أحلام "محروسة"

عبد السلام فاروق


لا ريب أن (محروس) بات في موقف لا يحسد عليه بعد أن حاصرته المتاعب وألقت به الأنواء في عين العاصفة؛ وكأنه يقف على فُوهة بركان يوشك أن يهلكه.

الشباب في عمره تزوجوا أو أوشكوا، وهو لا يستطيع مجرد التفكير في إكمال نصف دينه، معه شهادة جامعية عليا، يمكن بها لغيره أن يحرز عملاً محترماً وراتباً معقولاً. أما هو بالذات لا يجد من يرتضيه عنده موظفاً أو عاملاً أو حتى خادماً؛ فرغم كونه شاباً وسيماً جَلْداً وافر الصحة أنهى كل مراحل دراسته بتفوق، إلا أنه لم يزل بعيداً عن تحقيق أحلامه كلها، البسيط منها والهائل، الداني منها والنائي، اليسير منها والمعقد.. حتى إن أيسر متطلباته اليومية صارت أحلاماً لا يسعه تحقيقها.. مجرد توفير لقمة سائغة أو كساء أنيق أو مواصلات تريحه من عناء السير الطويل بحثاً عن عمل، كلها أمور يؤرقه التفكير فيها ليل نهار.. إذ هو لا يتناول في يومه سوى وجبة واحدة قوامها الفول أو الجبن أو العدس، ولا يملك إلا بنطالاً يتيماً من الجينز البالي الممزق، وقميصاً ذابت ياقته واضطر إلى طي أكمامه ليخفي ما أصابها من رثاثةٍ واهتراء، وحذاء حال لونه وذاب نعله وأعملَ فيه الإسكافي إبرته ومطرقته بعشرات المسامير والخيوط والرقع.

أما عنه فما يزال متماسكاً متمالكاً محاولاً ألا يسقط فريسةً للاكتئاب أو الإحباط كأبيه، فلا وقت لديه لهما، إن أمره يهون.. أما أخته الصغرى "محروسة" تلك المسكينة فهي التى يؤرقه حالها؛ لقد حال حظها العاثر دون إكمال تعليمها فاعتصمت بجدران البيت أو قل الغرفة. بيتهما ليس إلا غرفة وحيدة بها فراش وصندوق للملابس، وكوّة غائرة بالحائط اصطفت عليها كتب دراسية قديمة، وصالة ضيقة لا تكاد تنفصل عن الغرفة وبيت الخلاء.

وفوق حائط الصالة استقرت صورة لزوجين، وقف أمامها "محروس" طويلاً عائداً بذاكرته إلى ما قبل سبع سنوات مضت كان الحال فيها غير الحال.

كان له أبٌ حنون محترم وفر لهم عَيشاً كريماً هادئاً، وأمه الطيبة تفانت في خدمة أسرتها الصغيرة. أما خاله، سامحه الله، فكان ممن حادوا عن طريق الوطن واتخذوا طريقاً عكسياً ضده، فكانت النتيجة أنه طورد ثم قتل. وحزنت عليه أخته الوحيدة وانحازت له ولأفكاره فخرجت في مظاهرات متكررة، غير عابئة بنداءات زوجها وأبنائها حتى قضت في إحدى المظاهرات.

وجاء الدور على الأب الذي نسي عمله وأهمل أولاده واستسلم للأحزان، واختار أن يخرج في المظاهرات ليس احتجاجاً ولا غضباً؛ وإنما يأساً وقنوطاً كمن يطلب المنية. وما لبث أن اختطفه الموت كمداً ليترك خلفه ابنه الشاب، وابنته اليافعة يتسولان قوت يومهما.

ورغم ما لقيه من عنت ومصائب متتابعة، ورغم تعرضه للسجن غير مرة بسبب مصاحبته لأبيه وأمه في المظاهرات محاولاً منعهما عنها.. إلا أن "محروس" استطاع استكمال دراسته، وإنهاءها طمعاً في نيل وظيفة، أو عمل يضمن له ولأخته عيش الكفاف، لكن صحيفة سوابقه التي وصمته بتهمة الإرهاب وهو بريء منها طاردته وحالت بينه وبين العمل.

سمع طرقات مهذبة متباعدة على الباب ففتح، فإذا به صديق من أصدقاء الدراسة. رحب به أوفر الترحيب، وهَمَّ أن يستضيفه على المقهى خجلاً من غرفته المتواضعة وضيق ذات يده فأبَى.

كان متواضعاً رغم ثراءِ عائلته وشهرة نسَبِه، أبوه لواء بالجيش وكثيرٌ من أقاربه يعملون في الجيش والشرطة والقضاء.

جاءه معزياً..

ثم بعد أداءِ واجب العزاء، بشره بالعمل..

قال: إن أباه أوجد له عملاً مربحاً مريحاً، علم بحاله وأنه لم يكن مذنباً، ولا ارتكب جريرةً يستحق عليها الطرد من أرباب العمل.

لقد جاءه صديقه بالحلم المنشود..

الحلم الذى أعاد لأخته "محروسة" ابتسامة الأمل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها