التّحديثُ في الفن التشكيلي

من التزامن القزحي إلى التعيين الرقمي  

عزيز العرباوي


ساهمت الثورة العلمية والمعرفية في مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات بكل أشكالها وأنواعها في إمكانية نقل الفكر الإنساني من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، حيث الانتقال من فكرة الإشباع المادي إلى فكرة الإشباع المعنوي، مما جعل بعض الباحثين يعتقدون بأن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته، وما علينا إلا الانتقال إلى مرحلة جديدة وفكر جديد وهي مرحلة ما بعد الحداثة. لكن على المستوى الفني، فالأمر يختلف قليلاً؛ لأن الفنان التشكيلي، والعربي على الخصوص، ما زال لم يبرح بعد مرحلة الحداثة أو على الأقل يمكن القول إنه يعتبر نفسه وهو منخرط في الحداثة الفنية كأنه يأتي بشيء جديد في مجاله الإبداعي. وفي هذا الإطار، يكون هذا الفنان قد انتصر على نفسه عندما خلق شكلاً جديداً من الفن التشكيلي في بيئته العربية التي تفتقد التجديد في العديد من المجالات نظراً لإيمان مجتمعاتها بالتقليد أكثر والحنين إلى الماضي.



إن ارتباط إنسان اليوم بحياة الرفاهية والبذخ والبحث عنه بكل الوسائل المتاحة لديه وغير المتاحة، يجعلنا نقول إنه صار في حاجة إلى تحديث فكره ومجتمعه. ولقد كان الفن وسيلة ضرورية للانطلاق نحو هذا التحديث. فرغم صعوبة الخروج من الإطار الفكري والثقافي الذي يندرج تحت حيزه المجتمع العربي عموماً، كان لزاماً على الفنان التشكيلي بالضرورة أن ينطلق إلى الأمام ويبتعد ما أمكن عن تعقيدات الفكر المجتمعي وعن تقاليد وعادات المجتمع الموغلة في القدامة والسلفية الفكرية بكل أشكالها. ومن هنا يكون الفنان التشكيلي قد خطا خطوات أساسية في التغيير المجتمعي وخلق نوع من الثورة الفنية والثقافية داخل مجتمعه عموماً.

إن إنسان اليوم لا يمكنه أن يبتعد عن وسائل التواصل والمواصلات، باعتباره أولاً، يقضي ثلث عمره الحياتي داخلها، وثانياً، باعتبار أن ارتباطه بالإشارات الضوئية التي تؤثر عليه وبتقطيعات الزمن المعلوماتية، وحتى بإيقاع مواعيده ولقاءاته وكافة نشاطاته، ينتج عنه خضوعاً مقنناً لتواتر الآلة والمعلوماتية، باعتبارها تملي عليه إيقاع لحظات عمره، وبالتالي ينبغي على مصممي العمارة والتنظيم داخل المدينة أن يحققوا للإنسان حقه المغتصب عن الاتصال والجزر فيلتحم الاثنان معاً بالتمدد والتقلص الفلكي1.

إن الفنون تحتاج إلى أناس ذوي خبرات ثقافية وفنية قادرة على خلق فرق واضح في المادة الفنية، وحتى في الإطار الفكري والنظري المؤسس لهذه المادة. ولن يتحقق ذلك في نظرنا إلا إذا خلق هذا الفنان نوعاً من الجدية الإبداعية، إن صح التعبير، في عمله الفني الذي ينبغي أن يكون قادراً على التأثير في المشاهد المتلقي. وفي هذا الإطار، يرى أسعد عرابي أن دعوات المهندس المعماري حسن فتحي، مثلاً، لم تقتصر على إعادة عمائر مشيمة القبة والقوس في الأرياف فقط، بل بالرغبة الدفينة في "دفع الساكن إلى الاتحاد من جديد بمادة الخليقة: الأرض، الطين، الغضار، التراب، ملامستها والتوحد مع رحيقها، مسترجعاً حق الإنسان في عدم تعطيل حواسه وخاصة اللمسية منها، التي تعتمد في صناعة الخزف والطابوق والسيراميك، والعجائن المعمارية كخلائط القش والطين، أو أنواع الجص وغيره، بل إن طموحه يبلغ دفع الساكن إلى متابعة نفس الطقوس الخالدة في إيقاع الفصول، يبتدئ طلاء العمارة في أواخر الشتاء ليجف في الصيف، يمسح المطر من جديد الغلاف الكلسي الأبيض ورسومه، فيعاد التكليس مع الربيع وهكذا، كساء متجدد مع تجدد الطبيعة كما يجري اليوم في العديد من قرى الهلال الخصيب، وكما تجدد بعض الزواحف (كالحيات) غلافها كل موسم، والعديد من أصناف الطيور وغيرها"2.

وفي الصدد ذاته، يؤكد عرابي أيضاً أن الحداثة بالنسبة إليه وإلى غيره من الفنانين لا يمكنها الانفصال عن مفهوم الشهادة المنصهرة عضوياً بوسائط الاتصال والتعبير؛ لأنها تمثل الحداثة الحقيقية والتي نعيش عليها وبها. وبالتالي فإن جدل الحداثة الذي يمكن له أن يحصل اليوم في مخيلة واهتمام الفنان العربي عامة، وإذا ما كان جدلاً لا ينتج عنه شيء، يقود حتماً إلى صراعات ونزاعات مختلفة حول معنى الحداثة أو في غيره. ففي أغلب الأحيان يتجاوز الفنان الحداثي المعايير الأكاديمية في الفن والقوالب الجمالية الكلاسيكية التي صارت في منظوره مجرد كليشهات فنية عفا عنها الزمن والإبداع الفني. وبقليل من التفكير المتأني في الثقافة الفنية العربية يمكننا القول إن الفن التشكيلي العربي بالخصوص ما زال يحارب قدر المستطاع النظرة الكلاسيكية للفن ويصارع أشكال التقليد ومضامينه المتعددة.

إن اللوحة التشكيلية في قراءتها المتأنية تترجم إبداعياً طرق اختزال الأشكال الطبيعية، وتدميرها، وتعريتها من معانيها ودلالاتها المختلفة إلى درجة الفضح، وتقديمها في صورة التوحش والبراءة الثقافيين، وتترجم أيضاً طرق البحث في لحظات الجمود والانقطاع عن الفعل في مرحلة غير نهائية من الصقل والتوضيب والتركيب النهائي مثلما يتوقف القلب عن النبض في لحظة الموت أو كما يتوقف العقل عن التفكير في لحظة الدهشة. إن كل ما يثير الفنان من دمار للطبيعة والمدينة والحضارة والثقافة هو في الوقت نفسه محفز له على إبداع قيم جمالية جديدة وأفكار إيجابية في لوحته الفنية، ودافع له لاجتياز الثنائية العلائقية بين الأشياء والمشاعر فيها سواء استخدمها في لوحته أم لم يفعل.

وفي هذا الإطار نجد أسعد عرابي يؤكد على كون اللوحة التشكيلية الحديثة والمعاصرة ما زالت "تعاني من صيرورة مزمنة، فسياحاتها لا ترسي على شاطئ يقين أو شك مطلق، بل على برازخ حيرة تتوسط الاختناق وارتداد النفس. لا تنفصل ذاكرة اللوحة عن جدارها المادي، رغم ما يفتعله النقد من حدود انفصالية بينهما، يفصِّلها إلى تراث وهوية مربوطة بحبل سرة الخصائص الثقافية"3. وفي هذه الإطار يمكننا القول بأن غموض اللوحة هو من غموض الفنان في حد ذاته، حيث يقوم هذا الغموض على اعتقاد يقيني باستمرارية العلاقة بين الظاهر والباطن، بين الحسي والحدسي، بين المعقول واللامعقول، بين الواقعي والمتخيل، بين المحسوس والمجرد... مما يسهم في إلباس اللوحة لباساً أيقونياً ودلالياً يصعب على المتلقي فك شفرته بطريقة سهلة وبسيطة.

وتنبني علاقة اللوحة التشكيلية بالواقع الظاهر على شيء من الشك والارتباك والاضطراب المعرفي لدى المتلقي الذي لا يقبل منها إلا عكس العالم المحسوس لا المجرد، في الوقت الذي لا يطالب الموسيقي بذلك. ومن هنا، يمكننا التأكيد على أن محاكاة اللوحة للموسيقى في هذه المسألة يزيل عنها بعض الشبهات والمخالفات الفنية التي تضرب مصداقيتها. ففي هذا الصدد بالضبط، "يمارس مبدعوها –كل مرة- خيانة الواقع المرئي دون أن ينفصلوا عن نواظمه الباطنية، فتخضع تفاعلات المادة الجدارية في اللوحة إلى نفس التفاعلات الطبيعية، كثيراً ما تستعيد تقنيات الصباغات السائلة (كالألوان المائية)، سلوك عالم المياه، كما تتقمص الفرشاة نزق العواصف، وهكذا، لا يمكننا بالنتيجة أن نحلل نواظم اللوحة دون تأمل أصولها في رحم الطبيعة"4.

وينبغي علينا الإقرار بأن ثورة الفن التشكيلي المعاصر المتمظهرة في "الانطباعية" تمثلت في بداية القرن من خلال اتصالها المباشر والمتوازن مع مبادئ الفيزياء البصرية، حيث تمَّ فيها تطبيق مبدأ "التزامن القزحي" في توزيع اللون الأحادي، ثم مبدأ "التعيين الزمني" للضوء عن طريق اختيار المقام اللوني، فغلبت نظرية تجزيء اللون على ذاكرته اللونية في الوقت الذي انتقلت المناظر فيه من منطق كلود مونيه إلى بول سينياك، فاستعادت اللوحة خصائصها ومميزاتها الميتافيزيقية مع لوتريك وبونار، ماتيس وفان غوغ... حيث قاموا بوأد تلك العلاقة المشبوهة مع الحساسية العلمية بكونها قد زلزلت محترفاتهم باختراع آلة التصوير الضوئي المتمثلة في الفوتوغراف، ووهم الحركة في فن السينما... ولقد فشل الفكر الانطباعي في الاستمرار في تمجيد الضوء وفراديسه القزحية، حيث خرج الفنان عن حياده في الحروب العالمية السابقة، وتوافدت، تبعاً لذلك، العديد من "الاتجاهات التي تدين العقل وديكارتية التقدم التقني، فتنامت التعبيرية والبدائية السحرية، والفن البكر والعصابي، متناسلة من الموقف العبثي لدادائية الحرب العالمية الأولى، يكفي أن نعود إلى جماعة المستقبليين خلال فترة الفاشية الإيطالية حتى ندرك علاقة عبادة العقل بعبادة الفرد والسلطة، وتعلق فنانين من أمثال بوتشيوني بقوة الآلة والتقدم العلمي لدرجة أنه كان يطمح أن يقيم محترفه في قاطرة بخارية"5.

إن أغلب الفنانين التشكيليين كانوا وما زالوا يعرفون بأن تداخل التيارات الحداثية وتوالدها وتكاثرها في المجال يقابل تكوُّن وتواتر سنن الكون المركبة والمعقدة، بل إن المعرفة الحدسية في الفن، ضمن هذا المنظور، تعتمد في تجلياتها وصورها المتعددة على الاتصال المباشر والغامض بإيقاعات الحياة والوجود... فالفنان التشكيلي لا يمكنه أن يستعيد في إبداعه للوحاته عن الحدس والشعور بالأمل في المستقبل والتغيير الإنساني لموارد الحياة والمعرفة والعلم. إنه فنان مستقبلي حتى ولو تشبث بالماضي والتراث في لحظته واستدعى فيها فكره المرتبط بهذا الماضي.

إن العلاقة الظاهرة بين الفنان التشكيلي المعاصر وبين حداثة الآلة والتقنية لم تبرح تلك المكانة البارزة لتقاليد الفنان في لوحته التشكيلية سواء في محاولته استخدام الوثائق المصورة أو الملصقات الطباعية أو التقنيات الحديثة في الطباعة... أم في اعتماده على مواد جديدة تضيف إلى لوحته شكلها الجديد المختلف كلياً عن اللوحة قبل الثورة التقنية والتكنولوجية... كل هذا يعكس التطور المتزامن للوحة مع التقنية الحديثة وآلياتها المتعددة.

وترى الباحثة كلود عبيد أن ما يعبر عنه الفنان في الواقع المحيط به هو الوعي أو بشكل من الأشكال هو المحتوى، حيث "يبلور شعوره بالإنسانية فيما يصنع، أن يربط عمله بقيم عصره بخيوط دقيقة لا ترى بالبصر بل بالبصيرة. ففي جميع حالاته يستقي الفنان صورة أساسية في ابتكاره من نوع آخر، تلحُّ عليه في الغالب إلحاح الهوس، وتعاوده مرة بعد أخرى، في أشكال لا تسلِّم نفسها له بسهولة. إنها على صلة بشيء داخله لا يرى ولا يلسم، لكنه جامح يطالبه بالخلق، قال أحدهم عن لغة العمل الفني: "فما أشبهها بتلك اللحظات التي تنهي لنا سلوكاً غريزياً"6. وفي هذا الإطار يكون الفنان مدعواً من أجل خلاص الإنسان عامة، أن يسقط حلمه وغايته الكبرى على العالم المحيط به والذي ينتمي إليه، "وهو يعلم أن عليه أن يجعل حلمه وأساطيره حقيقة حية لا في فنه فقط بل في مضمار الفعل أيضاً. فالعلاقة بين الرؤيا والفعل، يعطيها الفن مغزاها الكوني. والواقع أن الفن هو العِوض المساعد في سيرورة تفاعل تغير أنماطها وانسياقها على الدوام. ولئن تكنْ هذه السيرورة غامضة وعصية على التكهن، فإن تجمع النشاطات الثلاثة جميعاً في طاقة حركية هي إحدى قوى التاريخ"7.

ومن هنا نستنتج أن أي رؤية نقدية أو تذوقية للوحة التشكيلية هي في حد ذاتها إبداع معالم ومواصفات جديدة لعالم جديد. وبالتالي يمكن إنتاج قيم جديدة ضمن نظرة معينة تستخدم أرقى متع التذوق والتي تُستغل فيها إعادة إبداع اللوحة ومضمونها وموضوعها العام. وفي هذا الصدد تؤكد كلود عبيد على أن الفن "الذي يعتمد على الحسابات الدقيقة، في الإنشاء، والتناسق شأنه شأن الفن التقليدي –المدرسي- هو فن زخرفي عقلاني يفقد أهمية الرؤية، ولا يعبر عن حرية الفنان الكاملة، بل مهارته الأدائية فحسب. إذن فليعاد القول بأن الانجذاب العاطفي الغيبي، أو ما يصحُّ تسميته بالحدس هو أساس الرؤيا، وقد ظلَّ كذلك منذ نشأ الفن حتى يومنا هذا"8. فالإبداع الفني هو ذلك الانعكاس الشخصي لذات الفنان كفرد، في حد ذاته وفي المجتمع، ففي هذا الأخير ينبغي عليه أن يكون كائناً اجتماعياً متحركاً ومفيداً؛ لأنه في تعبيره الفني متقدم في مهمته كفنان في إبداع وخلق ألم جديد مختلف لا يعرف الصراعات الطبقية، ولا الثقافة الفردية التفوقية التي قد يشعر بها، ومدعوٌّ إلى تجاوز نفسه في لوحاته ورسوماته وهضم كل الإمكانيات التعبيرية من أجل قول الحقيقة كلها، سواء كانت صائبة أم لم تكن كذلك9.

إن منظر الفن الحديث، حسب هربرت ريد، يجب أن يدعيَ أنه ليس هنالك في الأفق "من تعريف للوحة لا يتضمن بطريقة ما مفهوم الشكل يمكن أن يصمد في التطبيق طويلاً، ويحتمل أن يكون هذا صحيحاً بالنسبة لجميع فروع الفن، بل وحتى الأدب، حيث قد يبدو المحتوى وثيق الصلة مع الشكل إلى درجة لا يمكن التفريق بينهما. إنهما، إلى حد ما، طبعاً، غير قابلين للتفريق؛ لأن الشكل شيء معطى، إنه هبة، ويتضمن على الدوام متلقياً، شيئاً متشكلاً. لكن الشيء المتشكل (وهذا هو مفتاح كل التطور الحديث للفن- يمكن أن يكون ذاتياً وكذلك موضوعياً) يمكن أن يكون النتاج العفوي لإحساس الفنان الملح"10. هذا الأمر ينطبق على ميول الفن الحديث، وها هو الناقد الفرنسي كلود روجيه- ماركس يقول أيضاً محدداً جماليات الشكل في الفن التشكيلي: "قماشاته، (الفنان) إذ يكون لها مظهر الحالة الأولى أو التخطيط الخام، تبدو نهائية لعقل رسامها، وعلى الرغم من سرعة صنعها؛ فإن تصورها قد تمَّ ببطء. ولفهمها، تحتم على المرء أن يستمع إلى الفنان، بإخلاص بالغ، وهو يوضح مقاصده. إن كل الذي ظنه المرء نتاج صدفة، سيبدو عندها مستنبطاً. وحيث لا يجد المشاهد غير إثارة وتفكك، فإنه لم يكن ينشد سوى الأسلوب بأي ثمن كان. ليس من تشويه من جميع تلك التشويهات لا يمكن تسويغه. إن هذا العوز في التعبير بالمعنى الأدبي، هو التعبير ذاته إذا ما تكلمنا تشكيلياً. هذه التجريدات الظاهرة ليس لها سوى عرض واحد: أن تعبر عن عاطفة، قد ندعوها دينية تقريباً، يملكها الفنان نحو الحياة. هذه الأشكال الممسوخة –هذه الأجساد المعذبة، لا تحلم إلا بفعل توازن، بشيء يشبه كرسياً مريحاً يسترخي عليه المرء"11.

فتطور الفن عموماً، والفن التشكيلي خصوصاً وصل إلى ذلك في أي حضارة إنسانية عبر تطور رؤية الفنان ذاته، وعبر وسيلة كونية دقيقة، من خلال تمثل البعد والاتجاه والعمق والفكر والرؤية الدقيقة للأشياء. إن الفنان في حاجة إلى امتلاك رؤية متكاملة عن الأشياء سواء بواسطة الرؤية البصرية الطبيعية أم بواسطة الرؤية العقلية والتحليلية للأمور والأشياء، إنه يحول الأشياء إلى تعبيرات فنية تحقق التوازن البصري والعقلي لدى المتلقي/ المشاهد.

إن الإنسان في حاجة ملحة وكبيرة لأن يفهم الفن والفنانين معاً، فنحن نتفق مع بيكاسو على أن هدف الفن هو "إنقاذ البشرية من التردي في هاوية الشر". ونتفق مع مويمان بأن "مبدع الفن والجمال هو الجدير بأن يكون مبدأ البحث في هذا المجال". ونتفق مع أنفسنا بأن "الفن مؤشر رئيس لحضارة أي أمة. بل إن أمة بلا فن هي أمة بلا حضارة. وإن أمة بلا فنانين مبدعين لا تعدو أن تكون تجمعاً من الناس يفتقدون إلى واحدة من أهم الحاجات في النفس البشرية... هي الحاجة الجمالية"12. لقد كانت المحاولات والتجارب الفنية التي تمخض عنها القرن العشرون من اتجاهات فنية لصياغة جديدة للواقع مثل: التكعيبية بمراحلها الثلاث، والصفائية، والتصوير الماورائي، والتيترات التي رافقت التكعيبية، والدادائية، والحركة التعبيرية الألمانية، والمستقبليون، والطليعيون الروس، واتجاهات الفن التجريدي، والبنائية، والسوريالية، والتجريدية، والبوب آرت، أن تعيش وتمارس "التحرر الفني وتخطي المفاهيم النهضوية القديمة والثابتة، بخلق إيديولوجيا حداثية قائمة على التخطي والتفكيك العام لكل القيم القديمة دون تجاوزها، لا بل التباس كل القيم تحت شعار الاختلاط والمزج، سواء كانت مظاهرها في التغيير قائمة على تغير الذهنية في مبدأ تأليف العمل الفني أم اعتماد الخطوط أو الألوان أو المساحات والسطوح الهندسية، أم التشويه والسخرية والغروتسك Déformation أم اعتماد المبدأ الحدسي في التعبير"13.

إنها في كليتها قد دخلت في نظام السوق الرأسمالي الاستهلاكي فتحولت بعد ذلك إلى قطع غيار للاستخدام والاستعمال... "فالمعارضة للقيم الكلاسيكية والنظام البورجوازي الاقتصادي لدى أعلام الحقبة الثانية من الحداثة، جعل التفاعل بين الفن والنقد والذوق العام عملية معقدة، غير متزامنة الحدس والعبق والمرونة؛ لأن إنسان القرن التاسع عشر كان أسير ازدواجية في الذوق: بين تقاليده وتاريخه الفني وبين المعاصر والحداثي"، حيث ساعد التكيف الحاصل في القرن العشرين لمجمل عملية التفكيك القيمي والثقافي وإعادة تشييد المتغير والعابر في التيارات الفنية المختلفة، "في جعل الذوق الفني العام مستهلكاً يافعاً لما تفرضه عجلة السوق من قيم وأفكار ومفاهيم مواكبة ودعائية"14.

لقد ازدادت هذه المرونة، حسب زينات بيطار، لدى الجمهور في النصف الثاني من القرن العشرين مع حركة الأوب -آرت والبوب- آرت، والتجريدية والفن المفاهيمي بمعنى "اكتمال وإحكام سيطرة ثقافة السوق للمجتمع ما بعد الاستهلاكي، ومنذ الستينات بات الفن مبتلعاً من وسائل الإعلام، تتحكم بصيرورته وموضته وقيمته. واختفت عناصر المقاومة والمعارضة للحداثة بل هناك انصهار استهلاك جماهيري عارم لها وانبهار عالمي لكل ما تنتجه ثقافة المركز في المجتمع الرأسمالي المتطور، وما تقدمه للأطراف عبر وسائل الاتصال الجماهيري السمعية- البصرية والإنترنيت...". فكل ما صارت إليه متغيرات الحداثة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي في المجال التقني والتكنولوجي، لم يجعل من مسألة البحث عن التجانس المادي والروحي والعقلاني العاطفي، "مسألة منوطة في النص النقدي وحيويته ومدى انفتاحه والتزامه بقضايا وهموم الإنسان في عصره، وبالتالي مسؤوليته التاريخية في تأريخ اللحظة الراهنة من الحركة التشكيلية، ومساهمته الإبداعية في تكوين السياق الفني العام"15.


الهوامش والمراجع: 1. أسعد عرابي، معنى الحداثة في اللوحة العربية، نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط. 1، 2006، ص: 22. / 2. المرجع السابق نفسه، ص: 22-23. / 3. أسعد عرابي، المرجع السابق نفسه، ص: 147. / 4. المرجع السابق نفسه، ص: 155. / 5. المرجع نفسه، ص: 195. / 6. كلود عبيد، الفن التشكيلي: نقد الإبداع وإبداع النقد، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط. 1، 2005، ص: 16. / 7. كلود عبيد، المرجع السابق، ص: 16. / 8. المرجع السابق نفسه، ص: 19. / 9. كلود عبيد، المرجع السابق، ص: 21. / 10. هربرت ريد، حاضر الفن، ترجمة: سمير علي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط. 2، 1986، ص: 46. / 11. هربرت ريد، المرجع السابق نفسه، ص: 47- 48. / 12. قاسم حسين صالح، في سيكولوجية الفن التشكيلي: قراءات تحليلية في أمال بعض الفنانين التشكيليين، منشورات دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، ط. 1، 2006، ص: 8. / 13. زينات بيطار، غواية الصورة، النقد والفن: تحولات القيم والأساليب والروح، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط. 1، 1999، ص: 78. / 14. زينات بيطار، المرجع نفسه، ص: 79. / 15. زينات بيطار، المرجع نفسه، ص: 80.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها