العقل السّردي في الثقافة العربية

 حرية الفكر عند الجاحظ

د. رشيد طلبي

 

مفارقة صارخة

إن صلب مفهوم العقل هنا هو الخيال. وإذا كان "ديكارت" (1596م-1650م) قد ربط العقل بالحدس نحو ما أسماه بـ"الكوجيطو"1؛ فإنه لم يكتمل مفهومه إلاّ مع "كانط" في "العقل العملي"2. مع العلم أن ملكات المعرفة التي أودعها في كتابه الأول قبل عام 1629م (قواعد لتدبير العقل) هي: (العقل)، و(المخيلة)، و(الحدس)، و(الذاكرة). وبناء عليه، فالعقل لا يستقيمُ دون خيال. مثل الخيال الشعري عند العرب الذي قال عنه "أبو القاسم الشابي" إنه: "أدب مادي لا سمو فيه ولا إلهام، ولا تَشَوُّف إلى المستقبل، ولا نظر إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق، وأنه كلمة ساذجة لا تعبر عن معنى عميق بعيد القرار، ولا تفصح عن فكر يتصل بأقصى ناحية من نواحي النفوس... حتى إنّ الباحث فيه ليجهد نفسه في التنقيب عن ذلك الفن... فيعيه البحث ويُطْلِحُهُ السَّعي، ثم لا يجني من وراء ذلك غير الألم المرهق واليأس العقيم"3.

من هنا، يظهر أنّ العقل الشعري، وإن كان من عدّهُ مركز وجوهر الإبداع4، ظلت بنيته الإبداعية بعيدة كل البعد عن جوهره، ما دام كان عارضاً لمجالات أخرى غير جوهره الخالص، على الرغم من مجهودات الحركة الرومانسية وغيرها. وبالنظر في الشعر العربي لم يرق، هو الآخر، إلى جوهر الشعر، بل بقي رهين أغراض قصدية إما دينية أو سياسية أو اجتماعية، وبذلك تم ذلك التطابق التاريخي الخاطئ بين مفهوم الشعر والقصيدة.

وعلى الرغم من هذا، يذهب العديد من الشعراء والنقاد والبلاغيين.. إلى اعتبار أن الثقافة العربية هي ثقافة شعرية، وأن الحضارة العربية الإسلامية حظيت بالعقل الشعري دون النثر منذ "بن طباطبا العلوي"5 (ت: 322ه)، و"قدامة بن جعفر"6 (ت: 377ه) وصولاً إلى "حازم القرطاجني"7 (ت: 674ه)، وغيرهم... ويمكن أن نستدلّ على هذا بقريضة حشدها "ابن طباطبا" في تعريفه للشعر حيث يقول: "الشعر –أسعدك الله- كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خُصَّ به من النظم الذي إن عُدل عن جهته مجّتْهُ الأسماع، وفسُد على الذوق... وللشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه... وجُمّاع هذه الأدوات كمالُ العقل الذي به تتميز الأضداد، ولزوم العدل، وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها"8.

مآزق الشعر العربي

لا غرو أن الشعر العربي قد وقع في مآزق عديدة ومتنوعة. منها ما تم تجاوزه، ومنها ما ظل عالقاً مثار أخذ ورد. ومن أهم هذه المآزق مأزق اعتلاء سنام الإبداع، ثم التدهور والانحطاط عبر تاريخ هذا الشعر. وَفْقَ هذا السياق، يمكن الوقوف عند ثلاثة نماذج تظهر فيها هذه الحقيقة جلية.

يتجلى المأزق الأول؛ في التطور الذي عرفه الشعر الجاهلي مقارنة مع نظيره الإسلامي. وهذا ما عبر عنه "الأصمعي"، وهو يتحدث عن فحل من فحول الشعر العربي، يقول: "الشعر نكِدٌ بَابُهُ الشَرُّ فإذا دخل في الخير ضعُفَ، هذا حسن (بن ثابت) فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سَقَطَ شعره"9.

بينما يتجلى المأزق الثاني مع "أبي تمام" (ت: 231ه) الذي تألق في شعره وأثار جدلاً باذخاً في الثقافة الشعرية، حتى إن الآمدي ألف مؤلفه الذائع الصيت "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري" في ستة مجلدات، لخفت صوت الشعر. وليست هذه الموازنة سوى جدل بين التقليد والابتداع، هكذا يقول الآمدي: "لأن البحتري أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف... ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، ويستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه أشعار الأوائل"10.

في حين، أن المأزق الثالث، يتبدى من خلال شعر المتنبي (ت: 354ه) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، حتى وقتنا الراهن. وهو القمة الإبداعية التي عرفها الشعر العربي، لتتوالى بعدها سنوات التدهور والانحطاط. ولعل هذا التألق هو ما أدى بـ"عبد العزيز الجرجاني" (ت: 366ه) أن يؤلف "الوساطة بين المتنبي وخصومه" رداً على رسالة "الصاحب" المعروفة في إظهار (مساوئ المتنبي) كما أشار الثعالبي في اليتيمة. وبذلك يقول: "ونحن نستقرئ القصيدة من شعره (ابن الرومي)، وهي تناهز المائة أو تُرْبي أو تُضعِفُ، فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتين... وأنت تجد لأبي الطيب قصيدة تخلو من أبيات تُختار، ومعانٍ تستفاد، وألفاظ تروق وتعذب، وإبداع يدل على الفطنة والذكاء، وتصرف لا يصدُرُ إلا عن غزارة واقتدار"11.
 

الجاحظ  في عصر الفكر الحر

يعدُّ العصر العباسي من أهم الفترات التاريخية من التاريخ العربي الإسلامي التي ميزته بالنثر. والدليل أسلوب الرسائل الذي ظل من أميز نُصُبِه، بغض النظر عن ما ساد من مبالغة في السجع، ومغالاة في البيان، وشيوع فن التصنيف. وبذلك، فخصب العصر الأول والثاني منه، أسمى ما ميز فيه "عثمان بن بحر الجاحظ"؛ حيث كان الفكر حرّاً، والبيان سلطاناً، والعلم عزةً، والزندقة اختياراً....

فخلفاء، ما قبل المأمون، ضيقوا دائرة الفكر، وعاقبوا على الزندقة. لكن خلال فترة حكمه، أطلق عنان حرية القول، وفتح باب الجدل والمناظرة، وأذاع النقل والترجمة. ليمثل الجاحظ عصره أحسن تمثيل، ويقتدى الأثر على منواله. ففي العلم والدين استند إلى العقل. وفي الأدب أعتق يراعه من كل قيد، ليصدره المأمون ديوان رسائله شأن المعتصم، حتى المتوكل الذي نكل بالمعتزلة، لم ينل من الحاجظ، بل لزم مجالس القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وابنه أبي الوليد. لكن حين كثُر شاكوه صرفه المتوكل ليعيش على آلامه ومعاناته جراء الفالح والنقرس، أيام المنتصر والمستعين والمعتز. إلى أن مات إبان مقتل المعتز وخلافة المهتدي12.

هذا وغيره، جعل الجاحظ، سلطان البيان، فصيح اللسان، منصرفاً إلى كتابة مصنفاته التي ناهزت الثلاثمائة، صاحب الفرقة الجاحظية تأثراً بإبراهيم النظّام الذي عوده حرية التفكير. وربما قصوره عن الإمساك بسنام الإبداع الشعري، هو الذي حفزه على براعته في النثر، إلى درجة يمكن الوقوف من خلالها عند ما وسمناه (بالعقل السردي) في مقابل (العقل الشعري) في الثقافة العربية بشكل عام.
 

إواليات العقل السردي عند الجاحظ

يمكن الحديث، في مقابل العقل الشعري، عن العقل السردي أيضاً. والذي برع فيه الجاحظ، بناء على جملة من الإواليات الذاتية والموضوعية.

تعد (قوة الملاحظة والتحليل) من أهم تلك الإواليات. إنها خصيصة دالة على التنبُّه والتيقُظ وحدّة الذكاء، حيث استطاع من خلالها الجاحظ أن يمنح للتفاصيل إطارها الخاص من الفهم والتفكير في الكتابة باستعمالات أخرى، بعد أن استنفذ أبو تمام والبحتري طاقة الشعر، ليتم تحقيق التواشج بين العقل (عوض العاطفة) ومجريات الحياة في العصر العباسي. شأن التحليل، اعتماداً على التوصل بالتقريب، عبر استقراء المعاني الكبرى في الأجزاء والتفاصيل الصغرى.

أضف إلى ذلك (قوة الحافظة) والتذكر في مقابل النسيان. فلا غرو أن يكون الجاحظ موسوعة نادرة تعجُّ بالمعارف. فقد أخذ الفصاحة عن علماء المربد عكاظ الإسلام، ووقف عند اللغة الفارسية، ونال حظه الوافر من الفقه وعلم الكلام والحديث والفلسفة والترجمة. وبذلك جمع بين الإرث الإغريقي والإرث الآسيوي، والإرث الإسلامي العربي أدباً ولغة ونقداً وفقهاً.

هذا، وقد أتاحت له بدايات حياته التي عانى فيها الضيق والفقر؛ حيث باع السمك والخبز بسحبان، أن ينفتح على عوالم جديدة في الكتابة تمثلت في الجواري والقيان والغواني، واللصوص وسراق الليل والنهار (...). مفترعاً، بذلك، إواليات جديدة في التوصيل والتبليغ، حيث استطاع أن ينزل بالمعرفة من برجها العاجي، لتصبح في متناول العامة والمبتدئين والمتعلمين وذوي العقول العادية. فجعل منها ثقافة شعبية.

لقد أحدث الجاحظ، من خلال هذه العوامل وغيرها، ثورة عقلية وانقلاباً فكرياً، تحولت الكتابة على إثرها من مضايق الشعر نحو فساحة ومتسع العقل السردي.

 


إحالات:
1 - A Regarder Discarte; Discours de la méthode (1637)
2 - A Regarder Kant; Critique de la raison pratique (1788)
3. أبو القاسم الشابي؛ الخيال الشعري عند العرب. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافية. مصر. 2013. ص: 67.
4. اخزعل الماجدي؛ العقل الشعري. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. ط1. 2004. ص: 19.5. اُنظر ابن طباطبا العلوي؛ عيار الشعر. شرح وتحقيق: عباس عند الساتر. مراجعة: نعيم زرزور. منشورات دار الكتب العلمية. بيروت- لبنان. ط2. 2005.6. اُنظر قدامة بن جعفر؛ نقد الشعر. مطبعة الجوائب. القسطنطينية. 1306هـ.7. اُنظر حازم القرطاجني؛ منهاج البلغاء وسراج الأدباء. تحقيق: محمد الحبيب بن خوجة. دار الكتب الشرقية. تونس. 1966.8. قدامة بن جعفر؛ نقد الشعر. سابق. ص: 9-10-11.9. ابن قتيبة؛ الشعر والشعراء. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر. دار المعارف. 1982. ج1. ص: 305.10. الآمدي؛ الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري. تحقيق: السيد أحمد صقر. دار المعارف. مصر. ط4. 1992. ص: 4.11. عبد العزيز الجرجاني؛ الوساطة بين المتنبي وخصومه. تحقيق وشرح: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي. (د. ط). (د. ت). ص: 54.12. اُنظر جورج غريب؛ الجاحظ دراسة عامة. سلسلة الموسوع في الأدب العربي 10. دار الثقافة. بيروت- لبنان. تموز 1967. ص: 13 وما بعدها (بتصرف)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها