الحرب والحياة

ملامح من تاريخ الجندية في عصر الدولة المصرية القديمة

محمد جراح

يروق للبعض أن يكتب أن المصري القديم كان ميالاً إلى السلم نتيجة لعوامل بيئية متعددة، وأنه كان بناء أكثر منه محارباً، ولم يمل ناحية القوة إلا مضطراً؛ وعلى الرغم من وجاهة هذا المنحى، فربما فات على أولئك أنه لا حضارة دون قوة، ولا دولة من دون سند أو سلطان! فالحقيقة أن المصري القديم أدرك قيمة القوة، وعرف أنه لولاها ما استطاع أن يبني، ولا أن يبدع، ومع ذلك يمكن القول؛ إن المصري هذب القوة؛ واستدعاها كلما دعت إليها الحاجة1.

وإذا كان هناك من قول إن القوة المصرية لم تطمح خارج حدود وطنها إلا في مرحلة متأخرة من تاريخه، فذلك قول مردود عليه؛ لأن البلاد كانت غنية وثرية، ومن ثم لم يكن هناك ما يدفع إلى المغامرة، إلا إذا كان الخروج اضطراراً، وللحيلولة دون دخول العدو إلى أرضه؛ وإثارة الفوضى بين شعبه.

وقد ظل الجيش لا يرابط إلا في الأماكن التي قد يأتيه منها التهديد، وهو أمر حافظت عليه مصر ببسط نفوذها في منطقة الشام القديم؛ باعتبارها منطقة الخطر الدائم؛ أما في النوبة جنوباً، والحدود الغربية والشمالية فتم الاكتفاء بتجريدات بسيطة تقضي على الخطر متى حدث؛ وكانت كلها مناوشات لا ترقى إلى مستوى الحرب؛ لم يشأ المصري أن يتدخل في شؤون أناس ربما رآهم من عل؛ إذ تدل الأدبيات المتخلفة عن فترة الحرب مع الهكسوس أن المصري رأى في غير المصريين ما لا يؤهلهم إلى مرتبته، وبعنصرية أو بثقة وصلت في بعض الأحيان إلى حد الغرور؛ رأى أن الناس هم أهل مصر، وغيرهم هم أقوام أخرى سماهم تارة باسم "حر. يوشع" her yu shaa، أي سكان الرمال؛ أو الحقا خاسوت heka khasut أو غير ذلك من الصفات التي لم تؤهلهم إلى مستوى الـ"رمث" remeth، أي الناس؛ وتجدر الإشارة أن هذا الغرور كان عرضاً على الشخصية المصرية؛ وربما سببته بشكل مباشر أزمته مع الهكسوس.
 

الجيش أداة السلطان

كان الجيش زمن الدولة القديمة ملكياً في تكوينه، ويتبع الحكومة المركزية، وكانت وظيفة القائد الأعلى من الوظائف السامية، ولا يتقلدها إلا رجل من كبار رجال الدولة وعظمائها؛ وفي عصر الأسرة الثالثة حمل هذا اللقب اثنان أحدهما هو الأمير "رع حوتب" وكان ابناً للملك، والثاني كان "نيسو. زد. إف" "nesw zed if" وكان أيضاً أميراً ملكياً، كما كانت توجد إدارة حربية تم اسحداثها في عصر الملك "جِسر. نثر. خت" jeser ntr khet المشهور باسم "زوسر" صاحب هرم سقارة المدرج، وقد استمر هذا النظام في التطور حتى شكل منظومة شبه متكاملة، وصولاً إلى عصر الأسرة الرابعة الذي أشار إلى مناطق حدودية يحكمها موظف اتخذ لقب "مرشد الأرض"، وفي كل منطقة كانت توجد حامية بغرض التأمين.

ويمكن القول بأن الجيش كان مقسماً إلى فيالق، وكل فيلق كان يقوده قائد لقبه "إميرا مشع" emera mesheaa، وهذه الفيالق كانت مقسمة إلى فرق حربية يطلق عليها اسم "عبرو" eberu، ويشرف على الواحدة منها رئيس لقبه "خِرب" khereb، وكانت الوحدة العسكرية الصغيرة مؤلفة من الشباب الذين يطلق عليهم لقب "نفرو"neferu ؛ وهو جمع نفر nafar أو nefer أي شخص؛ ومن هذه الوحدات كانت تتكون السرايا؛ والتي كان يطلق على قائدها لقب "خِرب عِبر إن نفرو"، وكانت السرية تعتبر هي الوحدة التكتيكية في الجيش.

وكان على رأس الجيش البري قائد الجيوش "إميرا مشع"، وكان في الغالب ابناً للملك، وكان من الأهمية بحيث يجلس في مجلس "العشرة العظام" الذين بأيديهم أمر الدولة، وممن تولوا المنصب وجلسوا في ذلك المجلس الأمير "مر. إيب" mer ieb ابن الملك "خوفو".

وكان لإدارة الجيش ديوان خاص قُسم إلى عدد من الإدارات والمصالح من أهمها: مصلحة مخازن الغلال الحربية، وإدارة الأسلحة، وإدارة مصانع بناء السفن الخاصة بالأسطول، أما الإدارة الحربية في عصر الأسرة الثالثة فلا تتوفر عنها معلومات بالقدر الكاف؛ وكانت موكلة إلى مصلحة اسمها بيت الأسلحة "بر. عحا"، ber ahaa؛ ومهمتها تسليح وتموين الجيش؛ كما تضم قسم المكاتبات الحربية، وكان لكل فرقة موظفون إداريون، وكان الجميع يتبع إدارة واحدة اسمها "بيت الأسلحة".

أما إدارة القواعد الخاصة بالأسطول فكانت تحت إدارة شخصين رفيعين اتخذا لقب باني السفن "مِدِب – دِبِت"، medeb debet وكان للأسطول أهمية عظيمة سواء للتجارة أو الحماية، وكان يتألف من سفن مختلفة الأحجام والأنواع، أعظمها حجماً يصل إلى حوالي 50 متراً طولاً؛ وتجدر الإشارة إلى أن الملك "سِنفرو" senefrw2 رأس ملوك الأسرة الرابعة أرسل حملات إلى لبنان من أجل إحضار خشب الأرز الفاخر من أجل تلك الصناعة، كما أنه بعد عودته من حملة ضد الزنوج أتم نظاماً لحماية البلاد؛ وبنى العديد من القلاع في كل من الصعيد؛ والدلتا، وأطلق على كل واحدة منها اسم "حصن سنفرو"، علماً بأن "زوسر" كان قد أقام من قبل سوراً في منطقة ظنها ضعيفة الحماية تمتد من أسوان إلى "فيلة" بطول يصل إلى 12 كم لتأمين جانب من الحدود الجنوبية.

القائد العام للجيش

استمر الحال في الأسرة الرابعة؛ مثلما كان عليه سابقاً، وجمع القائد الأعلى للجيش إلى ألقابه لقب "قائد الأسطول"، فأصبح قائداً عاماً للجيش؛ أي "إمرا مشع"، ولما كانت تلك وظيفة رفيعة؛ فقد تولاها الأمير "مر إيب" ابن الملك "خوفو"، بما يعني أن مناصب الجيش وقيادته لم تكن تذهب بعيداً عن الأسرة المالكة، فإن لم يكن الملك هو القائد يكون ابنه هو البديل.

أما مدير "بيت الأسلحة" فكان يتم اختياره من علية القوم، يدل على ذلك أن الأمير "كا. إن. نيسوت".ka en nesut ابن "سنفرو" تقلد هذا المنصب، وكانت لكل وحدات الجنود إداراتها الخاصة المؤلفة من كتبة، وكان من بين مديريها المدعو "عا. خي" الذي حمل لقب "مدير كتبة الفرق"، وقد انحصرت مهمة بيت الأسلحة في تجهيز الجيش بمعداته؛ أما كتاب الفرق فقد كانوا يتبعون مصلحة إدارية، ويهتمون بالإدارة الحربية؛ ويقومون بتجنيد الأفراد.

ولم يختلف الحال في عصر الأسرة الخامسة، فقد كان الجيش مكوناً من مجندين يطلق على الواحد منهم اسم "الشاب الصالح"؛ وتتألف منهم وحدات هي "عبر"، وكل منها تحت إمرة ضابط يحمل لقب رئيس الوحدة " خرب. عبر"، ومن هذه الفرق كانت تتألف كل كتائب الجيش، وعلى رأسها قائد يحمل لقب قائد الجيش "عبر. مشع".

أما الحرس الخاص بالملك وبالقصر فكان يتمتع بأهمية خاصة، ولم يكن يلتحق به إلا الأشخاص الذين يدينون بكل الولاء للفرعون؛ وقد وضع الحرس تحت إمرة قائد فرق المجندين، وهي فرق متصلة بالفرعون نفسه، وفي الفترات التي جلس فيها على العرش من لم يستطع قيادة الجيش كان الوضع العالمي لمصر يتأثر بذلك؛ على الرغم من الجهود الدبلوماسية التي كان يبذلها أمثال هؤلاء الملوك البعيدين عن الجيش وأموره بشكل أو بآخر3.

وفي عصر الأسرة السادسة شمل الجيش بين صفوفه فيلقاً لجنود مرتزقة؛ عملوا تحت إمرة قائد الجيش العام، ولم يثبت حالهم على شكل معين في ذلك العصر أو في غيره، وهناك اعتقاد من جانب الباحث "دومينيك فالبيل" بأن مثل ذلك التغير الذي خضعت له تلك العناصر انعكس على تطور البلاد نفسها وهي تسعى نحو تحقيق التوازن في اقتصادها، وضمان استقلالها؛ أو استعادته عندما كانت تفقده.

كما أن الأمر لم يختلف عن سوابقه في الأشخاص الذين كانوا يشغلون وظيفة قائد الجيش؛ ومنهم من كان يحمل لقب "حامل الخاتم الملكي"، والمقرب من الإله العظيم؛ وكانوا يتحلون كذلك بألقاب فخرية منها لقب "الذي في قلب الملك" أو صديق الملك الحميم.

وكانت السهام والرماح التي استخدمها المصريون منذ فترات ما قبل التاريخ تصنع من حجر "الصوَّان"، ثم استخدمت إلى جانبها أسلحة مصنوعة من معدني "البرونز" و"النحاس" في عصر الدولة الوسطى، كما كان المصري تواقاً عند الاستيلاء على أسلحة خصومه على تطويرها وليس فقط استعمالها، وهناك من القرائن ما يؤكد ذلك؛ خصوصاً في عصر الدولة الحديثة؛ كما كان الحال بالنسبة للمركبات وغيرها4.

الجيش والسياسة في عصر الدولة القديمة

تشير الدلائل على أن أمور الحرب والسلام في تلك الفترة وغيرها؛ كانت من اختصاص الملوك، وكانت التدخلات العسكرية في الحياة السياسية تتم بأشكال متعددة، وكان نجاح أي عملية من هذه العمليات إذا تمت بطريقة سلمية تعد أسهل بكثير من عملية القيام بعمل عسكري يلزمه الكثير من الإعداد والتنفيذ.

ومن المعروف أن مصر لم تتعرض منذ بداية تاريخها وحتى نهاية الدولة القديمة لتهديد الغزاة فيما عدا إغارات البدو؛ والتى اكتفى المصري بالتعامل معها على أنها حوادث لا ترقى إلى مستوى الحرب؛ ولما تولى الملك "بيبي الأول" الحكم؛ رأى ضرورة وجود مثل قوة ثقيلة مرابطة في جنوب فلسطين.

وقد ترتبت على غزو الدلتا خلال عصر الانتقال الأول، وعلى الصراعات الداخلية والتي كان بعضها دموياً خصوصاً في الصعيد، إذ تأكدت الحاجة إلى ضرورة وجود جيش محترف في جميع أنحاء البلاد، إضافة إلى قوات داخلية أشبه بالميليشيات، وعلى الرغم من أن هذه الأوضاع المستجدة كان من الطبيعي أن تؤدي إلى وجود قيادات عسكرية نافذة، إلا أن الإدارة المركزية للدولة نجحت في الاحتفاظ بالسيطرة على الأوضاع؛ وقد أدت قوة تلك الإدارة إلى حيلولة فرض الجيش لسلطته على السلطة المدنية، وعلى الرغم من ذلك فقد تعززت مكانة وقوة الجيش؛ وأصبح ابتداء من ذلك الوقت على الأقل لاعباً أساسياً في الإدارة؛ ومن ثم كان لا بد دائماً أن يظل تحت نفوذ وإشراف الفرعون؛ أو أحد أبنائه.
 

حروب الدولة المصرية القديمة

تشير الدلائل على أن عصر الدولة القديمة لم يشهد حروباً كبرى لا على المستوى الخارجي أو الداخلى، اللهم إلا من البدو شرقاً وغرباً، وحالات العصيان في النوبة، وهذه كلها تعتبر حالات صغرى أو محدودة، واقتصر للتعامل معها بحملات تأديبية ومنها حملات في عصر الأسرة الثالثة، وأخرى جنوب فلسطين والنوبة.

وفي عصر الأسرة الرابعة أرسل الملك "سنفرو" حملة بحرية لموانئ سورية، وأخرى إلى سيناء لجلب المعادن، كما حارب جنوده أقواماً من الساميين ناحية الشرق.

وفي عهد كل من الملكين "أوسر. كا.ف" و"ساحو.رع" خرجت من مصر عدة حملات عسكرية وتجارية، وكان "أوسر.كا.ف" أول من أرسل حملة إلى بلاد "بونت"؛ والتي قد تكون "الحبشة" أو "اليمن" وشواطئ "عدن"، أما الملك "ساحو.رع" فقد أرسل حملات مشابهة إلى الشام؛ وفينيقيا؛ والنوبة؛ وأيضاً إلى بلاد "بونت"؛ وفي عهد الملك "بيبي" من الأسرة السادسة أرسلت حملات عسكرية ضد الآسيويين بقادة القائد "وني"؛ ولعل في النص التالي والذي دون فيه ما كان يقوم به من أعمال ما يشير ويوضح ذلك5:

"قام الملك بحملة تأديبية ضد الآسيويين، وقد جهز جلالته جيشاً مؤلفاً من عشرات الآلاف من الرجال من شتى مناطق مصر العليا، من جنوب "الفنتين"، وحتى "أطفيح" في الشمال، وقد وضع جلالته الجيش تحت إمرتي رغم وجود الأمراء به، ومعهم حاملو خاتم الملك في الوجه البحري، وأصحاب القلاع العظيمة، ومديرو القوافل، ومدير الكتبة، ورؤساء الجنود المرتزقة، وكان كل منهم على رأس فيلق من قلاع الوجهين القبلي والبحري؛ والضياع التي يحكمونها، وقد قدت هؤلاء الجنود بطريق جزيرة الشمال وبوابة "إمحوتب"، واستعرضت أمامي كل فرقة من هؤلاء الجند، وعاد الجيش بعد أن دمر بلاد الأعداء وأزال قلاعهم، لقد عاد الجيش سالماً ومعه أسرى كثيرون).

وتعد حملة "وني" هي الحملة الأولى من نوعها التي اشترك فيها كل من الجيش البري والأسطول، حيث تم استخدام الأسطول لنقل المؤن وبعض العتاد توفيراً للوقت والنفقات، حيث تفاجأ العدو بما لم يتوقعه، لاعتياده على قدوم الحملات البرية فقط؛ ومن ثم كان بإمكانه التعامل معها، أو على الأقل إقلاقها في الطريق، وربما أراد المصريون تفعيل واستغلال هذا السلاح المستحدث في الحرب تقليلاً للوقت والجهد والنفقات؛ حيث تستطيع السفن حمل الجنود والأسلحة فلا تنهكهم المسافات الطويلة من السير في الصحراء، وكانت الإرادة أيضاً أن يكتسب الجيش الخبرة؛ والتعود على هذا الأمر الجديد، وللتمويه على الأعداء لكسب المعركة بأقل التكاليف؛ وهو ما تحقق لـ"وني"؛ وذكره في نصه؛ وقد قام الملك "مرنرع"، بتعيين "وني" حاكماً على مصر العليا، ولُقب بحاكم الجنوب، وأثناء حكم الملك "بيبي الثاني" تم إرسال حملة إلى النوبة بقيادة "حر.خوف"، وقد دون تفاصيلها على جدران مقبرته..

ومما تقدم؛ نستطيع القول إن مصر في عهد الدولة القديمة كانت قد أصبحت مملكة ثابتة الأركان؛ وصارت نقطة ضوء في محيطها، ومن ثم كانت مطمعاً لكل الباحثين عن المأكل والمأوى، وكانت كذلك مطمعاً لدويلات قامت في ذلك الزمن البعيد، لكن المصري القديم كان يعلم مقدار بلده وثقلها قياساً إلى الآخرين، وعلى الرغم مما أنجزه وكان يكفيه أن يتباهى ويتفاخر به، إلا أنه رأى أن عليه ليس فقط المحافظة على ما هو قائم؛ بل الإضافة عليه، وهو ما يفسر حرصه على وجود القوة التي تحرس المنجز الحضاري.
 


هوامش: 1. أدرك المصري القديم أهمية القوة؛ وجعلها في مقدمة اهتماماته؛ ولكنه إلى جانب ذلك الحرص مال إلى تهذيبها فلم تكن باطشة مغرورة.┊2. اشتهر الملك سنفرو كذلك بحملته على بلاد النوبة، فعاد من هناك مظفراً ومعه سبعة آلاف من الأسرى، ومائتا ألف من رؤوس الأبقار والأغنام، كما استغل المناجم في وادي المغارة، وقام بتأديب البدو هناك، وصارت أعماله لتأمين الحدود الشرقية، وما قام به من تحصينات مثلاً يحتذى، وقد تم اعتباره رباً حامياً لمنطقة المغارة فيما بعد.┊3. لا يوجد في عصر الدولة القديمة من ينطبق عليه مثل هذا الفرض، ولكنه واضح في عصر الدولة الحديثة عند كل من حتشبسوت وأمنحوتب الثالث، وكذلك أمنحوتب الرابع "اخناتون".┊4. ويبدو أن موهبة التطوير والإضافة هي صفة ملازمة للمصري، فقد قام المصريون المحدثون بتطوير بعض الأسلحة والمعدات التي استعملوها في حروبهم الحديثة، ومنها أسلحة حاربوا بها في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م.┊5. انظر: د. سليم حسن، موسوعة مصر القديمة؛ الجزء الثاني.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها