستعمال بطريقة خاصة عندما يكون للفرد دور في المجتمع وله وظائف يقومُ بها حيث لا تكون الطاعة عمياء. ولكن عندما نفكر باعتبارنا أعضاء في المجموعة البشرية العاقلة يجب أن يكون استعمال العقل حراً وعاماً. لذا؛ فالأنوارُ لا تعني فقط الجانب الخاص من العقل بل الاستعمال الشامل والعالمي له، إلا أن السؤال الذي يواجههُ هذا الاستعمالُ الأخير هو في كيفية ضمان استعماله.

كيف يقرأ فوكو نص كانط عن الأنوار؟ رغم الظروف المحيطة بالنص الكانطي، بيد أنه يطرحُ مسألة جديدة، كما قلنا سابقاً، على الفكر الفلسفي، تتعلق بالحاضر. فبنظر فوكو أن هذا النص يُعد من النصوص الأساسية التي تطرحُ مسألة الحاضر، معتبراً الحاضر جديراً بالفكر الفلسفي؛ لأنه يمَهد للحداثة الفلسفية في الغرب، وهو ما سنتناوله لاحقاً على نحو مفصل. يرى فوكو أن نص الأنوار لا يطرح سؤال الإنجاز والأصل، بل سؤال الحاضر أي (السؤال عن الآنية): ماذا يحدث الآن؟ وما هو هذا الآن؟ لقد كان الحاضرُ موضوع التفكير الفلسفي، فديكارت كتب سيرته بناء على سؤال حاضر يتعلق بكل زمان ومكان، أما سؤال كانط فيخصُ هوية الحاضر كحدث فلسفي يجعل من الآنية أشكالاً وكتساؤل الفيلسوف عن هذه الآنية التي ينتهي إليها، والتي لا بُدّ أن يتخذ له منها موقفاً، سيمَكن من تمييز الفلسفة كخطاب الحداثة أو كخطاب عن الحداثة1.

لكن ما المقصود بالحاضر؟ ليس المقصود الآليات الاقتصادية والاجتماعية؛ وإنما المقصود بذلك الترابط القائم بين حساسية الناس واختياراتهم الأخلاقية وعلاقاتهم بأنفسهم، وفيما بينهم والمؤسسات المحيطة بهم، حيث تظهر المشاكل، بل وحتى الأزمات التي توجب على مؤرخ الحاضر أو فيلسوف الحاضر وصفها ونقدها معاً. لذا يتفق العديد من الدارسين على أن الحاضر في فلسفة فوكو، سواء بكتابته كتاريخ أو كموضوع للتشخيص الفلسفي، يكون بدراسة آليات المعرفة والسلطة في المجتمع الحديث، وعليه يشكلُ موضوعاً للفلسفة والتاريخ معاً.

لا يمكن في نظر فوكو فصل سؤال الأنوار عن سؤال التقدم، ذلك لأنّ السؤالين بقيا يترددان في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، حيث عصر التنوير ليس مجرد مرحلة تاريخية من تاريخ الفكر، بل مسألة فلسفية مدونة في الفكر منذ القرن الثامن عشر ليس بمعنى الحفاظ على تركة حية ومقدسة، فهذه خيانة بنظره حيث الهدف ليس أن نحافظ على بقايا عصر التنوير، بل أن نبقي على السؤال ذاته الذي طرح هذا الحدث، وعلى معناه كموضوع للفكر.

لقد طرح عصر التنوير بكل قوة مسألة العقل والتاريخ، وبهما تحَدد مجال التساؤل الفلسفي عن هوية وجودنا في الآنية التي نحيا فيها. وكانط بمساءلته الأنوار والتقدم يكون قد طرح في نظره مسألة الآنية والمجال الحالي للتجارب الممكنة، أو أنطولوجيا نحن ذاتنا. ويرى فوكو أنّ فلسفته تندرج ضمن هذا الاختيار الفلسفي القائم على مساءلة الآنية، وليس تحليلية الحقيقة كما فعل كانط في مشروعه النقدي. هذا الاختيار الذي أسس "من هيجل إلى مدرسة فرانكفورت، مروراً بنيتشه وماكس فيبر، شكلاً من التفكير هو ما سمَاه الأنطولوجيا الداخلية"2.

وأفضل طرح لمسألة التقدم في نظره هو تحليل الشروط التاريخية والقواعد الخاصة لكل ممارسة، وتعيين مختلف إمكانيات التحول، من دون أن نجعل من الوعي أو من الذات بصفة عامة المحرك الأساسي لكل التحولات. يجب تحديد مختلف الوظائف والخطط التي يمكن للذات أن تقوم بها في أحد المجالات ووفق قواعد تكونها، لذلك فكل سياسة تقدمية هي التي تعتبر الخطابات ممارسات تتمفصل مع ممارسات خطابية وغير خطابية3.

وعلى هذا الأساس يمكن القول إن فوكو لم يتأثر فقط بالبنيوية ونيتشه؛ إنما بكانط كذلك، ولكن بعد القيام بتأويل معين للكانطية وتصنيفها إلى فلسفة تهتم بالحقيقة وأخرى تهتم بالآنية، وهي التي ينتمي إليها فوكو، وفيها أسس ما سمَاه الأنطولوجيا التاريخية التي ترى أن مهمة الفلسفة هي تشخيص الحاضر عبر تحليل علاقات المعرفة والسلطة، أو كتابة التاريخ الحاضر عبر وصف مختلف أشكال العقلانية دون السقوط في النظرة الوضعية القائمة على أفضلية مرحلة على أخرى؛ وإنما بالتأكيد على أن التقدم في التاريخ لا يشكل علة أو مبدأ للتصنيف، وإن كان حقيقياً فهو لا يبرر بأي شكل القول بعصر ذهبي، لذا وجب مساءلة الكيفية التي يحدث أو يتحقق بها التقدم عبر تحليل آليات المعرفة والسلطة، أو مختلف أشكال العقلانية، وكتابة تاريخ الحاضر من حيث هو تاريخ اختلاف الأزمنة.

وتأسيساً على ما سبق؛ تجدرُ الإشارة إلى أنّ العقل والعقلانية بوصفهما الحامل الفلسفي لمشروع الأنوار، لاسيما وأن العقلانية قد اتخذت مع ديكارت باعتبارها أساس الحقيقة والمعرفة، يُعدان الخط الفاصل بين عالم الماضي وعالم الراهن حيث يُعتبر الإنسان مركز الكون. إذاً ففكرة الأنوار مقترنة اقتراناً وثيقاً بفكرة العقلانية، كما يؤكد على ذلك آلان تورين في قراءته لمشروع الحداثة4.

فهو يرى أنّ مشروع الحداثة بما هو تطويقٌ للثقافات التقليدية وتبشيرٌ بالحرية والسعادة ينتقل من الدور الأساسي المعترف به للعقلانية إلى فكرة أوسع، هي فكرةُ مجتمع عقلاني يحكمُ فيه العقلُ لا النشاط العلمي والتقني فحسب، بل حكومة البشر وإدارة الأشياء. وهذا ما نلمسه في كتابه "مقالة الطريقة"، الذي دعا فيه إلى ضرورة تحطيم الأسس القديمة للمعرفة، وتأسيسها على قاعدة جديدة ذهنية رياضية. فبهذه المحاولة الجريئة إنما فتح النوافذ وأدخل ضوء النهار إلى الكهف المظلم الذي انغلق فيه أصحابهُ في العصر الوسيط.

لقد جعل ديكارت من مبدأ العقلانية سبب الوجود وغايته، فلكل شيء سبب معقول حسب قاعدته الشهيرة، فالإنسان تحَول من متأمل للكون ومعجب بروعة خلقه إلى غازٍ منقبٍ عن أسراره، فأخذ يجوبُ العالم ويبحثُ له عن أسبابه المعقولة، مميزاً إياها عن الأسباب غير المعقولة، إلى أن انفتحت أمامه أبواب العلم الحديث، فصار يجدُ فيه ما يمَده بمعرفة أسرار الموجودات ويمنحهُ سلطة على الكون، ويستعيضُ به ألغاز الميتافيزيقيا القديمة. وهكذا، فالعلم بدا ثمرة رئيسية من ثمار العقلانية التجريبية مع ديكارت. وكان من الطبيعي بعد ذلك أن تنتهي العقلانية إلى نوع من الذاتية، ذات الإنسان العليا، التي فكت ألغاز الطبيعة وسيطرت عليها وتمكنت من كشف أسرار العالم وفضّ مكنوناته؛ فقد أضحى الإنسان يدرك نفسه كذات مستقلة، ذاتٍ لا تكتفي بأن تعلن ما يميزها عن الطبيعة، بل تروض هذا العالم وتغزوه لكي تجعله بمختلف كائناته ومستويات إدراكه، مقاساً بالمعيار الإنساني، فالحداثة كما عبر هيدجر هي عصر انبثاق تصورات الإنسان عن العالم.

ألم يُصبح الإنسان سيد العالم وهو المتحكمُ فيه؟ لذلك لن تجد خياراته حواجز أو تقف أمام طموحاته عقبات، فخط التقدم يسير قدماً إلى الأمام ما دامت رغباته توافقُ دوماً ما يحققهُ.

أخيراً؛ نعتبر أن الأنوار التي أنتجت الحداثة، أحدثت بدورها قطيعة ابستيمولوجية مع الفكر القديم على قاعدة العقل، مثلما هو الشأن في الفيزياء والعلوم. إن نشأة دولة القانون كانت من الثمار الضرورية لهذا التحول المعرفي الذي عرفه عصر الحداثة، بل باعتباره التحقق الفعلي لأفكار الثورة العلمية، أي الاستتباعات العملية لهذا التحول بالذات. فدولة القانون هي مفهوم حديث وليد العصر الحديث، وتحديداً وليد الفلسفة التعاقدية مع هوبز وسبينوزا وروسو، وخاصة مع هيجل فيما بعد، دولة تقوم هذه المرة على محتوى هو فكرة الإرادة كما يقول هيجل. لكن هذه الفكرة هي بالأساس فكرة عقلية تبقى في جوهرها فكرة افتراضية، نظرية قد لا تطابق بالضرورة الواقع. يمكن فهم هذه المسألة إذا عرفنا أن جميع الأفراد متساوون بالطبيعة في الحقوق، وأن هذه الحقوق ثابتة. ونقصد هنا بالحق قدرة الفرد على أن يكون فاعلاً في العالم الخارجي طبقاً لإرادته، وهذا الحق نعني به الحرية.


الهوامش
1-Michel Foucault: Dits et Ecrit (1954-1988). T4,Gallimard,pp:562.
2-Michel Foucault; Dit et Ecrit, Ibid, p: 344.
3-Michel Foucault: Réponse à une question, in, esprit, p:691.
4. آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة صباح الجهيم، دمشق، منشورات وزارة الثقافية، ص: 16.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها