"فُوَّه".. مدينة المساجد والجمال

أحمد اللاوندي



"فوَّه"، مدينة مصرية عريقة، تعتبر متحفاً مفتوحاً بشوارعها التي تحتوي على كثير من الأبنية الأثرية القديمة، ذات الطابع المعماري الإسلامي الأصيل، يقترب عدد سكانها من مائة وسبعة وثلاثين ألف نسمة، تُلقّبُ بمدينة المساجد، وتقع في أقصى شمال مصر، حيث تتبع لمحافظة كفر الشيخ إدارياً، وتطل على فرع رشيد أحد فرعي نهر النيل، تبعد عن القاهرة بمسافة تقدر بـ181 كيلو متراً، وهي من أهم المدن السياحية في مصر. والذي يدقق في الأصول التاريخية لهذه المدينة الساحرة ذات الموقع الجذاب، يجد أسباباً متعددة وراء تسميتها بهذا الاسم، لكن الراجح من كل هذه الأقوال أنها سميت على اسم أحد أحفاد نبي الله يعقوب عليه السلام.
 

كانت "فوه" عاصمة لإحدى عواصم مملكة الشمال، الذي كان يسمى (واع إمنتي)، ففي العصر الفرعوني كانت تسمى (متليس)، وفي العصرين اليوناني والروماني كانت تسمى POE (بوي)، أو مدينة الأجانب، إذ كانت مقراً للتجارة الأجنبية. فتاريخها يؤكد أصالتها وريادتها، ومكانتها المتميزة والمهمة على المستوى العالمي، حيث كانت مآذن مساجدها تستخدم كمنارات للسفن القادمة بالبضائع من دول البحر المتوسط، وقد اهتم بها محمد علي باشا فأنشأ فيها العديد من المنشآت الصناعية، منها: مضرب الأرز، ومصنع النحاس والطرابيش وغزل القطن والكتان، وكانت تفي باحتياجات الجنود والمواطنين من هذه الأشياء، كذلك جدد كثيراً من مساجدها. ولا تزال بعض شوارعها تحتفظ بأسمائها القديمة مثل: شارع ساحة الغلال، وشارع سوق الديوان وشارع النحاسين. ولمدينة "فوه" شهرة عالمية في صناعة السجاد والكليم والجوبلان والطوبس، الذي يلقى رواجاً كبيراً وإقبالاً في أمريكا ودول أوروبا الغربية، كما أن قُراها وإلى الآن تعتبر من أهم قرى مصر التي تزرع الفول والذرة، والأرز والقمح، والقطن وبنجر السكر.

من أشهر المأكولات بمدينة "فوه": (الفسيخ)، حيث يوجد بالمدينة محل الحاج محمد خميس، وهو من أقدم وأشهر المحلات المصرية المتخصصة في بيع الفسيخ، وتأتي إليه الزبائن من كل حدب وصوب. (الكبابي) وهو عبارة عن خليط من اللحم المفروم والأرز المطحون والتوابل، تسلق وتحمر بعد ذلك. (الكشري) وهو عبارة عن أرز وعدس مخلوط يوضع على النار حتى يستوي، ثم يقدم في أطباق. (الدَّس) وهو عبارة عن أبرمة فخار، وتحتوي على الأرز المدسوس باللحم أو الطيور واللبن والسمن والتوابل وتطهى بالفرن. (المحشي)، ومنه الكرنب وأوراق نبات السلق وله طعم شهي للغاية. ومن الأكلات التي يقبل عليها الزائرون كلما وطئت أقدامهم أرض هذه المدينة: (الفول بالزيت الحار) في مطعم "الدخاخني"، أقدم المطاعم هناك وأكثرها شعبية.

ومن عادات مدينة "فوه": الاحتفال بالموالد والمواسم والأعياد، حيث توزع الحلوى، وتقام الزينات والمواكب، وتأتي مجموعة كبيرة من طرق الصوفية وفرق الإنشاد الديني من كل المحافظات خصوصاً من الصعيد، كما يهتم الأهالي بإقامة حفلات (الطهور)، وهو ختان الذكور، حيث يقام شادر كبير يجتمع فيه الجيران والأقارب والضيوف من كل الأعمار، فتوزع عليهم وجبات وأطعمة ومشروبات ومسليات، وسط جو من الفرح تحيطه الأغاني والشموع.

اختارت منظمة اليونسكو UNESCO مدينة "فوه" لتكون صاحبة المركز الثالث بعد القاهرة ورشيد، والرابعة على مستوى العالم لاحتوائها على عدد كبير من الآثار الإسلامية، فبها أكثر من 365 مسجداً أثرياً وقبة. ومن هذه الآثار: "مدرسة نصر الله"، وقد قال عنها السخاوي: (وله مدرسة حسنة على البحر، فيها خطبة، وتدريس، ومآثر، وغير ذلك). "مسجد أبو المكارم" الذي أنشأه الشيخ محمد ظهير الدين أبو المكارم بن السيد أحمد أبو المكارم شيخ الجامع الأزهر في عام 970م. "مسجد أبو النجاة" ويرجع بناؤه إلى عصر الناصر محمد بن قلاوون. "مسجد الكورانية" وينسب إلى الشيخ أحمد محي الدين الكوراني، المدفون بمقصورة خشبية بالجدار الجنوبي الغربي من المسجد، وقد أنشئ في عام 1726م. "مسجد القنائي" وهو من المساجد المعلقة، وقد أقيم مكان الخلوة التي أقام بها الشيخ عبد الرحيم القنائي، أحد مشاهير الصوفية المصرية في العصر المملوكي، أثناء زيارته للعالم سالم أو النجاة بـ"فوه".
 

مجموعة كبيرة من الأعلام والمشاهير ولدوا في "فوه" منهم: (الزعيم سعد باشا زغلول)، وهو من مواليد قرية "أبيانة" التابعة الآن لمركز ومدينة "مطوبس" بمحافظة كفر الشيخ، لكن عندما ولد سعد زغلول كانت "مطوبس" مجرد قرية صغيرة تابعة لمركز "فوه"، بل وكانت محافظة كفر الشيخ لا وجود لها، حيث كانت تابعة لـ"مديرية الغربية" التي كانت "فوه" أحد مراكزها. (الدكتور محمد خليل عبد الخالق) خبير الطب العالمي ومخترع علاج البلهارسيا. (الشيخ محمد عبد الله بيصار) شيخ الجامع الأزهر الأسبق. (محمد السمدوني) وهو من الضباط الأحرار، وقد قال عنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: "إن الشهيد السمدوني لن أنساه، فقد كان زميلاً لي ومناضلاً، ومن أوائل الضباط الأحرار في مصر الذين روت دماؤهم شجرة الثورة". (سعد اللبان) وزير المعارف عام 1952م. (مصطفى مرعي) شيخ المحامين وعضو مجمع اللغة العربية عام 1973. (بهي الدين بركات) الذي كان وزيراً للمعارف عام 1937، وأول من وضع خطط الدراسة بالمدارس الابتدائية والثانوية في مصر.

إن من يتجول في شوارع مدينة "فوه" المصرية يشعر بأصالة الماضي، وعبق التاريخ، ويسترجع حقبة مهمة من تاريخ مصر القديم، فثمة منازل أقيمت على مهل، بخبرة، وفن، وإبداع، فهي غاية في الروعة والجمال، ويرجع تشيد معظمها إلى القرن الـ19، من بين هذه المنازل: منزل القماح، والبوابين، ووقف الدوبي، وربع الخطايبة، ووكالة ماجور وهي الوكالة الثانية المتبقية في الوجه البحري، بعد وكالة السلطان الغوري في المحلة الكبرى.

ما أجمل طيبة الناس، والشوارع غير المزدحمة، ومعاصر الزيوت، وطواحين الغلال، وصناعة الحبال، والحصر، والأواني، وزخرفة الأخشاب، والأثاث الراقي. ومحلات الذهب والفضة.. يا لها من لوحة فنية بديعة، صممت بعناية بالغة، فمنحتنا "فوه" مدينة الأثار والمساجد والجمال.


 



Painting "Night at the town of Fuwwah" (1893), by Sudakov N©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها